“هناك كميات كبيرة من النفط تشحن يومياً ولكن لا يعرف عنها شيئاً، فتزداد الضبابية وتقلبات الأسعار”
أنس بن فيصل الحجي اقتصادي متخصص في مجال الطاقة
هناك كميات كبيرة من النفط تشحن يومياً، ولكن لا يعرف عنها شيئاً، فتزداد الضبابية في السوق وتزداد تقلبات الأسعار (أ ف ب)
أظهرت الأزمة الروسية خلال عطلة نهاية الأسبوع مشكلة دقة المعلومات والبيانات مرة أخرى، فمن الواضح أن الإعلام الغربي استغل الوضع للترويج لإشاعات وأجندة معينة، بينما امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالإشاعات، التي وصل الأمر ببعضها إلى أمور لا يمكن أن يقبلها عقل.
وقع بعض محللي أسواق النفط والتجار في هذا المستنقع، إذ توقع بعضهم ارتفاعاً كبيراً في أسعار النفط مع افتتاح الأسواق في بداية الأسبوع، بينما توقع آخرون انهيارها. والواضح لا هذا ولا ذاك، إذ إن الأزمة لا علاقة لها بأسواق النفط، وليس لها أي آثار في أسواق النفط والغاز. وعند كتابة هذه المقالة، صباح الإثنين، بعد افتتاح الأسواق في آسيا، كان ارتفاع أسعار النفط أقل من 20 سنتاً للبرميل.
لو نظرنا إلى خريطة روسيا النفطية والغازية، لوجدنا أن مدينة رستوف التي سيطرت عليها قوات “فاغنر” تبعد عنها مسافات كبيرة يبلغ بعضها آلاف الكيلومترات. ولو نظرنا إلى خريطة أنابيب النفط والغاز لوجدنا أنه ضمن عشرات الأنابيب التي تصدر النفط والغاز، هناك أنبوب واحد قريب من المنطقة.
وبفرض أنه كان هناك فعلاً محاولة انقلاب على الرئيس بوتين، فإن هناك حقيقة لا بد أن يتذكرها الجميع: أية حكومة روسية تحتاج إلى عائدات النفط والغاز، ومن ثم فليس من صالح أية فرقة انقلابية أو ثورية تدمير المنشآت التحتية لصناعة النفط والغاز الروسية المخصصة للتصدير. وإن كان من الواضح، وكما حصل فعلاً، أنه سيدمر بعض خزانات الوقود المحلية كي لا يستفيد منها أحد الأطراف عسكرياً.
ولو حصل فعلاً انقلاب وأطيح ببوتين فإن أسعار النفط سترتفع وربما لسنوات عدة، بسبب انخفاض الإنتاج الروسي، وذلك لسببين. الأول أن خطة بوتين منذ جاء إلى السلطة جعل روسيا مصدراً آمناً للطاقة، وتم هذا على مر عقدين من الزمن حتى ساءت الأمور بعد غزو أوكرانيا، فقد لا تكون هذه أولوية لأي زعيم انقلابي. أما السبب الثاني فهو أن رؤساء كل الشركات من أصدقاء بوتين، والتخلص منه يعني بالضرورة التخلص منهم كلهم أو أغلبهم، وهذا سيؤدي إلى تغييرات كبيرة في هذا الشركات تؤدي إلى خفض إنتاجها.
المبالغات والمعلومات الخاطئة والبروبغاندا جعلت بعض المحللين والتجار يتحدثون عن ارتفاع في الأسعار، بينما توقع آخرون انخفاضها، والواقع أن الأسعار لم تتغير تقريباً، هذا يعكس كيف أن رداءة المعلومات تؤدي إلى تخبط الأسواق.
بيانات الإنتاج والصادرات الروسية
قررت الحكومة الروسية منذ فترة وقف نشر أية معلومات عن إنتاج وصادرات النفط، وبسبب العقوبات المفروضة على روسيا ينقل النفط الروسي في مئات الناقلات التي تتحول إلى “أشباح” في أعالي البحار بسبب إيقافها لأجهزة التتبع، ومن ثم لا تعرف أين هي وماذا تحمل وما وجهتها. هذا يضاف إلى عمليات شحن النفط المجهولة من إيران وفنزويلا، ومن ثم هناك كميات كبيرة من النفط تشحن يومياً، ولكن لا يعرف عنها شيئاً، فتزداد الضبابية في السوق وتزداد تقلبات الأسعار.
لهذا طالبت السعودية روسيا بأن تكون أكثر شفافية في المعلومات لأنه في هذا الجو الضبابي، لا يعرف أحد ما إذا كانت روسيا تقوم بالخفض أم لا، على رغم تأكيد المسؤولين الروس بأنهم قاموا بالخفض. ونتيجة للضغط السعودي قررت روسيا خفض ضخ النفط في الأنابيب المتجهة إلى أوروبا، لأنه يمكن مراقبة كميات النفط بسهولة، وهذا لا ينطبق على النفط المنقول بحراً.
والحقيقة أن مدى التزام روسيا بحصتها وفقاً لاتفاقات “أوبك+” مشكوك فيه منذ بداية التحالف في عام 2016، وعندما ضغط عليها قامت بالتلاعب في تعريف النفط: ما النفط الخام؟ وما السوائل الغازية؟ فعندما أرادت زيادة إنتاجها أصرت أن تعتبر أي نفط خفيف جداً ضمن المكثفات والسوائل الغازية، ومن ثم لا يخضع لحصص “أوبك” التي تركز على النفط الخام. المقصود هنا أن نوعية البيانات كانت ردئية أصلاً حتى قبل الغزو، وزادت رداءة في الأشهر الأخيرة، وهذا يقودنا للموضوع أدناه.
تدهور نوعية البيانات الأميركية
بدأنا نلاحظ تدهور بيانات النفط الأميركية في عام 2017، ولكن البيانات ساءت بشكل كبير في العامين الأخيرين، بدليل الزيادة الكبيرة في ما كان يسمى سابقاً بـ”البراميل المفقودة” الذي يسمى حالياً “التعديل”. وتقوم إدارة معلومات الطاقة الأميركية بتقدير الطلب والعرض في أسواق النفط الأميركية أسبوعياً. ولكن الطرفات لا يتساويان، ويكون فرق بينهما، هذا الفرق يكون سالباً أو موجباً. هذا هو ما كان يسمى سابقاً “البراميل المفقودة”، وهو الرقم الذي يستخدم في “التعديل” ليصبح الطرفان متساويان. هذا الفارق زاد بشكل كبير في العامين الأخيرين، كما ذكر سابقاً ووصل إلى مستويات تاريخية في الأشهر الأخيرة. هذا دليل على رداءة البيانات، وأن هناك خطأ أو أخطاء.
وبسبب تذمر المحللين وتجار النفط من الموضوع قررت إدارة معلومات الطاقة الأميركية أن تجري تحريات لمدة 90 يوماً في بداية هذا العام، وانتهت التحريات وادعت الإدارة أنها وجدت المشكلة وأنها ستعمل على حلها، ولكن الإدارة لم تستطع حل المشكلة وما زالت مستمرة.
هناك أسباب عدة لوجود هذا الفارق، وكلها قديمة، منها أن إدارة معلومات الطاقة تحتسب سوائل غازية على أنها نفط خام، وهذه قضية روسيا نفسها أعلاه. ومنها عمليات مزج النفط، إما مزج النفوط الثقيلة والمتوسطة بأنواع نفط خفيفة، أو بمزجها ببعض السوائل الغازية ثم تصديرها. هنا يتم حساب بعض هذه المواد مرتين من جهة، كما يتم حساب السوائل الغازية الممزوجة على أنها نفط خام، ومن ثم هناك مبالغة في كمية النفط الخام المصدر.
خلاصة القول إن رداءة المعلومات والبيانات أدت إلى تضارب التوقعات وزيادة الذبذبة في أسعار النفط، كما أنها جعلت مهمة “أوبك+” لتحقيق استقرار نسبي في الأسواق أصعب بكثير من ذي قبل.