​ التطبيع العربي مع سوريا وتأثيره في تحالفها مع إيران

1

 المصدر: النهار العربي سركيس قصارجيان

 محادثات اقتصادية بين الرئيس الإيراني ورئيس الوزراء السوري في دمشق  (أ ف ب)

قبل أيام أنهى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي زيارته لسوريا، كأول رئيس إيراني يزور حليف طهران الأبرز في المنطقة وعلى مستوى العالم منذ بدء الحرب السورية، في ظاهرة لا تتوافق مع حجم الدعم الذي قدّمته إيران لدمشق طوال السنوات الماضية.
 تناول الإعلام العربي والعالمي على حدّ سواء، العلاقات السورية-الإيرانية، طوال السنوات الماضية، بعناوين ومضامين تقليدية، إما بالحديث عن التحالف الاستراتيجي بين البلدين من دون الخوض في تفاصيل هذه العلاقة أو محاولة شرحها بصيغ وأدوات تخدم خطابه السياسي في أغلب الأحيان.
العلاقات السورية-الإيرانيةعاصرت دمشق طوال سنوات الأزمة الثلاث عشرة، ثلاثة رؤساء إيرانيين من التيارين السائدين في البلاد، اختلفت رؤاهم للحرب السورية وحماستهم لدعم حليفهم العربي الوحيد، ولم تطأ أقدام كل من المتشدد محمود أحمدي نجاد والإصلاحي حسن روحاني أرض دمشق خلال الحرب، فيما جاءت زيارة رئيسي المحافظ في منتصف مدّة ولايته الرئاسية. بالنظر إلى الديناميات الداخلية لإيران، فإن حقيقة قرب دمشق من تيار الحرس الثوري الإيراني، والذي يمثل المرشد الأعلى للثورة الإسلامية رأس هرمه، قد تفسّر بعض القضايا الخاصة بالمواقف الرسمية الإيرانية والسياسات الحكومية، بخاصة في الجزء المتعلّق بالملفات الاقتصادية. في عام 2019، وبعيد زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إيران منذ اندلاع الأزمة السورية، فجّر وزير الخارجية الإيراني في حينه، محمد جواد ظريف، قنبلة دبلوماسية، بالإعلان عن استقالته احتجاجاً على غيابه عن اللقاء الذي جمع بين المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي والرئيس السوري في طهران، معتبراً في حواره مع جريدة “نتخاب” الإيرانية الإصلاحية أنه “لم يعد هناك أدنى احترام لوجوده في منصب وزير الخارجية”. كما يمكن ادراج تصريحات النائب وعضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، حشمت الله فلاحت بيشة، في عام 2020، والداعية إلى استعادة إيران أموال دعمها من سوريا والتي تبلغ ما بين 20 إلى 30 مليار دولار، ضمن سياق التجاذبات السياسية الداخلية أيضاً. في المقابل، ورغم كون رجل الدين ورئيس السلطة القضائية سابقاً، إبراهيم رئيسي، محسوباً على التيار المحافظ، إلا أن وصوله إلى الحكم في انتخابات شهدت أدنى نسبة مشاركة عبر تاريخ البلاد، ومواجهته العديد من المشاكل الداخلية، يفسّران بعضاً من مواقفه الأكثر ميلاً للسياسات التقليدية الحكومية، منه لأسلوب ونهج الحرس الثوري، في التعاطي مع الملف السوري. ففي عهد رئيسي، وبحسب “وول ستريت جورنال” قررت إيران الحد من تزويد سوريا بالنفط الرخيص، مطالبة دمشق بدفع قيمة تزويدها بشحنات نفط إضافية. ورغم النفي الإيراني للمعلومات المذكورة، إلا أن أزمة المشتقات النفظية المتفاقمة في سوريا، قد تزيد من احتمالات صحة التقرير الصحافي.
زيارة متأخرة للحليف الأولجاءت زيارة رئيسي الأولى لسوريا متأخرة، بعد ثلاث سنوات من زيارة حليف دمشق الآخر، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسنتين من تسلّمه منصبه في رئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ويرجع الأكاديمي والباحث السوري الدكتور عقيل محفوض في تصريح إلى “النهار العربي” تأخر زيارة رئيسي سوريا إلى “ظروف الحرب وتداخلاتها أولاً، لكون المشهد السوري خلال الأعوام العشرة الماضية كان ذا طابع عسكري، وكان الوجود الإيراني في سوريا له طابع عسكري في المقام الأول، ثم أصبح عسكرياً-سياسياً عندما دخلت إيران في ديناميات آستانا واتفاقات خفض التصعيد والتفاهمات مع تركيا وروسيا”. ويضيف: “ترى إيران اليوم وجود تفاهمات في الإقليم، ولو أن الزيارة تمت قبل التفاهم الإيراني-السعودي لكانت قد اتّخذت معنى مختلفاً، ولن تحمل البعد الدلالي المتعلّق بطي المشهد السوري صفحات سابقة وتدشينه صفحات جديدة”. ويشرح محفوض بأن “الحضور الإيراني في سوريا لم تكن تنقصه القوة، في ظل وجود قائد فيلق القدس قاسم سليماني بالبعد الأمني والاستخباري، وهو ما كان مطلوباً إيرانياً وسورياً في المرحلة السابقة، فيما أن المطلوب اليوم هو الوجود السياسي أكثر، بعد تراجع حدة المواجهة العسكرية خلال السنوات الأربع الماضية، لذا فقد باتت السياسة مطلوبة بالتوازي مع الانفتاح السوري-العربي”.
الموازنة السورية بين طهران وموسكوورغم تأخر دمشق عن كل من طهران وموسكو عسكرياً واقتصادياً، إلّا أنها نجحت في اتباع سياسات أدّت إلى خلق توازن مستقر بين كل من إيران وروسيا، وذلك عبر موازنة النفوذ الروسي بالإيراني والعكس بالعكس، وفق متطلّبات كل مرحلة من الأزمة السورية الحافلة بالتعرّجات.وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فقد ضبطت دمشق النفوذ الإيراني المتصاعد في جنوب البلاد، عبر تسهيل المبادرة الروسية الخاصة بدرعا والتي نصّت على إبعاد إيران عن الحدود لمسافة 60كم، وبالمثل، ومع تزايد الضغوط الروسية من أجل منح الرئيس التركي أردوغان بطاقة التطبيع الانتخابية، حرصت دمشق على اشراك طهران في المسار الذي انطلق ثلاثياً بين سوريا وتركيا بوساطة روسية، قبل انضمام إيران إليه. في المقارنة بين كلا الحليفين، فإن الدعم الإيراني لدمشق، كان الأكبر والأكثر سخاء بلا شك، وشكّل أحد أبرز أسباب نجاح دمشق في تثبيت سيطرتها الجغرافية بالإضافة إلى استمرارها السياسي، وإن كان الدعم الروسي في المحافل الدولية وأروقة الدبلوماسية العالمية، بالإضافة إلى التفاهمات الثنائية العربية والإقليمية والدولية، قد جاء ليسد النقص في إمكانات الحليف الإيراني، فإن الانخراط العسكري لإيران (والمجموعات المسلّحة التابعة لها)، والدعم الاقتصادي، كانا من أهم أسباب صمود دمشق أمام سيناريوات “الربيع العربي” والضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية عليها. ويرى محفوض أنه “كان واضحاً في تصريحات الرئيس الإيراني قبل قدومه الحديث عن الاقتصاد بشكل أساسي وإعادة الإعمار، والإشارة إلى دخول العلاقات الإيرانية العربية مرحلة جديدة بعد التفاهم الإيراني-السعودي، وهذا ما انعكس تراجعا في حدة تعامل الإعلام العربي مع حدث الزيارة”.
توافق لا تطابقعلى مدى سنوات، ركّز الإعلام العربي والغربي على الكثير من القضايا التي حظيت بتطابق الرؤى بين دمشق وطهران، مع تجنّب – عن عمد أو قلة خبرة ربّما – الاختلافات بين الطرفين سواء لجهة لغة الخطاب أم حتى على مستوى الأداء، لعدم التشويش على صورة “التبعية” و”العلاقة اللاندّية” التي كانت في وقت من الأوقات مادة دسمة لانتقاد تعامل دمشق مع “أشقائها العرب”. إلى جانب كل ما تم ذكره عن التوافق السوري-الإيراني، وصولاً إلى خط ايصال الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر سوريا، الذي أشار إليه الرئيس الأسد في مقابلة تلفزيونية كأحد احتمالات دوافع الحرب على سوريا، فقد بقي الاختلاف في عدم ترداد دمشق شعار “الموت لأميركا” المحبب إيرانياً في الخطاب السياسي، ومقاومتها كل محاولات مواءمتها مع الخط القطري-التركي المار عبر طهران. كما أبدت سوريا، التي لا تزال متمسّكة بشعار الوطن الواحد من المحيط إلى الخليج العربي لا الفارسي، وتسميات الأهواز العربية والجزر الإماراتية، الحرص على فرض معادلتها الخاصة بشأن السلم والحرب مع إسرائيل، مع البقاء في “محور المقاومة” بهويّتها السيادية كدولة وطنية بين الدولة الإيرانية والأحزاب والتيارات السياسية المدرجة في المحور ذاته، وهو ما قد يفسّر التعامل السوري مع الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة في السنوات الأخيرة. وفي ملفّات السياسة الخارجية، افترقت كل من دمشق وطهران في الموقف من الإطاحة بالقذافي في ليبيا، ووصول مرسي في مصر، وحرب الحوثي في اليمن، والإشادة بمشعل وهنية في غزة، وصولاً إلى دعم أردوغان في تركيا. وكما في السياسة، فقد بقي التأثير الإيراني في الداخل السوري محدوداً، بل متراجعاً جدّاً مقارنة بحجم الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي. فقد غابت المنتجات الإيرانية عن الأسواق السورية إلا ما ندر، رغم   قدرتها على تجاوز  تعقيدات العقوبات والحسابات السياسية، مقابل إقبال السوريين على المنتج التركي، لولا الضغوط الحكومية على عملية استيرادها. بالإضافة إلى ذلك، فإن حجم التبادل السياحي، ما عدا السياحة الدينية، يكاد لا يذكر، في ظل قلة السوريين الراغبين في زيارة إيران، على عكس دبي أو حتى إسطنبول مثلاً، مقابل تفضيل الإيرانيين للسياحة البحرية التركية على سواحل اللاذقية وطرطوس السورية. وفي كل الأحوال، فإن الدبلوماسية الإيرانية تبدو غير ناجحة في تحويل نفوذها السياسي إلى مكاسب اقتصادية، وهو ما يمكن ملاحظته في الواقع العراقي، حيث الحضور والتأثير الإيراني القويين، لا يتناسبان مع حجم التبادل التجاري القائم في جزء كبير منه على امدادات الغاز والكهرباء إلى العراق الذي يستورد معظم حاجته من السلع والبضائع من تركيا المجاوزة لإيران في ترتيب لائحة وجهات الاستيراد.التطبيع السوري-العربي وإيرانتتّفق معظم الدول العربية، وبخاصة القريبة من الجغرافيا السورية، على ضرورة إعادة العلاقات السورية-العربية إلى طبيعتها. ورغم بعض الاختلافات في الدوافع، فإن الاعتقاد السائد عربياً بأن احتضان دمشق يؤدي إلى تراجع النفوذ الإيراني في سوريا، يعتبر اقراراً ضمنياً بأن سياسات الضغط والإقصاء العربية عليها بدءاً من عام 2005، هو أحد أبرز أسباب تزايد الدور الإيراني في المنطقة خلافاً لهدفها المعلن عربياً. في المقابل، يعتقد محفوض بأن “مراجعة سوريا علاقتها مع إيران لم تكن شرطاً أساسياً للانفتاح على العالم العربي، وأن سوريا ليست بصدد مناقشتها في العمق مع الدول العربية”، لكنه يرى في الوقت ذاته أن “هذا التحالف أيضاً، مطلوبة “صيانته” اليوم وإعادة النظر فيه بمعنى أن يكون هناك تكييف لنمط الخطاب السياسي والسياسات مع اللحظة الاقليمية الجديدة”. ويؤكد محفوض أنه “مطلوب من الجميع اليوم أن يقوموا بعملية إعادة قراءة بما في ذلك سوريا وإيران وأيضاً السعودية وكل الأطراف الأخرى، اذا كانوا يريدون بالفعل تدشين مرحلة جديدة من التفاهمات والسياسات في الإقليم”. في النهاية، فإن التوافق السعودي-الإيراني، سيريح دمشق لجهة إخراجها من دائرة التنافس الخليجي-الإيراني، كما أن الانفتاح العربي عليها سيمنحها مساحة أكبر للمناورة السياسية مع جارتها الشمالية، ويكسبها قدرة أكبر في تنويع خياراتها، بعد أن دفعتها السياسات العربية السابقة، نحو أنقرة “السنّية” لموازنة علاقتها بطهران “الشيعية”. ومع التحوّلات الاجتماعية التي تشهدها دول مثل السعودية والإمارات اليوم، فإن العمق العربي، والخليجي منه بشكل خاص، يقوّي من حظوظ التوافق العربي-السوري، على أرضية تطابق البعدين القومي والديني، غير المتوفرين في الخيارين التركي والإيراني.

التعليقات معطلة.