أوغوست كونت أثار حفيظة ماركس باكتشافه ثورة الصورة الجمالية

1

كتاب جديد يقترح أسباباً دفعت صاحب “رأس المال” لكراهية الفيلسوف الفرنسي

إبراهيم العريس باحث وكاتب  

أوغوست كونت: اكتشف قوة الصورة… (الموسوعة البريطانية)

لم يكن المفكر الفرنسي ريمون آرون يسارياً ولا ماركسياً. بل كان التقدميون يعتبرونه رجعياً إلى درجة أنهم كانوا يقولون إنهم يفضلون أن “يكونوا على خطأ مع جان بول سارتر من أن يكونوا على صواب مع ريمون آرون”. وكان هذا القول ناتجاً من التناحر الذي قام دائماً بين سارتر وآرون حتى منذ كانا رفيقي دراسة كطالبين ثانويين يتجه أولهما يساراً فيما يتجه الثاني يميناً. ومع ذلك لو أن كارل ماركس عاش في زمنهما لفضّل اليميني آرون على اليساري سارتر. وربما على الأقل لأن آرون وضع دراسة عن صاحب “رأس المال” وموقعه في الفكرين الاجتماعي والاقتصادي في التاريخ الفكري الحديث اعتبرت دائماً من أكثر الدراسات إنصافاً لمؤسس الفكر الماركسي. ففي ذلك النص/ المحاضرة التي شكلت لاحقاً فصلاً بأكمله من كتابه العمدة “مراحل الفكر السوسيولوجي”، لم يتوان آرون عن اعتبار ماركس واحداً من كبار المفكرين الاجتماعيين في الأزمنة الحديثة محللاً فكره في هذا المجال بصرف النظر عن مكانته النضالية – الأيديولوجية التي كانت تستهوي سارتر من دون أن تستهويه هو (أي آرون).

ولكن، في المقابل وأيضاً لو عاش ماركس في زمن آرون كان سيأخذ عليه كونه قد جعله تالياً لفيلسوف فرنسي سابق عليه كان يكرهه بشدة. وهذا الفيلسوف هو أوغوست كونت الذي اعتبره آرون حلقة الوسط بين مونتسكيو وماركس. وهو أمر كان من الصعب على هذا الأخير قبوله. ولكن ربما لأسباب غير علمية على أية حال، كما يخبرنا كتاب ألماني صدر في عام 2010 للباحث وولف ليبينيس بعنوان “أوغوست كونت، قوة العلامات”. صحيح أن الكتاب لم يأت مخصصاً لبحث أسباب كراهية ماركس لكونت، لكنه توقف عندها بشكل ملحوظ كما تفيدنا عروض ألمانية عديدة للكتاب!

“الوضعية مجرد هراء!”

ويتوقف الكتاب بخاصة عند تلك العبارة الشهيرة التي جاءت في رسالة بعث بها ماركس صيف عام 1866 إلى صديقه وشريكه في كتابات عدة فردريك إنغلز، يصف فيها المذهب الوضعي بأنه “هراء!” لا أكثر. وإذا تذكرنا هنا أن المذهب الوضعي ليس سوى المذهب الفكري الذي جدد به كونت الفلسفة الواقعية، سنفهم بسرعة أن اشمئزاز ماركس كان موجهاً في عبارته إلى صاحب المذهب نفسه. وهو اشمئزاز لم يتوقف ماركس عن التعبير عنه. ولكن لماذا؟ بكل بساطة لأن مؤسس الاشتراكية المادية كان يعتبر فكر أوغوست كونت الوضعي منافساً لفكره. ومنافساً عن قرب وفي الاتجاه نفسه. أو هذا ما يقترحه مؤلف الكتاب الألماني المعاصر لنا الذي يزيد قائلاً إن كارل ماركس لم يشعر أبداً أن ثمة فلسفة تنافسه في عقر داره وأفكاره بقدر ما تفعل وضعية كونت التي يشرح لنا ليبينيس أنها كانت بدورها – وكما تريد فلسفة ماركس لنفسها أن تكون – فلسفة ثورية قادرة على حشد الجماهير في سبيل إحداث تغييرات عميقة في منظومة المجتمع. وكما كان ماركس ينادي على الدوام، كان كونت ينادي بدوره بوحدة “الفلاسفة والبروليتاريين”، كما كان ينادي بـ”السير قدماً يداً بيد للوصول إلى ضروب التقدم عبر برنامج علمي مشترك”.

Karl_Marx1.jpg

كارل ماركس (الموسوعة البريطانية)

ضد النزعة البرلمانية

وحتى لئن كان ريمون آرون سوف يشرح في مقطع من كتابه “مراحل الفكر السوسيولوجي” كيف أن كونت سيعود ويرتد عن مناصرته لثورات عام 1848 الأوروبية، فإن هذا المفكر كان وبحسب آرون نفسه قد “أبدى سروره أول الأمر حين راحت تلك الثورات تندلع تباعاً وبدأ الثوار يدمرون ويخربون المؤسسات التشريعية والتمثيلية والليبرالية حتى، في هذه المدينة أو تلك على اعتبار أنها مؤسسات مرتبطة بالذهنية الإنجليزية الميتافيزيقية والنقدية والفوضوية” التي كان كونت يعتبرها كما يخبرنا آرون، عقبة في وجه التقدم والتغيير الاجتماعي الوضعي. ويعلمنا آرون أن كونت كان في كتابات شبابه قد وازن بين المصير السياسي في فرنسا ومثيله في إنجلترا مستنتجاً أن النظام البرلماني الإنجليزي إنما كان خاضعاً لنفوذ الأرستقراطية. على عكس الحال في فرنسا. بالتالي فإن النظام البرلماني ليس منظومة سياسية ذات مآل شمّال أي يمكنه أن يكون نافعاً في كل مكان. وكان هذا هو في الحقيقة رأي كارل ماركس الذي لن يكون راضياً عن هذا المنافس في الفكر والسياسة الذي استشعر خطره على مشاريعه الخاصة. وبخاصة أن ماركس سرعان ما أدرك ما لم يكن متنبهاً له قبل ذلك. وهو الدور الذي يمكن للإعلام والصورة أن يلعباه في نشر الأفكار السياسية. وهو موقف كان لافتاً كما أن وولف ليبينيس قد ركز عليه في كتابه مؤكداً أنه كان واحداً من الأسباب التي جعلت ماركس يحاول تجاهل كونت والتصغير من شأنه، بكل اشمئزاز ممكن.

دور “وضعي” للصورة

فليبينس يقول بكل وضوح في الكتاب أن كونت كان واحداً من أول المفكرين المعاصرين الذين أدركوا باكراً قوة الإعلام من طريق الصورة وقدرته على نشر الأفكار عبرها. بمعنى أن كونت آل على نفسه أن يجعل ثورته “الوضعية” ثورة جمالية شكلية أيضاً. ومن هنا كان غيظ ماركس كبيراً حين اكتشف كيف أن كونت قد عهد باكراً إلى رسامين ونحاتين من معارفه والمؤمنين بأفكاره أن يعبروا عن تلك الأفكار في لوحات ومنحوتات. ويذكر واحد من المعلقين الصحافيين على الكتاب نقلاً عن ليبينيس أن النحات والمعماري أنطوان إيتيكس الذي كان صديقاً لكونت ومقرباً منه فكرياً، كان هو الذي وضع برامج متكاملة لتلك “البروباغندا” من طريق الصورة والتي لم يكن أحد قد فكر بها أو تبناها جدياً قبل ذلك ولا حتى كارل ماركس الذي كان يعتبر نفسه سباقاً في كل تجديد وراح يسأل نفسه كيف فاتته تلك الوسيلة التي اشتغلت كثيراً لمصلحة أوغوست كونت؟ كيف فاته ما أضافه أنطوان إيتيكس إلى الوضعية حين اكتشف كم أن الصورة لغة عالمية تتجاوز كل الحدود وتهدم كل الحواجز وتعبر في حد ذاتها بأكثر مما تعبر اللغات جميعاً، بحسب ما كتبه إيتيكس نفسه؟

اقرأ المزيد

لو عاش ماركس طويلاً

مهما يكن فإنه كان من شأن كارل ماركس أن يهدأ هنا قليلاً لو أنه فكر بالأمر بشكل أكثر عمقاً – وربما يكون قد فعل… فمن يدري؟ – ليخلص كما فعل بعض المعلقين على الكتاب الجديد حين استنتجوا من الواقع التاريخي أن الاعتماد على “بروباغندا” الصورة لم يكن يومها على مثل تلك الخطورة التي استشعرها ماركس. والدليل أن التبسيط العلمي للمذهب الوضعي من طريق التعبير عنه فنياً لم يتمكن من أن يحقق له ذلك الانتشار المنشود. فثمن التبسيط كان في نهاية الأمر باهظاً، إذ إنه أفقد مذهب أوغوست كونت ومساعيه وأفكاره قدراً كبيراً من قيمتها العلمية من دون أن يجعل لها شعبية حقيقية؛ وذلك في وقت تابع فيه ماركس مسيرته من دون عنصر الصورة فبنى مذهبه الذي سيتبعه كثر ويحدث في العالم من التغيير ما ستأتي “الثورة الجمالية” الماركسية (وتحديداً ثورة الصورة) متأخرة عن ثورة كونت بقرن من الزمن وأكثر لتنسفه مبتذلة إياه قبل أن يغرق العالم الاشتراكي الذي بُني على أفكار ماركس – وغالباً مفهومة أو ممارسة بشكل مقلوب – في دمار من المؤكد أن البروباغندا من طريق الصورة وصولاً إلى التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي ستزيد من انتشاره بحيث ذهب الفكر وصوره أدراج الرياح. وها هو العالم اليوم لا يبقى له وعلى الأقل في الأوساط الجماهيرية التي كانت لدى الاثنين هي المستهدفة بالجانبين الفكري والفلسفي من ناحية وبالجانب الدعائي المتعلق بالصورة وخطورتها من ناحية ثانية، لا يبقى له من كارل ماركس أو من أوغوست كونت سوى صفحات جامعية بالكاد تجد اليوم من يقرأها فإن قرأها لا يفهمها فإن فهمها لا يعمل بها… وسوى حكايات عن كراهية واشمئزاز بالكاد تهم أحداً اليوم.

التعليقات معطلة.