صدرت إشارات وتصريحات عدة من جانب طهران، في الآونة الأخيرة، تتحدث عن ترحيب إيراني بعودة العلاقات مع القاهرة، لكن على الجانب المصري، ثمة ما يشبه السكون، مع تصريحات نادرة للغاية، لا تؤشر إلى أن مصر لديها من الأسباب ما يكفي لاستئناف العلاقات التي انقطعت قبل أكثر من 40 عاماً، بموجب فتوى من آية الله الخميني، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران.
وكانت العلاقات بين القاهرة وطهران قد قطعت بموجب فتوى الخميني التي تعد دينية وسياسية في آن، وتحظى بـ”قدسية” كبيرة لدى النظام الحاكم في إيران، ما جعل العلاقات بين البلدين شبه مجمدة منذ صدور الفتوى عام 1979. وفي أحسن فتراتها، وهي قليلة جداً، كانت تمشي خطوة للأمام، وأخرى للخلف.
صدرت فتوى الخميني في أعقاب توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل.
لكن مع المتغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والتي تدفع دولاً عدة في المنطقة إلى السعي للتوصل لمستوى “صفر مشكلات” خارجية، وكذلك إذا نظرنا إلى ما تومئ به الوساطة العمانية والعراقية بين القاهرة وطهران، يبدو أن إيران تسعى بدأب إلى عودة علاقاتها مع مصر.
وقد تجلت تلك المساعي الإيرانية، على نحو غير مسبوق، قبل نحو أسبوعين، مع ترحيب خامنئي بإعادة العلاقات مع مصر، ثم إيعاز الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لوزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان باتخاذ ما يلزم لتعزيز العلاقات مع القاهرة، وما أعقب ذلك من تصريحات متتالية من مسؤولين إيرانيين، في السياق ذاته.
وربما كان آخر تلك التصريحات، ما أدلى به عضو البرلمان الإيراني فدا حسين مالكي لوسائل إعلام إيرانية، الأربعاء، بشأن “لقاء قريب” بين وزيري خارجية مصر وإيران، على حد قوله، وهو ما لم تؤكده أو تنفه القاهرة حتى لحظة كتابة هذه السطور. وكان مالكي الذي هو عضو في لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، أعلن قبل نحو شهر عن أن سفارتي البلدين سوف يتم إعادة فتحهما قريباً.
وكان وزير الخارجية المصري سامح شكري نفى التكنهات التي سادت بشأن وجود مساع لإعادة العلاقات بين القاهرة وطهران، خلال تصريحات إعلامية له في 16 أيار (مايو) الماضي، لكنه في الوقت ذاته قال: “علاقتنا مستمرة مع إيران على ما هي عليه، وعندما يكون هناك مصلحة في تغيير منهج ما، فبالتأكيد نلجأ دائماً لتحقيق المصلحة”.
وبعد نحو شهر من تلك التصريحات التي لم تغلق الباب تماماً في وجه إمكانية المصالحة، أشارت معلومات نقلتها قناة “العربية” إلى التوصل لـ”موافقة مبدئية على تشكيل لجنة إيرانية – مصرية لإعادة العلاقات والتنسيق الأمني”.
محاولات متفاوتةوفي أكثر من مرحلة في العقدين الأخيرين كان يبدو أن القاهرة وطهران في طريقهما لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، من دون أن تُستكمل أي خطوات جذرية. وبعدما كان الرئيس المصري حسني مبارك أجرى في عام 2000 أول اتصال هاتفي مع رئيس إيراني منذ قطع العلاقات، وكان حينها محمد خاتمي، مهنئاً بانضمام إيران إلى “مجموعة الـ15″، كان اللقاء التاريخي بين مبارك وخاتمي عام 2003 على هامش القمة العالمية لمجتمع المعلومات في جنيف.
وفي شباط (فبراير) 2013، إبان حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي لمصر، زار الرئيس الإيراني حينذاك محمود أحمدي نجاد القاهرة، في أول زيارة لرئيس إيراني منذ الثورة الإسلامية في بلاده، وشارك في مؤتمر القمة الإسلامية.
وكان مرسي زار إيران في آب (أغسطس) 2012 لحضور قمة دول عدم الانحياز. وصدرت عن الرئيسين في الزيارتين تصريحات تنمّ عن قرب إعادة العلاقات الدبلوماسية، لكنّ ذلك لم يحصل، إذ سرعان ما أطاحت ثورة شعبية بحكم “الإخوان” في مصر.
متغيّر لافت
يرى الدكتور سعيد الصباغ، أستاذ الدراسات الإيرانية المعاصرة بكلية الآداب في جامعة عين شمس، أن العلاقات المصرية – الإيرانية تتأثر بعوامل جيوسياسية أكثر من تأثرها بالعلاقات الثنائية بين البلدين. ومن ثم فإن الفيصل في عودة تلك العلاقات، حسب رأيه، هو مدى تلاقي المصالح الإقليمية بين البلدين، وخصوصاً في ما يتعلق بضمان الأمن القومي العربي.
سعيد الصباغ.
ويقول الصباغ الذي ألف كتباً عدة مدعومة بوثائق عن العلاقات بين القاهرة وطهران وعن الشأن الإيراني إن “ثمة تغيراً لافتاً، قد يؤشر إلى احتمال تقارب بين القاهرة وطهران، لو ارتأت مصر أن شواغلها المتعلقة بالمنطقة، وخصوصاً الأمن القومي العربي، وأمن منطقة الخليج، تتطلب ذلك”، لافتاً إلى أن “المتغير الجديد هو أنه للمرة الأولى يطرح موضوع إعادة العلاقات من قبل المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، الممثل عن التيار المحافظ والذي كان لديه تحفظات دينية بشأن استئناف العلاقات مع مصر، انطلاقاً من فتوى الإمام الخميني”.
ويوضح أستاذ الدراسات الإيرانية المعاصرة خلال حديثه لـ”النهار العربي” أن “تلك الفتوى ذات بعد ديني لأنها صدرت من “الولي الفقيه”، ولها بعد سياسي في الوقت ذاته، وتعد من العقبات التي يبحث الإيرانيون عن سبل لتخطيها. لكن أيضاً، ثمة عقبة أخرى تكونت نتيجة لخطاب التحريض والكراهية، الذي ظلت تردده طهران ضد القاهرة، ما كوّن أجيالاً تعتبر أن أي علاقة لبلدها مع مصر، تعد بمثابة تنازل عن قيم الثورة الإيرانية ومبادئها”.
ومع وجود هذه الفتوى، إلا أن المتغيرات الإقليمية ربما بدأت في تهيئة الأجواء للمزيد من المصالحات والتفاهمات. وعن ذلك يقول الصباغ: “إذا أطمأنت القاهرة إلى أن شواغلها ستحقق، في ما يتعلق بالأمن القومي العربي، وأن إيران لن تفتح قنوات اتصال مع جماعات الإسلام السياسي، وخصوصاً جماعة “الإخوان” الإرهابية، وأنها لن تحاول بأي صورة من الصور نشر المذهب الشيعي في مصر، حينها قد تتجه القاهرة لبناء مصالح اقتصادية، تتطور إلى تقارب سياسي في ما بعد”.
باتجاه المصالحة
من جانبها، تقول أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتورة نيفين مسعد لـ”النهار العربي” إن التطورات الأخيرة “تنمّ عن السعي في اتجاه عودة العلاقات بين مصر وإيران”.
نيفين مسعد.
وترى أستاذة العلوم السياسية أن “السعي واضح، سواء من خلال التصريحات المتتالية للمسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية نفسه، أو لتواتر الحديث عن وساطات عراقية وعمانية لتطبيع العلاقات المصرية – الإيرانية”.
أما مسألة توقيت عودة العلاقات بين مصر وإيران، فتعتقد مسعد أنها “ترتبط بالتقدم في حل مجموعة الإشكاليات التي تكتنف تلك العلاقات ومدى التقدم في حلها”.
وتضيف: “أنا متفائلة تفاؤلاً حذراً، وإن كنت على المستوى الشخصي أقول وأكرّر دائماً إنني مع عودة العلاقات، فمصر وإيران دولتان كبيرتان، وليس من المعقول أن تظلّ علاقات الدولتين هي الاستثناء الوحيد من أي تطوير مقارنة بباقي دول المنطقة”.
وتلفت مسعد إلى أن “ثمة انفراجاً عاماً في علاقات الدول العربية مع بعضها البعض: تطبيع العلاقات مع قطر، والانفتاح على العراق، وعودة سوريا للجامعة العربية. وثمة انفراجة أيضاً مع دول الجوار: الانفتاح العربي على تركيا، وتطبيع العلاقات الخليجية – الإيرانية، والانتقال من مشروع الناتو الشرق أوسطي الموجّه ضد إيران للتفاهم على ترتيبات مشتركة مع إيران”.
هذا المناخ، حسب وجهة نظر الأستاذة الجامعية، “يعّد مواتياً لتطبيع العلاقات المصرية – الإيرانية لأنه ينهي حالة الاستقطاب والمحاور التي عرفتها المنطقة منذ عام 2003، وبوضوح اعتباراً من عام 2006”.