ما أمامنا اليوم هو ارتفاع موجة العسكرة في الدول الكبيرة والصغيرة
الثورات إما أن تقود إلى بناء دول تحمي حدودها وسيادتها، وإما أن تصر على الثورات وبناء سلطات استبدادية (أ ب)
ما الذي يتغير في العالم إذا اعتمدت الصين وروسيا النظام الديمقراطي بطبعته الغربية؟ هل ينتهي الصراع الجيوسياسي والتنافس على الأدوار وتصبح الأمم المتحدة أداة النظام العالمي المدار بالقانون الدولي؟ هل ترتاح الدول المتوسطة والصغيرة من مشقة الاستقطاب الدولي؟
أسئلة تبدو افتراضية وأقرب إلى الخيال، لكن الواقع يفرض البحث عن أجوبة في ظل مقولة شائعة خلاصتها أن الديمقراطيات لا تشن حروباً إلا دفاعية، فالسلام الذي دام ثلاثة أرباع القرن بين نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية حرب أوكرانيا كان سلاماً في أوروبا ضمن حرب باردة بين الجبارين الأميركي والسوفياتي. أما في بقية العالم، فإن الحروب لم تنقطع، من الحروب العربية – الإسرائيلية إلى الاجتياح السوفياتي لأفغانستان، ثم الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق.
ومن الحروب بين الهند وباكستان إلى الصدامات المسلحة بين الصين والهند، من غزو العراق للكويت، ثم “عاصفة الصحراء” إلى حروب لبنان، ومن حروب تشاد وليبيا والسودان وإثيوبيا وتيغراي، والسلسلة طويلة. وهي حروب شاركت فيها أنظمة ديمقراطية وأنظمة شمولية، وأخرى قبلية.
هناك مقولة ثانية شائعة موجزها أن الرابط الأيديولوجي بين الدول يضمن التعاون والتكامل، لكن الواقع أن المصالح أقوى من الأيديولوجيا، والحسابات الجيوسياسية والاستراتيجية والاقتصادية تتقدم على حسابات الأخوة. الثورة الشيوعية التي قادها ماوتسي تونغ إلى النصر عام 1949 قامت على أساس الأيديولوجيا الماركسية اللينينية التي هي أساس ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية في روسيا عام 1917، غير أن ذلك لم يمنع الخلاف الكبير بين ماو وستالين، بحيث جرى تبادل الاتهامات بين بكين وموسكو بـ”التحريفية”، وعملت كل عاصمة ضد الأخرى على صعيد الأحزاب الشيوعية في العالم. لا، بل إن صين ماو تفاهمت مع أميركا نيكسون في الصراع مع الاتحاد السوفياتي، وقد مر وقت طويل بعد رحيل ستالين، ثم رحيل ماو لكي يتم تبريد الأزمة وتطبيع العلاقات، ومثل هذا ما حدث بين ستالين وتيتو، بحيث جرى طرد يوغوسلافيا من الأممية الاشتراكية.
عام 1963 وصل إلى السلطة بالانقلاب العسكري في العراق وسوريا حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي له قيادة واحدة وبالطبع أيديولوجيا واحدة، لكن محاولات الوحدة بين البلدين واجهت عقبات، كما فشل مشروع الاتحاد الثلاثي بين مصر والعراق وسوريا، ثم ساءت العلاقات بين بغداد ودمشق، إلى حد أن السلطة في العراق اتهمت السلطة في سوريا بتدبير انقلاب ضد القيادة العراقية وقامت بتصفية عدد مهم من قادة “البعث” في العراق على يد النجم الصاعد صدام حسين، ثم جرت حرب “أمنية” بين البلدين في ظل “حرب حزبية”، بحيث صار هناك ما يسمى “البعث العراقي” و”البعث السوري”.
ألم تنتقل مصر وسوريا من الوحدة عام 1958 إلى العداء بعد الانفصال عام 1961؟ وماذا عن مشكلات ليبيا مع كل الدول التي دعاها القذافي إلى الوحدة وبينها “الوحدة الثلاثية” التي بقيت على الورق؟
الوقائع كثيرة، وتاريخ العالم هو عملياً تاريخ حروب وصراعات، بحيث يقول هيغل “التاريخ للحروب، وليس للسلام تاريخ”. وتاريخ الحروب والصراعات هو تاريخ إمبراطوريات وثورات. الإمبراطوريات لا ترحم الشعوب ولا تتخلى عن الهيمنة إلا إذا خسرت في حرب كبيرة.
والثورات إما أن تقود إلى بناء دول في بلدان تحمي حدودها وسيادتها، وإما أن تصر على البقاء في ثورات وبناء سلطات استبدادية أسوأ من هيمنة الإمبراطوريات.
ما أمامنا اليوم هو ارتفاع موجة العسكرة في الدول الكبيرة والصغيرة، شيء من مضاعفات حرب أوكرانيا، وشيء من الاستقواء على الشعوب، ومهما يكن فإن “دمقرطة” العالم أفضل بكثير من “عسكرة” العالم، لكن العسكرة تتقدم.