تركيا لا تغيير في النهج

1

ما التحديات التي تواجه أردوغان بعد حصوله على ولاية ثالثة على رأس السلطة في البلاد؟

خالد اليماني وزير الخارجية اليمني السابق 

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (رويترز)

بعد أن ضمن خمس سنوات إضافية في قصر بيشتيبه الرئاسي، وبعد أن سيطر تحالف الأحزاب التي تدعمه بقيادة “العدالة والتنمية” على غالبية قوية في مجلس النواب، وبعد أن سجل الحضور السياسي الأطول في تاريخ الجمهورية التركية، ولم يخسر فيه قط أياً من معاركه الانتخابية، ليتحول إلى السلطان ضمن رؤية العثمانية الجديدة التي يتبناها، سيكون بمقدور رجب طيب أردوغان أن يدير دفة السياسة التركية بشكل مريح تحت سيطرته الكاملة.

ربما شكلت انتخابات مايو (أيار) 2023 أكبر تحدٍ سياسي لأردوغان، فقد جاء الانتصار في الجولة الثانية، ضمن منافسة غير مسبوقة سجلتها أحزاب المعارضة التي التأمت تحت قيادة كمال كليتشدار أوغلو، وعلى رغم أن حزبه وتحالفه السياسي حقق انتصاراً قوياً في البرلمان، فإن نتائج الانتخابات أكدت انقسام الأتراك بشكل متساوٍ تقريباً، بين أردوغان وكليتشدار أوغلو، وبين رؤيتين لإدارة الشأن العام، والنظر إلى المستقبل، بين من يريد الاستمرارية مع رؤية ديمقراطية محافظة أطلق عليها العثمانية الجديدة، وبين من يريد العودة إلى النظام البرلماني الديمقراطي وعلاقات الائتلافات التقليدية، وتحسين العلاقات مع الغرب.

أحدث هذا التركي الفقير الذي كان يبيع لفافات الخبز في حي قاسم باشا العمالي الفقير بإسطنبول، تغييراً مهولاً في الحياة السياسية التركية، بعد أن مر بتجارب شخصية في صفوف أحزاب الإسلام السياسي منذ بداية شبابه، قفز منها إلى بلدية إسطنبول في بداية 1994، وأسس حزبه الخاص في 2001، وقاده للانتصار برئاسة الوزراء في 2003، وصولاً إلى تغيير نظام الحكم، ليصبح رئيساً للجمهورية منذ 2014، وبنجاح انتخابه، الأسبوع الماضي، سيتربع أردوغان على عرش السلطة إلى عام 2028، الذي من المفترض أن يكون نهاية مشواره السياسي.

قلب أردوغان الدولة التركية رأساً على عقب، فقد ورث قبل عقدين دولة تعيش اضطرابات عنيفة، فخلال فترة وجيزة شهدت البلاد ثلاث أزمات اقتصادية خانقة، وتدهور سعر الليرة إلى أرقام فلكية، وانتشرت قضايا فساد النخب السياسية، إلى جانب استمرار الحرب بين الجيش التركي وعناصر حزب العمال الكردستاني التي أودت بحياة الآلاف.

كان الشعب التركي يكتوي منذ بدء تجربته الديمقراطية في 1950 بنيران الاضطرابات السياسية، والانقلابات العسكرية، والائتلافات الفوضوية الضعيفة، ووصفات الإنقاذ المالي الدولية الفاشلة، والتدهور الاقتصادي الشامل، وجاء أردوغان ليرفع تركيا خلال عقدين من الزمن إلى المرتبة التاسعة عشرة في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، والمرتبة الحادية عشرة من حيث القوة الشرائية.

في الحقيقة ينظر إلى أردوغان من أتباعه وخصومه على السواء، باعتباره “سياسياً كاريزمياً”، وصانع تحالفات سياسية متغيرة ومتعددة، لكنه يتسم بنزعته القيادية التقليدية الفردية، واعتماد سياسة القبضة الحديدية. ويصف الإعلام الغربي نظام الحكم في تركيا ليس باعتباره ممارسة ديمقراطية غير ليبرالية، بل خليطاً من الأوتوقراطية الأيروآسيوية. ومع هذا حقق الرجل معادلة صعبة، فقد روض الجيش التركي وأعاده إلى الثكنات، وطوعه تحت قيادة مدنية، مع تطويره، ومنحه التسليح الأحدث في سوق السلاح العالمية، بما في ذلك تحقيق قفزات نوعية في الصناعات العسكرية التركية، ونقل مركز ثقل السلطة من النخب العلمانية التقليدية الفاسدة التي تربعت على المشهد السياسي لزمن طويل، إلى قوى جديدة أسهم هو شخصياً في إضافتها إلى المعادلة السياسية، وهي خليط من القوميين والمحافظين الديمقراطيين والقوى الدينية.

جبال التحديات

أكبر التحديات التي تواجه أردوغان بعد الفوز الانتخابي، بحسب الصحافة التركية الحليفة والمعارضة، تتمثل في تجاوز حال الانقسام الداخلي، ومعالجة الوضع الاقتصادي المقلق، وإعادة إعمار المناطق التي ضربها الزلزال، والتخلص من مشكلة اللاجئين السوريين.

وتعد مسألة استعادة روح وحدة الأمة التركية المنقسمة على نفسها، وتجاوز حال الاستقطاب في الشارع التركي أكثر القضايا الملحة على الصعيد السياسي.

وفي تقدير خبراء الرأي العام التركي فإن معالجة أردوغان لهذه الإشكالية ستشكل مؤشراً إلى الطريق الذي ستسلكه تركيا خلال السنوات المقبلة، فإما ستعزز من وضع المعارضة التي وقفت مع كليتشدار أوغلو وتزيد من تماسكها، وإما ستكون انتخابات 2023 نهاية المطاف للمعارضة التركية بمفهومها التقليدي.

من هنا، فإن أردوغان في خطابه الأول بعد الفوز، تناول التحضير لاحتفالات مئوية الدولة التركية في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، قال “نحن الشعب التركي المكون من 85 مليون نسمة، سنترك كل خلافاتنا جانباً، وسنحتفل بهذه الذكرى بحماس كبير”. وهذا التصريح يعكس رغبته في تجاوز حال الانقسام السياسي الحاد، لكنه لا يؤشر إلى الطريق الذي سيسلكه لتحقيق ذلك الهدف.

أما التحدي الثاني، وهو تحدي الاقتصاد والمعيشة، وربما شكل كعب أخيل لتركة أردوغان برمتها، فهو الإصلاح الاقتصادي، حيث يعاني الاقتصاد حالياً نمواً بطيئاً، وانخفاضاً حاداً في الاحتياطات، وارتفاع التضخم، ويرجع خبراء الاقتصاد سبب ذلك جزئياً إلى سياسات أسعار الفائدة المنخفضة التي تعتمدها الحكومة.

ويتطلع الجميع إلى وعود أردوغان بتشكيل فريق اقتصادي قوي ومستقل يحظى بمكانة دولية مرموقة، لاتخاذ إجراءات جدية لمعالجة الوضع، وتقديم خطة مستقبلية لبناء اقتصاد تركيا لما بعد المئوية الأولى لقيام الجمهورية الحديثة، والتي قرن أردوغان نصره الانتخابي بدخولها.

كما تواجه الحكومة التركية مشكلة معالجة آثار الدمار الذي خلفه زلزال قهرمان مرعش الذي ضرب جنوب تركيا في شهر فبراير (شباط) الماضي، والذي أودى بحياة أكثر من 50 ألفاً من السكان.

ويواجه المجتمع التركي معضلة اللاجئين السوريين، فهناك قرابة أربعة ملايين لاجئ سوري يعيشون في تركيا، مما خلق نوعاً من التذمر العام في صفوف الأتراك على مختلف مشاربهم، حتى وصل الحال بالمعارضة لتحميل مسؤولية تدهور الاقتصاد وارتفاع الأسعار على كاهل اللاجئين والحكومة التي سمحت به.

وقد استمع أردوغان لأصوات الأتراك خلال الحملات الانتخابية، ووعد بتسريع إجراءات العودة الطوعية للسوريين عبر مشروع لبناء المئات من الوحدات السكنية داخل الأراضي في شمال سوريا لاستيعابهم. وتترافق هذه الجهود مع تطبيع العلاقات مع حكومة الأسد في سوريا، بموازاة مواصلة جهود تركيا التاريخية لمحاربة وجود الوحدات المسلحة لحزب العمال الكردستاني، وإضعاف وجودها على حدوده الجنوبية.

القرن التركي وأوروبا الجديدة

مقاربة أردوغان لفلسفة الحكم، ورؤيته لعلاقات تركيا ومنطلقات سياستها هي مادة جديرة بالاهتمام، فقد كان أردوغان حينما وصل إلى دفة السلطة مدافعاً شرساً عن فكرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ودفع جزءاً مهماً من رأسماله السياسي في معركة الانضمام إلى الاتحاد، حتى اقتنع بعد حين، باستحالة تحقيق ذلك.

وفي نظر كثيرين كانت مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تجربة خسرت فيها أوروبا، وكسبت فيها تركيا، وتعلم أردوغان الدرس بأن لا وضعه في حلف الناتو، ولا علاقاته المتميزة مع الغرب يشفعان له بالدخول في النادي الأوروبي.

وخلال السنوات التالية طور أردوغان رؤية العثمانية الجديدة التي استوعبت تجربة ماضي تركيا الإمبراطوري بإيجابياته وسلبياته، وقرر عدم الركون إلى التحالفات الدائمة، والتحرك ضمن فضاءات الفرص المتوفرة في العلاقات الدولية شرقاً وغرباً، بما ينسجم مع المصالح الحيوية العليا لتركيا.

ويعتقد كثير من المحللين أن أردوغان سيستمر في تطوير مقاربة العلاقات متعددة المنافع، فعلاقاته مع الغرب، وتحديداً مع أميركا ستظل معلماً مهماً في المستقبل، لكنه سيسعى أيضاً إلى تطوير علاقاته بروسيا الاتحادية، حيث أكد مراراً خلال حملته الانتخابية أن علاقات تركيا مع روسيا لا تقل أهمية عن علاقاتها بأميركا.

استطاع أردوغان أن يقيم معادلة التوازن مع روسيا، عبر توفير قنوات للحد من تأثيرات العقوبات الغربية عليها، مقابل حصوله على موارد الطاقة، ومن جهة أخرى فهو يقدم الدعم العسكري لأوكرانيا لدعم حقها المشروع في الدفاع عن أراضيها، ولهذا يتوقع كثيرون أنه سيكون بمقدوره لعب دور محوري لإنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية.

يمكن وضع العلاقات العربية – التركية ضمن قراءة المتغيرات الجيوسياسية الدولية، وبروز نظرية التعددية القطبية، وانحسار الهيمنة الأحادية على المشهد الدولي، حيث تتطلع تركيا والدول العربية لحجز مقعد لها ضمن مقاعد الدول الأبرز في المنطقة والعالم.

لقد توفرت أرضية خصبة لتطور العلاقات العربية التركية على قاعدة المصالح المشتركة، بعد أن تبين فشل مشروع التغيير الذي قاده الإسلام السياسي في المنطقة، والذي حظي في الماضي بدعم من النظام التركي، على رغم تباعد خلفيات نشأته مع نشأة وتطور الحركة الإسلامية القومية التركية. وها هي العلاقات مع مصر تعود إلى سابق عهدها، وتلتقي رؤية أردوغان مع ورشة التحديث الشاملة التي تشهدها المنطقة تحت قيادة السعودية ورؤيتها 2030.

فعندما وصف ولي العهد السعودي تصوره لأوروبا الجديدة متجسدة في منطقتنا، فهو لم يختلف مع ما ذهب إليه أردوغان يوم الأحد الماضي عندما قال إن العالم سيشهد صعود نجم تركيا، وسيكون هذا القرن هو القرن التركي، وهذه الرؤى المستقبلية التي تشحذ العزائم هي التي ستسهم في تحويل منطقتنا، وتعظيم مصالحنا المشتركة مع كل دول العالم. أو كما قال الكاتب السعودي محمد خالد اليحيى في مقاله الموسوم “شرق أوسط جديد”، هنا الأسبوع الماضي، “إن حلفاء أميركا لا يبتعدون عنها، بل يسعون لتحقيق مصالحهم الوطنية الخاصة”.

وفي الأخير يبقى السؤال المحير دائماً لسبر غور الظاهرة الأردوغانية، هل ستكون هناك استمرارية لإرث أردوغان بعد 2028؟ وهل سيكون بمقدوره إيجاد الوريث من بين صفوف حزبه، ومن بين شباب الأحياء العمالية المتواضعة مثل حي قاسم باشا في إسطنبول، على عكس قناعات كثيرين؟ لقد ظل الرجل يكرر خلال السباق الانتخابي بأنه خادم للشعب التركي، لكنه في الحقيقة الخادم الذي لا يتكرر.

التعليقات معطلة.