في سياق نقد استمرار هيمنة الاستشراق والنموذج المسيطر على الدراسات
المؤرخ الأميركي بيتر غران في القاهرة (اندبندنت عربية)
يضع المؤرخ الأميركي بيتر غران Peter Gran، مصر، في بؤرة الاهتمام الغربي؛ الأنغلو – أميركي تحديداً، باعتبارها معادلاً لـ”الاستبداد الشرقي”، في الماضي السحيق وفي العصر الحديث، وفي الوقت الراهن على حد السواء، ملاحظاً أن هناك إصراراً على إبقاء هذا التصور على حاله في الدراسات الاستشراقية، قبل الكولونيالية وبعدها. فهو “وثيق الصلة بتصورنا عن أنفسنا كغربيين، والتخلي عنه يعني بدء انهيار الصورة الذهنية للغرب كمجتمع أخلاقي”، وفقاً لاعتقاد يستند إلى ما ورد في سِفر الخروج في الكتاب المقدس، مع مراعاة أن له كذلك خلفيات سياسية واقتصادية.
يمكن اعتبار ما سبق خلاصة كتب غرانA Persistence of Orientalism: Anglo American Historians Egypt، الصادر عن دار نشر جامعة سيراكيوز في نيويورك، والذي صدرت قبل أيام ترجمته إلى العربية تحت عنوان “الاستشراق: هيمنة مستمرة… المؤرخون الأنغلو – أميركيون ومصر الحديثة” (المركز القومي للترجمة، القاهرة، ترجمة سحر توفيق). وهذا الكتاب يعد الحلقة الأحدث في سلسلة كتب ابيتر غران (1941) التي تستهدف نقد المنهج التقليدي للاستشراق، ونقد مركزية الغرب المتكئة على المنهج ذاته.
الكتاب بترجمته العربية (المركز القومي)
ويتحدث بيتر غران اللغة العربية بطلاقة ملحوظة، وقد سبق له الإقامة والعمل في مصر بين 1968 و1973. وهو أستاذ التاريخ المصري الحديث في جامعة تمبل الأميركية، وارتبط كثيرٌ من مؤلفاته بتاريخ الثقافة العربية والإسلامية، ومن أهمها “الجذور الإسلامية للرأسمالية: مصر 1760- 1840″، وهو الكتاب الذي أحدث جدالاً فكرياً عند صدوره في منتصف الثمانينيات، وقام بترجمته وقتذاك المؤرخ المصري الراحل رءوف عباس حامد. ولغران رؤيته المختلفة في كتابة التاريخ، بعيداً عن منهج الاستشراق المستخدم لتفسير تاريخ العالم. وفي السنوات الأخيرة زار غران مصر غير مرة، وآخرها كانت بغرض الاحتفال بصدور ترجمة كتاب “الاستشراق هيمنة مستمرة”، في “بيت السناري” في القاهرة، وهو مركز ثقافي تابع لمكتبة الإسكندرية، وكان ذات يوم مقراً لعلماء الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801)، وفي مقر المركز القومي المصري للترجمة الذي سبق أن أصدر لسحر توفيق ترجمتها لكتاب غران “صعود أهل النفوذ: رؤية جديدة لتاريخ العالم الحديث”، وعنوانه الأصلي هوAnew View of Modern World History:The Rise of the Rich.
شرح تاريخي
الاستمراية التي يؤكدها عنوان كتاب غران يمكن موزاتها بأنّ في العام 2001 أنشأت الإدارة الأميركية – أو على الأقل باركت إنشاء – جمعية لدراسات الشرق الأوسط، تقوم على مبدأ لطالما عملت بريطانيا وفقاً له طوال فترة احتلالها مصر (1882- 1952)، وهو “فرِقْ تسُد”، وليس على البحث العلمي، وقد كانت البداية مع كتاب المندوب السامي االبريطاني في مصر اللورد كرومر “مصر الحديثة” الصادر عام 1908.
الكتاب بالأصل الأميركي (أمازون)
في هذا الكتاب يقدم غران شرحاً لتاريخ الدراسات الأنغلو – أميركية لمصر الحديثة استناداً إلى قراءة للأعمال البحثية التي كتبت خلال القرن الماضي. ويحاول وضع نظرة عامة تركز على تاريخ النمط المنهجي السائد في الدراسات التي تتناول مصر منذ عصر التخصص الأكاديمي الجامعي حتى الآن، أي تقريباً منذ سنوات العقد 1890 فصاعداً. وهو يهدف من ذلك إلى أمور عدة، أولاً: أن يقدم كتاباً مفيداً في مجاله، وثانياً: أن يكون كتاباً يجذب الباحثين في الميادين الأخرى إلى دراسة بعض القضايا الرئيسة التي يمكن أن تثار هنا. ويمكن القول إن غران يخالف السائد في أذهان كثير من الباحثين بخصوص بداية دخول مصر العصر الحديث، بل إنه يذهب إلى ما يصدم من يرون أن الاحتلال التركي لمصر الذي امتد نحو أربعة قرون كان أهم أسباب تأخر التحاقها بركب الحداثة.
الرحَّالة والتجار
وفي هذا السياق لاحظ غران أن، قبل صدور كتاب “وصف مصر” (1809- 1822) لعلماء الحملة الفرنسية التي يرى البعض أنها وضعت بذور الحداثة في أرض مصر، كان الرحَّالة والتجار الأوروبيون يقومون في ما يبدو بتمهيد الأرضية لتطبيق مصطلح “الاستبداد الشرقي” على مصر. فلم يعد أحد منهم يكتب عن “القاهرة العظيمة” بعدما أصبحت عاصمة مصر أحد مراكز “الحكم التركي الفاسد”. وبوصف “الحكم الفاسد” كانوا يقصدون أن مصر لم تعد دولة مركزية منضبطة، من النوع الذي يمكن أن يرحب بالتجار الأجانب. والواقع أنّ في أوائل العصر الحديث كانت مصر دولة مركزية بالمعنى الرسمي فقط. ولم يكن من المتوقع على الإطلاق أن تخضع جِرجا عاصمة الصعيد لحكم القاهرة، على الأقل حتى قيام علي بك الكبير بغزوها في سنوات العقد 1760. وفضلاً عن ذلك كانت الصحراء الغربية وشبه جزيرة سيناء تحظيان بدرجة كبيرة من الاستقلالية عن القاهرة، وكذلك كانت المناطق التي يحكمها الأعيان أو شيوخ القبائل في كثير من أنحاء الريف المصري.
الكينونة الغربية
يبدو أن الدراسات الأنغلو – أميركية لمصر الحديثة ظهرت كحقل فرعي لدراسات السياسة الكولونيالية، والدراسات الدينية وعلم الآثار، ثم في وقت لاحق، دراسات الشرق الأوسط التي انطلق منها بعض النقد المتضامن مع نساء بلدان المنطقة، والذي يخالف التقسيم الثنائي، شرق / غرب، الذي تتسم به صيغة الاستشراق المغرقة في الذكورية. ومع صعود قوة الصين والهند وغيرهما من الدول الآسيوية، أصبح واضحاً أن آسيا أصبحت المركز العالمي للإنتاج وأن الفكرة القديمة بأن الغرب مقابل الشرق، قد منيت بالهزيمة. لم يعد الغرب بالضرورة هو أكثر الدول تقدماً، أو الأكثر توجهاً واستعداداً للمستقبل. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي كان هناك فاصل من الانتشاء بـ “نهاية العالم”، حيث بدا أن الغرب قد استعاد ذاته الأسطورية، وأن العولمة هي فقط الفصل الأخير في صعوده، لكن سرعان ما انتهى هذا الفاصل بالتيقن من أن روسيا ستظل كما كانت دائماً منافساً قوياً.
يحاول غران كذلك الإجابة على سؤال: لماذا لا يزال نموذج “الاستبداد الشرقي” متبعاً في دراسة مصر؟ ويقدم ما يراه من دلائل على دور مصر في تعيين هوية الغرب وتراثه. وفي هذا الصدد يؤكد أنّ بعد المذابح التي طاولت السكان الأصليين وترسيخ استعباد الأفارقة، ثم بحلول أوائل القرن العشرين، أصبح الأنغلو أميركيون يعتقدون أنهم أرقى عرقياً وثقافياً بفضل الكينونة الغربية.
ويخلص غران إلى أن الكتابات الكولونيالية البريطانية كانت إطاراً لكثير مما كتب خلال القرن الماضي، من مادة قدمت مصر كنمط للاستبداد الشرقي، معتبراً أن هذا النمط مستمر في الدراسات المعاصرة؛ باعتباره الرأي الصحيح. ويرى المؤلف كذلك أن أصول هذا النمط كانت موجودة قبل العصر الكولونيالي المعروف جيداً للقرن التاسع عشر، بما أدى إلى الحاجة إلى فرضية أخرى تقول بأن عوامل ثقافية طويلة المدى مرتبطة بالتراث والهوية – وليست عوامل قصيرة المدى ذات طبيعة كولونيالية أو ما بعد كولونيالية – كانت تساهم أيضاً في تشبث هذا النمط بالبقاء والاستمرارية.
التراتبية الطبقية
هذا النمط ليس مجرد سياق أنغلو – أميركي، بل إن له جذوره في مصر أيضاً. ويوضح غران في هذا السياق أن العائلة المالكة المصرية كانت، ومعها بعض شرائح طبقة كبار ملاك الأراضي (أي الجماعات ذات الروابط القوية بالمملكة المتحدة)، من أقوى أنصار نموذج “الاستبداد الشرقي”، ربما كطريقة لحفظ التراتبية الطبقية في مصر. وكان الكتّاب في موضوع الحداثة المصرية – يقول غران – يميلون للتركيز على النخبة الذكورية، ويضعون ثقافتها في تباين مع ثقافة الفلاحين، والقبائل وفقراء الحضر. ويضيف أن بالرغم من كون هذا لا يزال مستمراً، فقد تأثرت بعض الأعمال الأخيرة حول الحداثة بالنظرية الاجتماعية الجديدة التي تطمس الفرق بين النخبة والعامة. وهنا يعود غران إلى الباحثة الأميركية من أصل فلسطيني ليلى أبو لغد في تناولها قبائل أولاد علي، واعتبارها أن الاستبداد الشرقي أمر مسلم به. لكن في تحليل الاحتجاج النسوي المتجسد في الشعر القبلي انتهت برفض الأفكار المتلقاة حول تراتبية النوع التي ارتبطت عادة بهذا النموذج، ولاحظت من ثم أن هؤلاء النسوة لا زلن يحتفظن ببعض النفوذ في مسائل الزواج والسياسة والتحالفات.
يقول غران: “ما كان لهذا الكتاب أن يُكتَب من دون دعم المؤرخة المصرية نيللي حنا لعملي ومن دون الأبحاث التي أجرتها هي نفسها على مدى السنوات الماضية”. ويضيف أن هذا الكتاب هو ثمرة سنوات عديدة من التفكير في النموذج الذي يهيمن على دراسة تاريخ مصر الحديثة، وقد انطلق من مقال له عن مشكلات المركزية الأوروبية وتأثيرها على الدراسات الخاصة بمصر الحديثة، كما كانت المحادثات مع تيموثي ميتشل، وهو أحد تلامذة إدوارد سعيد، مفيدة بشأن عمله حول تلك الدراسات.