عصرنا الذي قلب معايير الأخلاق فرديا وجماعيا

1

الاختلاف في إطلاق الأحكام المنصفة بين الثقافة والاجتماع السياسي والذات

مشير باسيل عون مفكر لبناني  

لوحة للرسام محمد شبيني (صفحة الرسام – فيسبوك)

يختلف الناس في الاستدلال على المعايير الموضوعية التي تتيح لهم أن يحكموا حكماً أخلاقيا منصفاً على أفعال الناس. ينشأ التباين من ثلاثة ضروب من الاختلاف: الاختلاف الثقافي الجماعي، الاختلاف السياقي المرتبط بالقرائن الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الاختلاف الضميري الذاتي المقترن بالتنشئة التربوية الفردية والاستنسابية الطباعية الخاصة. يعلم الجميع أن الاختلاف الأول يتخطى حدود الفرد، إذ يرتبط بالوعي الثقافي السائد في مجتمع من المجتمعات وثقافة من الثقافات. لكل جماعة حضارية تصورها الأخلاقي الشامل وحسها الأدبي العام الشائع. أعتقد أن من ألزم واجبات المنتديات الحوارية العالمية الانصراف إلى تدبر مواضع الائتلاف والاختلاف بين الأنظومات الأخلاقية المنبثقة من الحضارات الإنسانية المتنوعة. لا يكفي استجلاء هذه المواضع فحسب، بل ينبغي التفكر في أصل التباينات وفي أثر الاختلاف السياقي الذي يجعل الحضارة المنتشرة في بقعة من بقاع المسكونة تعتمد هذا التصور من الأخلاقيات وتعرض عن التصورات الأخرى.

الالتزام الأخلاقي الفردي

يعنيني في هذا البحث أن أتناول الاختلاف الثالث المرتبط بالإنسان الفرد الذي يسلك مسلكاً اجتماعيا يحتاج إلى مبادئ وسنن وأحكام وقواعد وضوابط تجعله يتصف بالسمة الأخلاقية. من الواضح أنه لا يجوز فصل الإنسان الفرد عن البيئة التي تحتضنه والجماعة التي تكتنفه والثقافة التي ترسم له حدود وعيه الذاتي. ذلك بأن الإنسان ابن بيئته، ينبثق كيانه الثقافي من تراث ينتسب إليه على وجه الضرورة. ولكن هذا الانتماء لا يعني أن الإنسان محكوم بضرورة الخضوع لبيئته، بل يراعي الأثر الثقافي اللاواعي الذي يخلفه الانتماء الحضاري في شخصية الأفراد. ومن ثم، يستطيع كل إنسان إما أن يثور على بيئته ويناضل من أجل تغيير واقعها الثقافي الاجتماعي السياسي، وإما أن يخرج من جماعته وينهي عقد انتمائه الطبيعي. غير أن الخارج من جماعته ما برح إنساناً ممهوراً بطابع الانتماء الأول، ولو استقر في مجتمع آخر وانتسب إلى ثقافة أخرى. تحتاج أجيال المستقرين في جماعات غير جماعتهم الأصلية إلى أجيال من التكيف والاندماج حتى تسقط عنهم آخر خصائص الانتماء الأول.

6111d3aacdd98.jpg

يقظة الضمير (وسائل التواصل الاجتماعي ـ الصورة تخضع لحقوق الملكية)

في جميع الأحوال، أود أن أتأمل في القواعد الأخلاقية التي ينبغي للإنسان الفرد أن يلتزمها في مسلكه الاجتماعي حتى يتحول فعله إلى فعل أخلاقي رفيع، وذلك بمعزل عن بقائه في بيئته الأصلية بقاء الخضوع، أو بقائه فيها بقاء المجاهدة الإصلاحية، أو خروجه منها خروج الانعتاق والتحرر. قبل الخوض في هذه الأحكام، لا بد من إيجاز الشروط الأساسية التي ينبغي أن تنعقد في حال الإنسان الفرد حتى يسلك مسلكاً أخلاقيا راقياً. والحال أن الفعل الأخلاقي الفردي لا يستقيم إلا إذا راعى أربعةً من الشروط الأساسية: السوية النفسية والبلوغ الناضج، الحرية، المعرفة العاقلة، استقامة النية.

السوية النفسية

أبدأ بالسوية النفسية والبلوغ الناضج. لا يجوز للإنسان الفاقد الوعي، أو المسلوب الإدراك، أو المختل العقل، أو المضطرب النفس أن تقوم أفعاله تقويماً أخلاقياً، أو أن تحاكم محاكمةً أخلاقيةً، أو أن تزان بميزان الاستقامة الأخلاقية. السوية شرط الشروط في الحكم على أخلاقية المسلك الإنساني الفردي. فضلاً عن ذلك، ينبغي أن يكون الإنسان على قدر معقول من الوعي والنضج والإدراك حتى يستطيع أن يميز الخير من الشر، ويستصفي الآراء الصالحة القويمة، ويعتمد المسلك الاجتماعي الأصوب. من أخطر المشكلات الحضارية في الزمن الراهن أن أوضاع الحياة الإنسانية أضحت من التعقيد والصعوبة بحيث فقد الإنسان اتزانه الجواني أو أوشك أن يفقده. ومن ثم، لا بد من الاستفسار عن صوابية الحكم الأخلاقي في أحوال الاختلال النفسي الذي أخذ يضرب في جميع أصقاع الأرض.

الحرية الكيانية

أمضي بعد ذلك إلى الحرية التي أعدها شرط الشروط في المسلك الأخلاقي القويم. ذلك بأن الحرية جوهر الكائن الإنساني، من دونها يفقد قوامه وفرادته ومعنى وجوده. أعرف أن الناس ليسوا أحراراً بالمعنى الفعلي المطلق في المجتمعات المعاصرة الخاضعة لأصناف مربكة من الاستعباد اللطيف، سواءٌ في ميادين العلوم والتقنيات والاقتصاديات المالية أو في حقول المبايعات الأيديولوجية والمصادقات العقائدية والتحزبات السياسية والاستقطابات الطائفية والانحيازات الاعتبارية الاعتباطية. لست أدري كيف يمكنني أن أحرر نفسي في معترك الضرورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والتقنية القاهرة. ولكن لا سبيل إلى استنقاذ إنسانيتي إلا بالمجاهدة اليومية من أجل الفوز بالقدر الممكن من الحرية الذاتية التي تمنحني على الأقل مجال الانكفاء إلى وجداني وصون كياني الجواني من اقتحامات العولمة الكاسحة.

من الضروري، والحال هذه، أن أتمتع بحريتي الكاملة حين أفكر تفكيراً أخلاقيا، وأقرر قراراً أخلاقيا، وأتصرف تصرفاً أخلاقياً. ذلك بأن الحرية شرط الفعل الأخلاقي السليم. لا يمكن المسلوب الإرادة أن ينسب إلى ذاته صفة الفعل الأخلاقي. من واجب الإنسان إذاً أن يسعى على الدوام إلى تحرير وعيه وعقله وفكره من سلطان الجموع التي تريد أن تفرض عليه مشيئتها العمياء. فالجموع لا مشيئة ذاتية لها. إرادتها منبثقةٌ من الإجماع الإكراهي الذي يفرضه عليها التيار الثقافي الاجتماعي الجارف. أما الشخص الإنساني الحر فيفكر ويقرر ويتصرف بالاستناد إلى اقتناعه الذاتي الذي يبنيه بعرق الجبين على تعاقب الإخفاقات والخيبات، وتوالي النجاحات والفتوحات. لا يصدر عن العبد فعلٌ أخلاقي مكتمل القوام. العبيد خاضعون لأخلاقيات أسيادهم. قبل النظر في طبيعة هذه الأخلاقيات، يجب الحكم على فعل الخضوع الذي لا يمكن إلا أن يكون فعلاً لاأخلاقياً.

بول ستروم.jpg

بوصلة الأخلاق (المركز الإيتيكي الفرنسي)

ثم أنتقل إلى استقامة النية، إذ ينبغي أن يتصف قراري الأخلاقي وفعلي الأخلاقي باستقامة النية، أي بالاستعداد الأصلي الذي يرشدني إلى طلب الخير والصلاح والسلام والعدل والأخوة لجميع الناس انطلاقاً من موقفي الأخلاقي الأصلي. لا تستقيم أخلاق الناس حين تنحجب المقاصد، وتستتر النيات، وتفسد الطوية. يستحيل الحكم الأخلاقي حين يضمر الناس ما لا يعلنونه، ويقولون ما لا يفكرون به، ويفعلون ما لا يقولونه. من أخبث مصائب البشرية الاختلال المهلك بين الفكر والقول والفعل. في أوضاع الفساد المستشري في مجتمعاتنا المعاصرة، يتبين لنا أن تعطل الحكم الأخلاقي ناجمٌ عن الالتباس المتعمد بين الحقول التعبيرية الثلاثة هذه. بعض الباحثين يربطون الالتباس بالاختلال النفسي الذي يصيب الناس المضطربين في قعر وعيهم الباطني. لذلك يصعب علينا التمييز بين الإنسان الذي يتعمد الفصل الخبيث بين أفكاره وأقواله وأفعاله، والإنسان المريض الذي يخضع لمثل هذا الفصل من غير أن يدرك عواقبه. ومن ثم، لا تكفي السوية النفسية والبلوغ الناضج، والحرية الأصلية، والتعقل العارف، بل ينبغي أيضاً أن أكون سليم الصدر، صافي النية، صادق الضمير، مخلص السريرة.

المعرفة الصحيحة

أختم بالشرط الأهم، أي المعرفة العاقلة التي ينبغي أن يكتسبها الإنسان الفرد حتى يدرك جميع الأبعاد والرهانات والحيثيات التي تكتنف مسلكه الاجتماعي. أعلم أن جميع الناس ليسوا بقادرين على الإمساك بجميع عناصر الوضعية التاريخية المعاصرة التي تحدد لنا السبيل الأخلاقي الأنسب. وأعلم أيضاً أن كل معرفة تظل ناقصةً ما دامت لا تشتمل على خلاصات العلوم الوضعية والإنسانية الراهنة. ولكن هيهات أن نحظى بمثل القدرة الاستيعابية هذه حتى يستقيم شرط المعرفة الأساسي في تقويم المسلك الفردي. في هذا الحقل لا بد من التمييز بين الحد المعرفي الأدنى والحد المعرفي الأقصى. ليس جميع الناس بقادرين على الفوز بالحد الأقصى. ولكن الحكمة تقتضي أن يستعلموا ويتقصوا ويتحروا باتضاع الساعين إلى تكوين الرأي الأصوب. ولكن المعرفة المنفتحة على آراء العالمين والخبراء وأهل الاختصاص لا تعني المبايعة العمياء. ثمة بونٌ شاسعٌ بين التلقين الشمولي الإكراهي، والتعلم الانتقائي الاستصفائي. ليس كل ما يقوله العلماء بمنزل من العلاء. عصمة الخبراء مشروطةٌ بنسبانية الثقافة التي ينشطون داخل حقولها ويخضعون لمسلماتها.

في جميع الأحوال، ينبغي الاعتصام بالتفكير العاقل، إذ إنه شرط الفعل الأخلاقي، يتطلب منا المعرفة الصحيحة التي تدرك الأمور إدراكاً موضوعيا صائباً. لا يجوز لي أن أقرر قراراً أخلاقياً، وأنا غافلٌ عن حقائق أساسية تتعلق بالوضعيات التي تكتنفني والأشخاص الذين يصاحبونني. وحده التفكر العاقل يمنح الفعل الأخلاقي استقامته وجدارته وصلاحيته. فكيف يمكنني أن أكون عارفاً متعقلاً حكيماً في بناء تصوراتي ومعتقداتي واقتناعاتي وآرائي ومواقفي وأفعالي الأخلاقية؟

nouveau-monde-Barbara-Navi-800x535.jpg

العالم الجديد بريشة الرسامة بربارة نافي (صفحة الرسامة – فيسبوك)

من الضروري في هذا السياق أن ننظر في معنى اصطلاح الواجب. لا شك في أن الأحكام المنبثقة من الواجب هي الأحكام التي يمكنني أن أجعلها صالحةً في جميع الأزمنة وجميع المجتمعات، إذ إنها تبدو لي قابلة الانتشار والاعتناق والتطبيق على مستوى المسكونة قاطبة. حين أقول لنفسي: يجب علي أن أفعل هذا الأمر، فإن هذا القول يعني أنه يجب علي أن أفعل ذلك، وأن أجعل كل واحد يفعل الفعل الأخلاقي عينه في الأحوال والأوضاع والقرائن عينها. ومن ثم، فإن معتقداتي الأخلاقية تعبر عن رغبتي في أن أفعل فعلاً أخلاقيا يلائم الحال التي أنا عليها وفيها، ويلائم جميع الأحوال التي تشبهها. لذلك يجب أن تكون المعتقدات الأخلاقية هذه حرةً تعبر عن رغبتي الذاتية من غير أن تخضع لضرورات الوقائع الخارجية، وأن تكون عقلانيةً أو معقولةً، إذ إن منطق الواجب يفضي بي إلى اعتماد منطق في التفكير الأخلاقي العقلاني يستنهض كل طاقاتي الإدراكية وقدراتي التحليلية وملكات الحكم المنغرسة في، ويستثمرها استثماراً حصيفاً فطناً صائباً.

وحدة المعايير في تدبر الأوضاع الحياتية المتشابهة

من القواعد الأخلاقية المبنية على التفكر العقلاني المنطقي أن أزن الأمور وأقدرها وأقومها وأحكم عليها معتمداً على معايير ثابتة تصلح لجميع الأحوال، فلا أغير في المعايير حين تتغير الأحوال. من هذه القواعد أن أعتصم باقتناعاتي الأخلاقية وأجعلها جزءاً من حياتي الخاصة والعامة، وأن أحيا في انسجام مطلق مع هذه الاقتناعات حتى تكون حياتي صورةً أمينةً عن معتقداتي ومبادئي. أعرف أن ما أقوله يشبه القواعد النظرية الخالصة، فلا يشتمل على أوامر أو أحكام أو توصيات أخلاقية معينة. لا تستطيع الأخلاق النظرية أن تسن الأحكام التفصيلية في المسلك اليومي، إذ إن الناس أحرارٌ في اعتماد الأنظومة الأخلاقية العملية التي تراعي خصائص ثقافتهم الذاتية.

أما أقصى ما تطلبه الأخلاق النظرية، في شرط المعرفة الصحيحة، فاكتساب عناصر التفكير المفيدة التي تؤهلني لإدراك آثار أفعالي في حياتي وفي حياة الآخرين. تفترض مثل هذه المعرفة القدرة على تصور أوضاع شتى من الظلم قد تصيب الآخرين من جراء أفعالي غير المسؤولة. ومن ثم، فإن اتساع المعرفة وقوة التصور يساعدان الإنسان في تجنب المعاثر والأخطاء والهفوات والارتكابات.

لا يمكننا أن نثبت الأحكام الأخلاقية أو أن نبطلها بمجرد معارضتنا الأوضاع والوقائع والأحداث. فالتفكير العقلاني في الأخلاق يجب أن يكون تفكيراً عارفاً مطلعاً، واسع المخيلة والآفاق، منسجماً مع الحياة والمسلك اليومي. تتطلب المعرفة أيضاً أن يستقيم فعل الإنسان الأخلاقي على ثلاث ركائز أساسية: التماسكية، والمنطقية، والحيادية الموضوعية.

تتطلب التماسكية أن ينضبط كل شيء في أساس فعلي الأخلاقي انضباطاً متسقاً منسجماً متناغماً، أي أن أفكر وأتكلم وأفعل بالاستناد إلى الخلفية الأخلاقية الناظمة عينها، وباستلهام الاقتناع عينه، وبالسعي إلى الأمر عينه. تقتضي التماسكية أن تأتي رغائبنا وقراراتنا وأفعالنا منسجمةً مع اعتقاداتنا الأخلاقية، وذلك صوناً للتوفيق بين اقتناعاتنا وحياتنا الواقعية. من ضرورات التماسكية أيضاً أن تنسجم الوسائل المعتمدة مع الغايات المنشودة: إذا كانت غاية المرء أن يخفف من وزنه، كان عليه أن يقلل من حجم وجبات الطعام. أما إذا استمر على الوسيلة القديمة (الإكثار من الطعام)، فإن ذلك يعارض الغاية الحميدة الموضوعة، أي التخفيف من الوزن حفاظاً على سلامته البدنية.

لذلك ينبغي البحث الدائم عن التماسكية في كل فعل أخلاقي: فإما أن أغير في المعتقد الأخلاقي، وإما أن أغير في الغاية المنشودة، وإما أن أغير في الوسيلة المعتمدة، وذلك حتى يأتي المسار كله مترابطاً منسجماً مؤتلفاً. من الواضح أن هذه التماسكية تستند أيضاً إلى مبدأ استقامة النية في التوفيق المنطقي بين الفكر والقول والفعل. غالباً ما يخالف الناس مبدأ التماسكية بين الغايات والوسائل، فيفعلون ما لا يريدونه وما لا يساهم في تحقيق الغايات الموضوعة. أقرر أن أمارس الرياضة يوميا، ولكني لا ألبث أن أرجئ الفعل اجتناباً للجهد الصارم الذي يجب أن أبذله من أجل مراعاة القرار الذي عزمت عليه.

المنطقية المسلكية المتزنة

تقتضي منا المنطقية أن نقبل المعتقدات الأخلاقية التي لا تتعارض ولا تتنافر ولا تتنافى، وأن نحكم الحكم الأخلاقي العادل نفسه على أفعالنا وعلى أفعال الآخرين، وأن نقبل النتائج المنطقية التي تترتب عن فعلنا الأخلاقي. أقصد بالمنطقية في هذا السياق أن يسود منطق واحد في تدبر حياتي الشخصية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفنية والمهنية الاقتصادية. من الضروري أن أظل أميناً على تواصلية الهوية التي انعقدت عليها ذاتي منذ الصباح حتى المساء. فأجتهد في الإفصاح عن الشخصية عينها أمام مرآتي، وفي أسرتي، وفي مكتبي، وفي النادي والمطعم والمحفل السياسي والملتقى الثقافي. لا يمكنني أن أكون صالحاً في أسرتي، وسيئاً في علاقتي بجيراني، ومؤذياً في بيئتي المهنية، وفاسداً فاسقاً في التزاماتي السياسية.

6c1f4848fcdc6f8a131ab0012492e927.jpg

المساواة (وسائل التواصل الاجتماعي ـ الصورة تخضع لحقوق الملكية)

ليس من وظيفة المنطقية أن تتيح لنا أن نبرهن برهاناً عقليا قاطعاً على صحة حكمنا الأخلاقي، إذ ليس من برهان عقلي حاسم على معظم قراراتنا الأخلاقية في معترك تحديات الحياة. من أعسر المهمات الفكرية أن يضمن الإنسان صحة قراراته وأحكامه وأفعاله الأخلاقية، إذ إن الفعل الأخلاقي الذي يراعي شروط المنطقية يمكن أن يكون فعلاً خاطئاً سيئاً. ولكن المنطقية تشير إلى بعض من الحقيقة، إذ إن انتفاء التماسك المنطقي في الأفكار والأقوال والأفعال يعبر عن اضطراب أو انحراف أو التواء. بتعبير آخر، ليس من دليل مطلق على صحة القرار الأخلاقي الذي يفضي بالزوج إلى أن يضحي بالجنين الذي تحمله امرأته حفاظاً على سلامتها وصوناً لمقامها في تربية الأولاد الثلاثة الذين نجوا من محنة الإنجاب العسير الذي ابتليت به. وليس من وظيفة المنطقية أن تتدبر انفعالاتنا ومشاعرنا وأن تخضعها لسلطان العقل، إذ إن التوازن بين ملكات الإنسان العقلية والحدسية والعاطفية شرطٌ أساسي من شروط المسلك الأخلاقي السليم. وليس من وظيفة المنطقية أن تضمن سلامتنا العقلية أو النفسية، إذ إن هذه السلامة هي أيضاً شرطٌ أساسي من شروط الفعل الأخلاقي.

الحيادية الموضوعية

تتطلب الحيادية الموضوعية أن أحكم على الأمور حكماً عادلاً واحداً بمعزل عن الأشخاص الفاعلين المعنيين المشاركين. تقتضي الحيادية أن أقوم الفعل الإنساني وأزنه بالاستناد إلى قوام الفعل وطبيعته ومضمونه وأثره، لا بالاستناد إلى هوية الأشخاص الذين يقومون بهذا الفعل أو يشاركون في صنعه. إذا رسمت أن فعلاً من الأفعال صالحٌ أو سيئٌ إذا أتى به شخصٌ من الأشخاص، كان علي أن أحكم أن هذا الفعل عينه صالحٌ أو سيئٌ حين يأتي به أي شخص آخر في الأحوال والقرائن عينها.

ليست الأفعال مشابهةً على الإطلاق في قيمها ومبادئها التي تستند إليها، وفي مضامينها ومحتوياتها ومندرجاتها التي تنطوي عليها، وفي أحوالها وظروفها وقرائنها التي تكتنفها. ومع ذلك، يمكننا أن نتصور قدراً كبيراً من التشابه بين فعلين ينبغي لنا أن نطلق عليهما الحكم الأخلاقي عينه بمعزل عن هوية الأشخاص. ومن ثم، تقتضي مثل هذه الحيادية أن أحكم الحكم عينه على قراري الذي يمنعني، وأنا أسوق سيارتي، من مساعدة عابر طريق ينتظر سيارةً تنقله من مكان إلى آخر، وعلى قرار سائق السيارة الذي مر بي من غير أن ينجدني، وأنا منتظرٌ على قارعة الطريق في طقس عاصف أسأل فيه أصحاب السيارات العابرة أن ينقلوني إلى العنوان الذي أقصده أو إلى الموضع الأقرب. إذا سوغت لنفسي أن أمتنع عن إيقاف سيارتي واستقبال عابر الطريق، وحجتي في ذلك أن عابري السبيل قد يلحقون بالناس الأذية والضرر، فإني مضطر أخلاقيا إلى تسويغ امتناع السائق عن انتشالي من على قارعة الطريق حين يمر بي، وفي ذهنه المخاوف عينها.

بيد أن وظيفة الحيادية لا تفرض علينا أن نعامل الجميع معاملةً واحدةً، إذ بعض الناس يحتاجون إلى عناية أوسع وأشمل. وليس من الحيادية أن نحب جميع الناس حبا واحداً متشابهاً، إذ يستحيل أن نحب الآخرين كما نحب أهلنا وأولادنا. ولكن إذا أحببنا عيالنا حباً أعظم، كان لا بد لنا من أن نقبل أن يحب الآخرون عيالهم حباً أعظم. وبذلك يستقيم مبدأ الحيادية الموضوعية. فما نقبله لأنفسنا نقبله للآخرين. كذلك لا تفرض علينا هذه الحيادية أن نتصرف على الدوام تصرفاً واحداً متشابهاً في الأوضاع المتشابهة عينها، إذ بذلك تصبح الحياة ضجراً وسأماً. فالتنويع المسلكي لا يعني خيانة مبدأ الحيادية الموضوعية، شرط أن أحرص دائماً على رفض التعارض بين فعلين أخلاقيين يختلفان في أصلهما ومستندهما في الأوضاع عينها والظروف عينها. في هذا السياق، لا بد من التذكير بأن ركائز المعرفة التي يستند إليها الفعل الأخلاقي تحترم حريتنا، إذ لا تفرض علينا مسلكاً معيناً أو تحدد لنا سبيلاً من السبل، بل تعزز فينا عقلانية المسلك، إذ ترشدنا إلى السبيل الأنسب الذي يجعلنا نتدبر أحكامنا تدبراً متماسكاً منسجماً منطقياً.

التعليقات معطلة.