المصدر: النهار العربي فلسطين- مرال قطينة
نصب تذكاري لشيرين أبو عاقلة في رام الله
A+A-لم يكن يوم 1 أيار (مايو) عام 2022، يوماً عادياً في ما تبقى من حياة الزميلة شيرين أبو عاقلة أو في حياة أهلها وأصدقائها وزملائها، ولا حتى في حياة الفلسطيني العادي الذي عرفها وكبر على صوتها وتقاريرها التي كانت تعدها لقناة “الجزيرة” القطرية. في ذلك اليوم لفظت شيرين أنفاسها الأخيرة بعدما أطلق قناص إسرائيلي رصاصة أصابتها مباشرة في الرأس وأنهت حياتها في ثوان. اغتالها الجيش الإسرائيلي الذي اقتحم مخيم جنين بدم بارد وانسحب مسرعاً من المكان، ليترك للفلسطينين في ذلك اليوم جرحاً نازفاً آخر يضاف إلى جراحهم المستمرة منذ 75 عاماً، ولربما تختصر قصة شيرين قضية وطن ومعاناة شعب. لم تكن شيرين مجرد رقم آخر يضاف إلى أعداد الشهداء الذين قتلتهم إسرائيل منذ احتلالها فلسطين، ببساطة لأن الفلسطينيين لا يودعون مثواهم الأخير أو يدفنون أرقاماً، بل بشر من لحم ودم لهم أسماء وحياة وقصص وحكايات لا تنتهي، وشيرين هي إحدى تلك القصص التي لم تنته ولن تنتهي. في ذكرى استشهادها الأولى كتب الكثير من زملاء شيرين ومنهم من لم يتوقف عن الكتابة منذ اغتيالها، رووا ذكرياتهم معها، بخاصة على الصعيد المهني، فتاريخ حياتهم العملية المشتركة امتد لسنوات عاصروا خلالها الكثير من الحوادث والمواقف، ربما من أشد تلك الكلمات حزناً وحسرة ويعكس عمق العلاقة وفداحة الخسارة تلك التي قالها المصور مجدي بنورة الذي أمضى 25 من سنوات عمله برفقتها، وكان معها في ذلك الصباح. عندما التقيته قبل أشهر في مكاتب “الجزيرة” في رام الله أخبرني بكلماته البسيطة: “كنت عايش مع شيرين أكثر مما كنت عايش في داري، ولا 100 جلسة علاج نفسي ممكن تمحي اللحظات القاسية والمؤلمة اللي شفناها يوم ما استشهدت شيرين، كنت اتمنى انه يكون هذا حلم لانه ما فارقتنا ولا يوم واحد منذ استشهادها”.
هنا استشهدت شيرين. مقابل مقر “الجزيرة” في رام الله، وضعت بلدية المدينة لوحة كبيرة توضح أن الشارع أصبح يحمل اسم الشهيدة شيرين أبو عاقلة وتعريفاً بها، كما حولت القناة مكتبها إلى متحف صغير يحتفظ بداخله بأوراقها وأقلامها وصورها وبعض مقتنياتها، إضافة إلى كثير من الشموع المضاءة على الدوام. وداع تاريخي…أدرك العالم يوم جنازة شيرين أنها تحولت إلى رمز فلسطيني، وشكلت حالة لا يمكن أن تُمحى من ذاكرة الفلسطينيين لأجيال بعيدة، فتلك الحشود التي ودعت شيرين في نعشها وهي في طريقها من جنين إلى رام الله ونثرت الورود عليها لم تأت من فراغ، ولم تكن مشاعرها مفتعلة أو مباغتة، بل كانت صادقة وليدة الحدث الجلل الذي شهدته على الهواء مباشرة، استشهدت شيرين وهي بطلة تقوم بأداء واجبها على أكمل وجه، ترتدي خوذتها والسترة الواقية التي تشير إلى أنها صحافية، بشجاعتها المعهودة ذهبت إلى جنين التي سبق لها وغطت حصارها واجتياحها ومعركتها التي استمرت أياماً وليالي طوالاً خلال الانتفاضة الثانية، كما غطت مئات القصص والحوادث في مناطق المواجهات المختلفة. لكن ذلك لم يرق لمن قتلها، فحاول قتلها مرة أخرى وهي مسجاة في نعشها، بعدما وصلت جموع غفيرة من الفلسطينيين الذين حضروا من كل حدب وصوب إلى ساحة المستشفى الفرنسي، واجتازوا الحواجز والعراقيل التي وضعتها الشرطة الإسرائيلية في طريقهم وتسلقوا أسوار المستشفى لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمانها ولتوديعها، لم يعجب ذلك لا الحكومة ولا الشرطة الإسرائيلية التي كان رد فعلها وحشياً قاسياً. اعتدى الجنود الإسرائيليون على نعش شيرين ووجد الفلسطينينون أنفسهم وسط معركة للدفاع عن نعشها وحفظ كرامتها. لم ينته الأمر عند ذلك، فقد أغلقت الشرطة الإسرائيلية الشوارع ووضعت الحواجز في محيط البلدة القديمة، ومنعت المشيعين من الدخول من باب الخليل للوصول إلى الكنيسة، وصادرت الأعلام الفلسطينية التي كانت تخرج بكميات أكبر كلما صودر أو انتُزع علم بالقوة، ووجدت الشرطة نفسها في مأزق أمام الحشود التي تجمعت في ميدان عمر بن الخطاب في مشهد لم يسبق أن شهدته القدس منذ احتلالها عام 1967، فاضطرت عناصر الشرطة الإسرائيلية التي انتشرت في المكان مرغمة إلى التراجع أمام إرادة الحاضرين، وتركت المكان للمشيعين ليقوم الفلسطينيون بتشييع شهيدتهم كما يليق بها، تحدثت صديقات شيرين عن أنهن لم يتخيلن هذا المشهد من قبل، وأنهن اضطررن وسط هذه الحشود والجموع إلى الركض والتدافع حتى وصلن إلى القبر.
الصورة الأخيرة لرفيقات الروح تواصلت مع صديقتي شيرين المقربتين آلين حنا التي تعيش في واشنطن في الولايات المتحدة، ورولا المظفر التي تعيش في القدس، واللتين أخبرتاني أن صداقتهما، بل أخوتهما، مع شيرين تمتد إلى سنوات طوال من المدرسة إلى الجامعة. بعد عام من الفراق الصادم وغير المتوقع، تشعر أن حزنهما على فراق شيرين وسع المدى وأن الوجع أشد عمقاً مما يظهر، وأن الكلمات لا تكفي لوصفه، وقد امتد إلى كل المحيطين بهما، ورغم الجرح الداخلي النازف حاولتا استذكار اللقاءات الأخيرة واقتناص الذكريات الجميلة التي ستبقى محفورة في ذاكرتهما إلى الأبد. تقول آلين إنها وشيرين ورولا شكلن ثلاثية مميزة، صديقات وأكثر من أخوات، ورغم انشغالات الحياة والبعد، لم ينقطع الود بينهن أبداً، حتى أن شيرين كانت إشبينة آلين في يوم زفافها. علمت آلين باستشهاد صديقة عمرها من كم الاتصالات والرسائل التي وصلتها منتصف تلك الليلة بتوقيت واشنطن، وعادت مرة أخرى إلى القدس لوداعها، فقد حضرت خلال شهر نيسان (أبريل) للاحتفال بعيد الفصح من أجل حضور احتفالات سبت النور، وكانت هذه المرة الأولى لي منذ 25 عاماً، “كانت شيرين هي من شجعتني وغيرت مواعيد إجازتها للتوافق مع وصولي وقضينا أوقاتاً جميلة جداً”. آخر مرة رأيت فيها شيرين كانت يوم سبت النور. كانت تهم وشقيقها طوني بمغادرة مقبرة جبل صهيون بعدما أخذا النور إلى مدافن والديهما، وأنا وشقيقي آلكس كنا في الطريق لإيصال النور إلى قبر والدتي، هذا أكثر ما يحزنني ويترك في قلبي غصة، لأن فراق شيرين يوم سبت النور يؤلمني، تقول آلين. كانت صديقة وفية مخلصة وطيبة ومتواضعة، نظيفة جداً من الداخل، لا تنافق ولا تكذب، أفتقدها جداً، كنا نحن الثلاث نتشارك همومنا وأسرارنا التي لا يعرفها أحد، كانت تحثني دائماً على الوجود في القدس متى استطعت “خلي اجرك في البلد”، كانت تحب الأطفال، همها محصور بالبلد ومساعدة أصحاب الاحتياجات الخاصة، كانت تكره الفوضى وقلة النظام.وختمت آلين بأنها تتمنى لو أن كل ذلك لم يحدث أبداً، ولم تستشهد شيرين، وبأن أكثر ما يؤرقها هو العودة إلى القدس في ظل غياب شيرين والفراغ الكبير الذي تركته، “كلنا نتمنى العدالة لشيرين بعد وصول الملف إلى محكمة الجنايات الدولية والتحقيق الجديد المستقل الذي بدأته الإدارة الأميركية، قضية شيرين قوية لأنها امراة وتحمل جواز سفر أميركياً ومسيحية.. لكن أياً من ذلك لم يؤد بشكل أو بآخر إلى محاسبة من قتلها ومن أمر بقتلها”.
أما رولا فقد سكنت مع شيرين طيلة فترة دراستهما في جامعة اليرموك في الأردن وحتى العودة إلى القدس، وتقول إنه “لم يخطر في بالي أبداً أن يصل الخوف والقلق على شيرين أثناء تأدية مهامها الصحافية إلى حد التفكير بالموت، رغم أن الخطر موجود دائماً، حتى عندما استشهدت بقيت في حالة إنكار لبرهة من الزمن، وكنت أصرخ وأبكي وأردد أنها أصيبت، في صباح ذلك اليوم كنت أحضّر نفسي للذهاب إلى عملي، يومها نسيت أن أحوّل هاتفي من حالة الصمت إلى الرنين، عندما انتهيت من تهجيز نفسي نظرت إلى هاتفي ووجدت كماً هائلاً من الرسائل والمكالمات الهاتفية، استغربت كثيراً لأن الوقت كان مبكراً جداً، كانت المكالمات الهاتفية واضحة تعبر عن حجم المأساة، لم أتوقع ذلك أبداً، شيرين كانت صحافية حذرة جداً بطبعها، وكانت تقف دائماً في أماكن بعيدة من المواجهات”. رولا لا تستطيع رؤية صورة شيرين وهي مطروحة أرضاً، ولا سماع الصوت الذي ينادي “شيرين … إسعاف”، تتنهد رولا خلال تذكرها ذلك اليوم وتقول: “كان الاستهداف واضحاً، فلم تكن هناك لا مواجهات ولا مسلحون ولا اشتباك، كما أثبتت كل التحقيقات التي جرت حتى اليوم. لم أستوعب فقدانها ذلك اليوم وحتى اليوم، هذا الفراق صعب جداً علينا، لم تفارقني يوماً واحداً طيلة هذا العام، حتى الناس هنا يفتقدون شيرين وتقاريرها، يذكرونها ويتحسرون عليها، خلال الحوادث والمواجهات وعندما يشاهدون التغطيات الإعلامية، كم التكريم والجوائز التي أطلقت على اسمها وأخيراً وضع الحجر الأساس لمتحف يحمل اسمها. كل ذلك يعكس مدى التقدير لها ولمسيرتها ومهنيتها وإنسانيتها”.