المخرجان رهف الجابر ونورس عثمان تبادلا الأدوار في ترسيخ الجسد كلغة مسرحية
من أجواء المسرحية السورية الراقصة “شهقة” (خدمة الفرقة)
يشتبك الجسدي بالدرامي في العروض التي يقدمها الجيل الثاني من مصممي الرقص المعاصر في سوريا. فمع الرغبة في تجاوز القوالب التقليدية، ومناقشة التابوات – “المحرمات” تطل مقترحات لافتة على صعيد المعالجات الفنية، وينتزع جمهور هذه النوعية من العروض يوماً بعد يوم مساحة من الفرجة يلعب فيها الجسد دور البطولة المطلقة على الخشبة، لا بكونه وصيفاً درامياً، بقدر ما يشكل هو ذاته مادة درامية صرفة، يستطيع من خلالها مصممو الرقص الجدد الاشتباك مع قضايا راهنة وشائكة، ولا سيما عند الجيل الجديد، وما لحق بهذه الشريحة من شتات وتهجير قسري وخيبات أمل في ظل سنوات الحرب الطويلة.
من هنا حقق فنانا الكريوغرافيا رهف الجابر ونورس عثمان ما يمكن تسميته بثنائية راقصة في دار الأوبرا السورية، مطوعين – كل من وجهة نظره – الأحلام والمخاوف الشخصية للمؤدين كمادة للرقص التجريدي. وأبحرا عبر الأداء الجسدي المفتوح نحو مناطق خاصة وحميمة من حياة كل راقص وراقصة، وذلك بالإطلالة على طقسي العرس والجنازة في الشرق، وما تتضمنه هذه الطقوس من قواسم مشتركة على صعيد الشعائر والأعراف والتقاليد المتوارثة.
مشهد من مسرحية “بوح” (خدمة الفرقة)
العرض الأول من هذه الثنائية جاء بعنوان “بوح” لمصممته ومخرجته رهف الجابر التي اشتغلت مع 11 راقصاً وراقصة على تدوين يوميات هؤلاء. جاء هذا وفق تيمات الفقدان والسفر والعزلة والخوف. الحالة الحسية للمشهد كانت الفيصل في ترتيب لوحات هذا العرض الذي بدأ مع دخول الجمهور إلى مسرح الاستعمالات المتعددة في دار الأوبرا الدمشقية، ووسط إضاءة غبارية تلامحت عبر سديمها أجساد الراقصين والراقصات. من هنا كان يمكن متابعة التلوين الحركي اللافت الذي ابتعد عن التكنيك المحض، واقتصر على اجتراح الرقصات كمعادل للتجربة الذاتية والظروف التي مر بها الراقصون، وصولاً إلى منطقة “البوح” عن الوحدة التي يعيشها الشاب أو الشابة، في وسط تملؤه أصوات القصف وصرخات الموت والخوف من المجهول.
مخرجة العرض حاولت تصميم كل شيء بإشراف شخصي منها، فحتى الأزياء اختارتها كي تكون محايدة بألوانها الرمادية، فلا تعوق عمل الراقصين، مع الإضاءة التي واكبت تطور الكتل الراقصة وتشكلها على خشبة المسرح. تخوض رهف الجابر في عرضها الجديد إمكان توظيف الجسد الراقص ضمن مناخ لوني وضوئي يجعل من هذا الجسد على الدوام إشارة سيميائية متبدلة في كل لحظة. وهذا ما جعلها تعتمد على توليف علي سليمان لموسيقى العرض الذي اعتمد هو الآخر على مؤلفات للموسيقي البولوني زبيجنيو برايسنر (1955)، مع مقطوعات “الدمى” و”رقصة النحل” و”ماريونيت”، والتعويض عن وجود موسيقى مكتوبة خصيصاً لعرض “بوح”. وما زالت معظم العروض الراقصة في البلاد تعتمد على توليف مقطوعات عالمية يتم منتجتها صوتياً بما يلائم مقولة العرض وتوجهه الدرامي وأسلوبه الحركي.
من عرض “شهقة” (خدمة الفرقة)
ومع هذا وكله استطاع “بوح” أن يحيل السيرة الذاتية لكل راقص وراقصة إلى مادة يعبر عنها الجسد كاشفاً عن أدواته، وعن العالم الداخلي للراقص. أتى ذلك وفق ما يشبه نوتة حركية ركزت على أفعال وردود فعل اقتربت من أسلوب مصممة الرقص الألمانية بينا باوش (1940-2009)، ولكن مع الحفاظ على خصوصية الجسد الشرقي، وهربه المحموم من الأسر والامتثال والخضوع لأعراف الشرق ونواميسه، مما أتاح لرهف البحث عن شخصيتها في ميدان فن الكريوغرافيا، لا سيما بعد تجارب قدمتها في هذا السياق كان أبرزها “الصفعة” و”أصوات”.
“شهقة” الرقص
العرض الثاني من هذه الثنائية الراقصة حمل عنوان “شهقة” لمخرجه ومصممه نورس عثمان، وقد ذهب الفنان الفلسطيني المقيم في سوريا نحو تيمة العرس والجنازة، فمن خلال توظيف مجموعة من الصناديق الخشبية، مرة كتوابيت ومرات كأسرة ومقاعد وأماكن جلوس العروسين، وصل عثمان إلى منطقة عميقة ما بين العزاء والفرح، مجسداً عبر الزي الأسود الموحد لراقصيه مناخاً نفسياً مركباً خلط فيه بين حشرجات البكاء والضحك الهستيري. ودمج أيضاً بقوة بين عوالم مرئية ولا مرئية في حياة الإنسان الشرقي، وما يكابده اليوم جيل الشباب في عدم المواءمة بين الالتزام بوابل الواجبات الاجتماعية، وما يأملون بالفعل في تحقيقه من دون تعقيدات وإملاءات أبوية صارمة.
من العرض السوري الراقص “بوح” (خدمة الفرقة)
اعتمد عثمان في “شهقته” هذه على توظيف الموسيقى الشعبية من تراث منطقة دير الزور السورية مع أغنيات للمطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي، وبعض من مقطوعات استقاها من أفلام أجنبية، لتصب كلها في تمرير مقولة العرض الذي اعتبر الجدار في عمق الخشبة بمثابة الملاذ الأخير لراقصيه. بدا ذلك في المشهد الختامي من العرض الذي يتشبث فيه الراقصون بالجدار كآخر فرصة لهم بالنجاة من طقسية الموت والزواج في المجتمعات التقليدية.
من طقوس العزاء في عرض “شهقة” (خدمة الفرقة)
هنا لعبت الإضاءة (أحمد خبي) على مدى 50 دقيقة من زمن العرض دوراً تبادلياً مع أجساد الراقصين، فأظهرت التشكيل الجمالي للكتل المتزاحمة في أنساق دائرية. وتعاملت مع الفضاء كتورية لتقديم لعب مسرحي خلط الرقص بالدراما من دون أن يقع في المباشرة والاستعراض، بل عول مخرج العرض ومصممه على لياقة راقصيه ومهاراتهم الحركية في الانتقال بسلاسة، بين أجواء المأتم والزفاف، ومنها نحو تجسيد ما يشبه ثورة جماعية على العرف والعادات المتوارثة، وكيف تعمل هذه العادات على تغليف البشر ضمن قوالب دينية واجتماعية وسياسية.
اقرأ المزيد
الأم وابنتها في ليلة الدخلة إضافة إلى مشاهد العزاء وفقدان الحب بين العروسين كانت أبرز المشهديات التي جسدها راقصو عرض “شهقة”، معتمدين على أسلوب الرقص المعاصر، وما يوفر هذا النوع من الأداء من وسائل تعبيرية عالية، سواء على مستوى حرية استخدام الجسد بكامل أطرافه، أو حتى عبر التنويع في حركات الجذع والشقلبات الأرضية، وصولاً إلى تلك التوازنات الماهرة مع الراقص الشريك. فمن خلال هذه الثنائيات الراقصة ولد عثمان جملاً حركية حاولت الانتصار لتحرير طاقة الجسد الراقص، وجعل وثباته وسكناته أقرب إلى نص تكتبه فصاحة الجسد، كل مرة بلهجات وإيماءات مختلفة.
وكان واضحاً سواء في “بوح” رهف الجابر أو في “شهقة” نورس عثمان المضي نحو تكثيف الحركة، واختزالها نحو تحريك الراقصين بشكل متوازن، والسيطرة على فضاء اللعب بأسلوبية دمجت بين فقرات السولو “الإفرادية” واللوحات ذات الأداء الجماعي، مع الحفاظ على مساحة فارغة على الخشبة تتيح للجمهور متابعة الجسد الراقص في تجلياته التأملية وحضوره العضلي في آن واحد، ومن ثم لتبدو الحركة هنا وكأنها ارتجال حر، وليست مرسومة بمسطرة التمرين وإيعازات المصمم.
هذا كله أسهم في تقديم 80 دقيقة رقصاً توزعت على عرضين حاول القائمون عليهما الخروج عن السائد، والتحلي بدينامية جسدية تبتكر انخطافاً مشهدياً مغايراً. وتقول ما لا تستطيع العروض الدرامية قوله، لا سيما في لعبة التخفي التي تمارسها مثل هذه العروض للتهرب من عقلية الرقابة السائدة، والانتصار لحلول فنية خلاقة عمادها الجسد في نوبات تمرده وجموحه على السائد والمتداول.