المصدر: “النهار العربي”جورج عيسى
قصف مدفعيّ أوكرانيّ على مواقع روسيّة في خاركيف، 2022 (أ ب)
قلّة تحظى باحتفال صاخب إعلامياً – وعالمياً – بمناسبة عيد ميلادها. مكان هنري كيسنجر محفوظ لدى هذه القلّة. لم يتلقَّ الرجل هديّة الراحة والهدوء في عيد ميلاده المئة. على الأرجح، هو لا يحبّ هذه الهدايا. تَسابق الإعلام للحصول على مقابلات تتناول نظرة الرجل إلى القضايا الملحّة. لا يُعرف الدبلوماسيّ المخضرم بالبخل في هذا المجال.
تعدّ الصين أبرز مواضيع الساعة بالنسبة إلى صنّاع القرار الأميركيّين. هو الموضوع الوحيد الذي يحظى بتوافق عامّ بين الحزبين… ربّما حتى قبل التوافق على قضيّة سقف الديون. تحتلّ الصين أعلى قائمة “التهديدات” بالنسبة إلى واشنطن. لهذا السبب، بإمكان مهندس أو منسّق الانفتاح على بكين في السبعينات أن يحظى بآذان صاغية لدى راسمي السياسات. ثمّة جوانب عدّة في العلاقة الثنائيّة بين الولايات المتحدة والصين. لكنّ أبرز جانب “تحويليّ” لهذه العلاقة، أو على الأقلّ أبرز جانب يمكنه أن يحمل هذه الصفة، هو موقف الصين من غزو أوكرانيا. وكيسنجر يبدو متفائلاً.
توقّعاته
في حديث إلى شبكة “سي بي أس” بُثّ في 7 أيار (مايو) الحاليّ، لفت كيسنجر النظر إلى أنّ الصين ستكون إمّا جاهزة لقيادة الوساطة بين روسيا وأوكرانيا بحلول نهاية السنة أو منخرطة فعلاً فيها. “سنتحدّث عن عمليّات تفاوض أو حتى عن مفاوضات فعليّة”. يبدو التوقيت الذي يتوقّعه منطقياً. بحلول بداية الشتاء، من المفترض أن تكون أوكرانيا قد أنهت هجومها المضادّ المرتقب. ستكون موازين القوى بين الطرفين قد ارتسمت إلى حدّ كبير مع نضج للأفكار والمقترحات. هذا على المستوى التكتيكيّ، فماذا عن الاستراتيجيّ؟
يعدّد كيسنجر دوافع الصين للاهتمام بمبادرة كهذه. يقول لمجلّة “إيكونوميست” في مقابلة نُشرت منذ أسبوعين إنّ هذه الوساطة تعبيرٌ عن “مصلحة قوميّة” لبكين. من جهة، هي ترفض دمار روسيا لأنّ ذلك سيخلق فوضى في منطقة آسيا الوسطى. من جهة أخرى، وفق الدبلوماسيّ نفسه، تعترف الصين بأوكرانيا دولة ذات سيادة وقد حذّرت من استخدام السلاح النوويّ. حتى أنّها قد تقبل برغبة أوكرانيا الانضمام إلى الناتو وفق تحليله. “تفعل الصين هذا، كسبب جزئيّ، لأنّها لا تريد الاصطدام بالولايات المتحدة”. هذه أفكار إيجابيّة لواشنطن لو صدق تحليل كيسنجر.
خلال قمّة مجموعة السبع، بدا بايدن نفسه متفائلاً بعودة الحرارة تدريجياً إلى العلاقة مع الصين. لا يشاطره مراقبون كثر هذه النظرة. القمّة نفسها أزعجت الصين. نظرياً، من شأن حجم الخلافات والشكوك المتبادلة أن يصعّب رأب الصدع. تنظر أميركا إلى الصين على أنّها تريد تغيير النظام الدوليّ بالقوّة. بينما ترى بكين أنّ واشنطن تريد منع صعودها بالقوّة. لكن ماذا لو كان بإمكان أوكرانيا أن تكون بداية مسار التهدئة؟
نافذة صغيرة
الأمر ممكن بحسب مديرة “مشروع قوة الصين” والباحثة في “أمن آسيا” ضمن “مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة” بوني لين. هي تشير في مجلّة “فورين أفيرز” إلى اعتقاد خبراء صينيّين بتأمين أوكرانيا فرصة لتخفيف التوتّرات جزئياً مع الولايات المتحدة. ويعتقد هؤلاء أيضاً أنّ الحرب أضعفت روسيا أكثر من الغرب. كذلك، بإمكان الاختراق الدبلوماسيّ الذي حقّقته الصين بين المملكة العربيّة السعوديّة وإيران أن يجعل بكين أكثر جرأة وثقة بالنفس. لكن عند هذه النقاط تنتهي تقريباً الاحتمالات الواعدة.
في مراقبة للأوراق والتحليلات الصادرة عن بكين منذ انطلاق الغزو، تلاحظ لين أنّ معظم نقاطها تردّد كلام روسيا عن مسؤوليّة الغرب في الصراع. ولم تتراجع الصين عن كلام سفيرها في فرنسا الشهر الماضي حين قال إنّ “دول الاتحاد السوفياتيّ السابق لا تتمتّع بمكانة فعليّة في القانون الدوليّ”. يعني هذا أنّ الصين تحتاج فقط إلى حجب أسباب الحرب كي تلقي ظلالاً من الشكّ على الموقع الأخلاقيّ للغرب مع إمكانيّة أن تراهن على تعبه بمرور الوقت.
حسابات متضاربة
توفيق الصين بين اتّجاهات مصلحيّة عدّة هو عقدة بارزة. هي تريد أن تظهر كمحايد، لكنّها لا تستطيع ترك جارتها الشماليّة تتلقى ضربة قاسية في أوكرانيا. بسبب إخفاقاتها العسكريّة الخاصّة وحشد الغرب دعمه لأوكرانيا، روسيا هي الطرف الأضعف في المعادلة. يعني ذلك أنّ على بكين أن تكون أقرب إلى موسكو لخلق نوع من التوازن. لكن في الوقت نفسه، يبدو أنّ الصين غير راغبة بإرسال مساعدات عسكريّة إلى روسيا. هذا ما يمكن استنتاجه ممّا قاله الرئيس الصينيّ شي جينبينغ لنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال الاتّصال الهاتفيّ أواخر نيسان (أبريل): إنّ الصين “لن تصبّ الزيت على النار” في أوكرانيا. بالتالي، لن يكون مستغرباً إبقاء الصين المعادلة على ما هي عليه في المستقبل القريب: شراء النفط الروسيّ من دون تقديم دعم عسكريّ لموسكو. نتيجة ذلك بشكل أو بآخر هي أنّ روسيا “ستكون متروكة لتدبّر أمرها” في الميدان. لكنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ الصين خاسرة.
يعتقد بعض الخبراء الغربيّين أنّه مهما كانت نتيجة الهجوم الأوكرانيّ المضادّ يصعب رؤية كييف تستردّ جميع أراضيها بحلول نهاية 2023. بالفعل، إنّ استرداد نحو 100 ألف كيلومتر مربّع خلال الأشهر المقبلة مسألة شاقّة. لكنّ ذلك يعتمد أيضاً على عدم انهيار القوّات الروسيّة. إذا نجحت موسكو في تجنّب انهيار كهذا فمن المرجّح أن يظلّ الحكم في الكرملين مستقراً. سيترافق ذلك مع تواصل استنفاد مخازن الأسلحة الغربيّة، وهو عاملٌ آخر يصبّ في مصلحة الصين. وفي 2024، سينشغل الغرب بالانتخابات الأميركيّة بالتوازي مع خفض نسبيّ للدعم العسكريّ المخصّص لكييف. إنّه الانشغال نفسه الذي قد يفتح للصين نافذة لمساعدات عسكريّة محدودة إلى روسيا.
عاملٌ آخر… وكيسنجر خائب
لا تترك هذه الحسابات الصين في موقع غير المستعجل على الوساطة وحسب. يلوح احتمالٌ آخر بإمكانه أن يثني بكين عن التوسّط: الفشل. حقّقت بكين نجاحاً كبيراً في استئناف العلاقات بين الرياض وطهران. لكنّها لم تفعل ذلك بمبادرة منها بل قطفت ثمار تقارب طويل المدى بين الطرفين بعد مبادرات من عُمان والعراق. بمعنى من المعاني، وكما كتبت لين، لا تملك الصين خبرة دبلوماسيّة دوليّة واسعة وتسمّي فشل ملفّ كوريا الشماليّة كأحد الأمثلة على ذلك. الفشل في الوساطة يمكن أن يمثّل انتكاسة للنجاح، ولو الصوريّ، الذي حصدته بكين في آذار (مارس).
يمكن اعتبار أنّ دوافع الصين للتوسّط، وكذلك لعدم التوسّط في أوكرانيا، شبه متعادلة. مع ذلك، لا يملك الغرب الكثير ليخسره إذا راهن على الصين. لو نجح هذا الرهان فسيحصد تهدئة في أوكرانيا، وربّما مقدّمة لتحقيق انفراجة أوسع. وإذا فشل فلن تتأثّر خطّته القائمة على دعم كييف “ما لزم الأمر”.
يرى البعض أنّ الوضوح الاستراتيجيّ يبرز خلال الأزمات. ليس كيسنجر من المتحمّسين لوضع واشنطن الحاليّ مع الرؤى العالميّة: “لا نملك نظرة استراتيجيّة كبرى”، قال لـ”وول ستريت جورنال” الأسبوع الماضي. مع ذلك، تقدّم أوكرانيا فرصة للأميركيّين لتقديم وضوح كهذا؛ والفرصة نفسها سانحة للصينيّين. القدرة على استغلالها لبّ التحدّي.