رواية الإيطالي جزوالدو بوفالينو تكشف معنى الزمن بين ليلة وصباح
الروائي الإيطالي جزوالدو بوفالينو (دار الرافدين)
من محاسن ترجمة الأعمال الأدبية إلى العربية، ولا سيما الروايات الأجنبية، أنها تظهر جهوداً في الترجمة جبارة، تضيف إلى جمال الأصل جمالاً في النقل، وتسلط أضواء مضاعفة، سواء على مضامين الأعمال الأدبية المترجمة والقضايا المنظور فيها، أو على اللغة العربية التي نقل بها المترجمون هذه الأعمال، حتى جاز أن تكون تحفاً أدبية تضم إلى أخواتها المصوغة باللغة الأصيلة.
من هذه الأعمال رواية “أكاذيب الليل” للكاتب الإيطالي جزوالدو بوفالينو (1920-1996)، والصادرة عن دار الرافدين، وقد توالى على ترجمتها كل من الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار (1955-2009) من الفرنسية، وحالت وفاته دون إتمامها، فعاود الشاعر السوري أمارجي استكمال ترجمتها من الإيطالية، وتقديمها على الصورة الحالية.
نشير أولاً إلى أن الروائي الإيطالي، المولود في سيسيليا، كان قد تنقل في أعماله، قبيل الحرب العالمية الثانية وهو فتى، قبل أن يلتحق بالجيش الإيطالي، ويأسره الجنود الألمان في إحدى المعارك، ومن ثم يتمكن من الفرار، ويلجأ إلى أصدقاء له. وكان يعتاش من ترجمة بعض الأعمال الأدبية من الفرنسية إلى الإيطالية. نشر أولى رواياته عام 1950، وكانت بعنوان “ناشر الوباء”. أما الرواية التي نحن بصددها “أكاذيب الليل” والتي نال بفضلها جائزة ستريغا عام 1988 فكانت الرواية مدخله إلى العالمية، لكونها حملت في طياتها أبعاداً روحية ونفسية وشعرية، شأن أعماله السابقة واللاحقة، والتي جعلت من بوفالينو، وفي زمن قصير نسبياً، أحد أهم الكتاب في سيسيليا، إلى جانب جيوزيبي بونافيري وفينسانزو كونسولو وغيرهما.
الرواية الإيطالية بالترجمة العربية (دار الرافدين)
يضع الكاتب بوفالينو روايته في إطار زمني عام هو نهاية القرن الثامن عشر، وعلى نحو متزامن مع اندلاع الثورة الفرنسية الحاملة مبادئ “الأخوة والعدالة والمساواة”. أما زمن القص فيحصره الكاتب في ليلة واحدة وصباح النهار التالي، إذ يحكي عن آخر ليلة يقضيها أربعة محكومين بالإعدام، بتهمة “التآمر على الذات السلطانية”، وفيها يخيرهم الحاكم بين أن يبوح أحدهم باسم الرأس المدبر لعصابتهم التي عاث أفرادها فساداً، بنظره، واضطراباً في المملكة، وحرض على السلطان وقتل وانتهك حرمات، فيعفو عنهم، ويعودوا إلى ديارهم، وبين أن يُعمل السيف في رقابهم، وينتهي أمرهم “أربعة أبدان، مفصولة عن رؤوسها”.
ولكن الرواية وإن قصر الروائي وقائعها في إطار ضيق للغاية بين جدران الزنازين الأربعة، حيث المحكومون وسط قلعة بحرية وحصينة وعصية على الاختراق أو النفاذ منها، فإنها انطوت، كما أشرنا، على حوارات بين الشخصيات، وشهادات يؤديها كل من المحكومين بتحريض من محكوم خامس، أو مندس من قبل الحاكم للتعرف أكثر إلى المتهمين وتميز كل منهم، وإحالات على أهم مرجعيات روحية وفلسفية في عصر التنوير والتثوير والرد عليهما. وإن دل ذلك فعلى تبحر الكاتب بوفالينو في معارف ذلك العصر، والجدالات الفكرية التي أفضت إلى الثورة الفرنسية، وشاعت مثالاتها وأفكارها في سائر البلدان الأوروبية، ولا سيما إيطاليا التي عانت من الأخيرة احتلالاً دام سنة كاملة (1798-1799) شكل تهديداً لكل ميراث النهضة والإمبراطوريات الرومانية والكنيسة، على السواء.
الرواية بالأصل الإيطالي (دار بومبياني)
إذاً، تبدأ الرواية بالتعريف بكل من المحكومين، وهم على التوالي، كورادو إنغافو، وكان متهماً بكونه من الفرقة الهدامة والإرهابية، ولئن بدا ذا وجه متطاول وملتحياً، وعلى “قدر من العذوبة، فإنه ميال إلى الأفكار الأكثر شذوذاً وجنوناً” (ص:19). وبعده يعرفنا الكاتب بمحكوم آخر يدعى ساليمبيني، واصفاً إياه بأنه شاعر مزعوم، “نظم بعض الأراجيز ضد السلطان والكنيسة” (ص:21)، وأنه تنقل في أشغاله، بين عامل للمطبعة وأستاذ، وإن بدا أنثوي المظهر، “ضاحك العينين، سمح المحيا”، فإنه، وبسبب شاعريته هذه كان ذا قدرة “على الإقناع بالشر”. ولعلها تهمة تعادل بخطورتها “التآمر على الذات الملكية”، بالتالي استحق من أجلها الحكم بالإعدام، بمنظور الحاكم المستبد. أما المحكوم الثالث فكان يدعى نرتشيزو لوتشيفورا، وهو طالب، “فتي الطلعة”، صغير السن، كان قد عرف بتمرده على كل سلطان “أرضياً كان أم سماوياً”، وأنه كان عابداً للجمال وعضواً في مجلس المديرين الجمهوريين، وأنه اتهم بتداوله رسائل بلغة سرية مرمزة، بمحتوى فاحش. وعليه انطبقت على فعله سمات التعدي “على الذات السلطانية” فاستحق حكم الإعدام!
والمحكوم الرابع يدعى جيسلاو، مجهول الوالدين، وكان ترعرع في دير تمهيداً لرسمه كاهناً، إلا أنه هرب منه ولم يبلغ السادسة عشرة. ولكنه، وإن انخرط في الجيش فإنه خالف أوامر ضابطه المباشر، وقتله، ومثل بأعضائه. وكان خبيراً في تدبر “أنواع الفتائل والألغام وأنواع المتفجرات”، وكان المسؤول الأول عن محاولة اغتيال السلطان في 7 فبراير (شباط) يوم اليوبيل.
الراوي العليم
ويحكي الراوي العليم كيف أن الحاكم أمر بأن يمر الحلاق على كل من هؤلاء المحكومين، ليقص له شعره، استعداداً لليوم المشهود، وهذا ما حصل، ثم أرسل إليهم كاهناً يدعى تورلا ليعترف له كل منهم بخطاياه، إلا أنهم ردوه خائباً، ولكن شخصاً آخر، ربما اعتبر المحكوم الخامس، وكان يدعى الأخ تشيريلو، على أنه من قطاع الطرق، وناهب القصور، لبث بانتظار عودتهم من الحلاقة والحمام، أفلح في حثهم على الإدلاء بما يشبه شهادة حياة. ورأيت كلاً منهم يصنع عن نفسه صورة أقل ما يقال فيها إنها شاعرية ومثالية، وإنها تذهب بالمتكلم إلى أغوار غير معهودة. ومن هذا القبيل شهادة الحياة التي يرويها الطالب نرتشيزو على أنها “قصة حب”، يتدرج فيها من تعلقه بإحدى الفتيات، لمناسبة كرنفال، واكتشاف أنها امرأة متزوجة من رجل سجين، وكيف أنه غامر لكي يوصلها بزوجها السجين في إحدى القلاع، و”هكذا، في تلك الليلة، حين بلغنا أخيراً شط الأمان، تعلمت منها الحب بكنهه الأعمق” (ص:71)، ولكنه يختم حديثه بالقول إنه وقع بعد ذلك في حب أخريات، وإنه سيتذكر محبوباته وهو على شفرة المقصلة!
وعلى هذا النحو، تتوالى شهادات المحكومين الثلاثة الباقين، على شكل قصص متراوحة في الطول، البارون ساليمبيني وحكاية خيبته مع أخيه التوأم، والذي لن يتخلى عن حصته الراجحة في الوراثة، بسبب أوليته في الولادة، ورواية الجندي آجيسلاو ذي الثلاثين عاماً والذي يجادل في حقيقة وجوده (“أشك كثيراً في أن الأشياء تحدث حقاً وفي أنني أنا نفسي موجود”، ص:117) وقد اتضح له، بعد بحث مضن، أنه ابن لقيط لأب وضع فيه كل نزعة عنفية، استدعت منه قتله، إذ قال له البارون: “لست أنت من قتل أباك، بل هو أبوك من قتل نفسه بيديك!” (ص:138)، في ما يشبه استثمار نتاج علم النفس، وعلم نفس الجريمة الحديثين، إلى جانب الإفادة من المعارف التاريخية الدقيقة والتي تتيح للروائي أن يصوغ صورة قابلة للتصديق وأقرب إلى الواقع التاريخي لأواخر القرن الثامن عشر في إيطاليا، بعيد استعادة الإيطاليين زمام المبادرة من الجيش الإمبراطوري الفرنسي.
باختصار، رواية “أكاذيب الليل” وإن تكن خلواً من أي حدث درامي أو حبكة محورية خارجية بخلاف ما عليه بنية الرواية التقليدية، فإن الروائي بوفالينو يشاكس فيها بعضاً من مكونات الرواية، فهو يوزع أمداء الرواية إلى بؤر أو أصوات عديدة، يتولى كل صوت (شخصية) تكوين جانب من شبه العالم (شخصيات، مكان، زمان، أحداث)، وينفح كلاً من هؤلاء رؤية خاصة به يحملها جانباً من خطاب في المسائل المطروقة، إلى جانب بعض شواغل الكاتب الكبرى، ولا سيما البعد الوجداني والجمالي المتمثل في الشعر المبثوث في الرواية، ولا سيما حين يتأكد المحكومون أنهم سائرون إلى الموت المحتم: “الخشبة انتصارنا/ نصعدها ضاحكين،/ ولكن دم الأبطال المحاربين/ لن يذهب هدراً./ سيكون لنا أتباع/ مغاوير أوفر منا حظاً/ ولكن حتى لو عاكسهم القدر/ وكان عديم الرحمة معهم/ ستكون لهم فينا أسوة حسنة/ كيف يكون الرجال…” (ص:80).
للكاتب الإيطالي بوفالينو عديد من الروايات منها “ناشر الوباء”، و”الأعمى” أو “أحلام الذاكرة”، و”الالتباس”، كما له مجموعات قصصية منها “سارق الذكريات” و”أزمنة لا وجود لها”، إلى جانب مجموعات شعرية منها “العسل المر” و”متحف الظلال” و”الجنون والسقم”.
هذا ولم نشر إلى البراعة، بل إلى الجمال والإتقان في اللغة العربية، التي نقل إليها المترجمان، الشاعر الراحل بسام حجار، والكاتب السوري أمارجي، هذا العمل الأدبي الكبير. وليكن القارئ العربي على يقين أن لهذا الأدب المنقول حسنة الأدب الحي الأصيل، ما دام صانعاه ينقشان، وينحتان من معين العربية الأصيلة معادلاً يليق بجمال المنقول.