كثيرة هي المصطلحات والتعابير التي تتردد من حولنا دون وعي وإدراك لمدى واقعيتها. وقد يكون ذلك من باب التفاؤل والتمني بقدوم ما هو أفضل من حال اليوم، أو من أجل حلم مشترك يسعى الجميع لتحقيقه. فالعرب جيل بعد جيل يطلقون دائماً مصطلح الأمة العربية على بلدانهم. ويجرى الحديث كما لو أن هناك وحدة حقيقية قائمة بإمكانياتها الهائلة على أرض الواقع. فمع وجود عوامل اللغة والدين والتاريخ المشترك، بدا أن هذا الحلم وشيك الحدوث لا محالة. ومع ذلك يبقى التساؤل مشروعاً دائماً وهو: هل كان للعرب يوماً كيان متحد طوال تاريخهم؟ وهل كان هذا الكيان، إذا ما كان قد تحقق، قائماً على أسس راسخة وصلبة قابلة للاستمرار والتطور؟
يخبرنا التاريخ أن القبائل العربية قبل الإسلام كانت منتشرة في صحراء شبه الجزيرة في مكونات صغيرة ومتناحرة في ما بينها. وإن حدث وتشكلت بعض التحالفات في فترات متباعدة، فهي تحالفات وقتية أوجبتها ظروف طارئة، كما حدث في مواجهة الفرس يوم ذي قار. فهي بكل تأكيد لا تشكل الحالة السائدة. وبعد ظهور الإسلام، تمكنت هذه القبائل من توحيد صفوفها في كيان قوي متماسك، بالرغم من منغصات حروب الردة وصراعات الفتنة الكبرى. بل نجح هذا الكيان الوليد في تخليص العراق والشام من براثن الاحتلال الأجنبي والقضاء على حكم الإمبراطورية الفارسية وإنهائها من الوجود، وإقصاء الإمبراطورية الرومانية عن مواقعها في بلاد الشام وإجبارها على الانكفاء الى حصونها في آسيا الصغرى (تركيا حالياً). وخلال حكم الأمويين، بلغ هذا الكيان العربي أوجه في الاتساع. وامتد من حدود الصين شرقاً إلى بلاد الأندلس غرباً. وشمل العديد من الأعراق والقوميات الأخرى، كالفرس والكرد والأتراك والأرمن والهنود والأوزبك والأمازيغ وغيرهم كثير. ومع قدوم العباسيين إلى الحكم، بدا للوهلة الأولى عظمة هذا الكيان وسطوة نفوذه. إلا أن الأمور على أرض الواقع بدت مغايرة تماماً. فقبل ذلك لم يكن لهذا الكيان جيش مستقل ودائم. حيث كانت الجيوش عبارة عن مجموعات من المتطوعين (المجاهدين) يعودون إلى ديارهم متى ما انتهت المعارك. وكان يتم الاحتفاظ بتشكيلات عسكرية صغيرة لحماية الثغور والقلاع. لكن مع قدوم الحكام الجدد تغيرت الصورة. حيث شرع بنو العباس في بناء جيش نظامي جرار يؤمّن لهذه الإمبراطورية الشاسعة حدودها المترامية الأطراف. ولعزوف غالبية العرب عن حياة الجندية الدائمة، بدت الفرصة سانحة لأبناء القوميات الأخرى، وخصوصاً من الأتراك، للانخراط في هذه التشكيلات العسكرية المستحدثة. ومع مرور الوقت، اعتلى هؤلاء المجندون الجدد الرتب العليا في الجيش وازداد نفوذهم يوماً بعد يوم. حتى بلغت الحالة في أواخر الدولة العباسية تلاشي الدور العربي تماماً وبروز قوى حقيقية أخرى على الأرض.
وبعد غزو الأتراك أرض مصر، أعلنوا نهاية الحكم العربي وقيام دولتهم العثمانية التي دامت لأكثر من ستة قرون، خيّم خلالها على العرب صمت مخيف، حيث انتشرت الأمية والجهل بينهم. وازداد الفقر والجوع. وأصبحت مرابعهم ساحات صراع مفتوح بين القوى الأوروبية الناشئة والعثمانيين. ومع بدايات القرن العشرين، انبعث الأمل مجدداً في قيام كيان عربي جديد. حيث قام العرب بثورتهم الكبرى على العثمانيين، ونجحوا في تحرير أرضهم وتخليص أنفسهم من الحكم العثماني. إلا أنه سريعاً ما تلاشت آمالهم بدولة مستقلة موحدة. فقد وقعوا فريسة سائغة في يد الإنكليز والفرنسيين الذين تقاسموا أراضي العرب في ما بينهم تحت مسمى اتفاقيات سايكس بيكو. ومع ذلك، استمر العرب في نضالهم ضد المحتلين الجدد، لكن مع صبغة وطنية هذه المرة بعيدة كل البعد من فكرة الدولة العربية الموحدة. لقد تمكنوا في نهاية المطاف من نيل استقلالهم على هيئة كيانات منفصلة قائمة بذاتها، وإن تم وضع إطار مستقبلي للوحدة من خلال تأسيس جامعة الدولة العربية. ثم ظهرت بعد ذلك حركة القومية العربية بقيادة الزعيم المصري جمال عبد الناصر والتي أحيت الأمل مرة أخرى في اتحاد عربي جديد. إلا أن هذا الأمل لم يدم طويلاً هو الآخر. فقد جاءت نهايته بعد فشل الوحدة بين مصر وسوريا وهزيمة عام 1967.
كان لوقع انتكاسة التجربة الناصرية أثر كبير في الضمير العربي. فقد ضاعت أحلام الوحدة، وجرى التعويل بعدها على العمل المشترك من خلال الجامعة العربية ومؤسساتها. إلا أن الجامعة راوحت مكانها وأبدت عجزها في كثير من القضايا المفصلية، وذلك لطبيعتها التوافقية الخالية من الإلزام والالتزام. ثم جاءت فترة التحالفات الإقليمية المندرجة تحت عنوان التعاون في طريق التكامل وتحقيق الوحدة السياسية. إلا أنها هي الأخرى عانت خلل الجامعة العربية القديم. وأضحي استمرارها، وإن دون نتائج واقعية، هو أعلى درجات الطموح. كل هذا أدى إلى التمسك أكثر بالدولة الوطنية والمحافظة على مكتسباتها، وإن ظلت دائماً هذه الكيانات عرضة للمخاطر والتهديدات الصادرة من القوى الأخرى في الإقليم. وللحقيقة فإن بعض هذه الكيانات الوطنية حقق كثيراً من الإنجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأثبت أن العمل المنفرد يمكن أن يثمر نتائج أفضل من العمل الجماعي المثقل بتعقيداته، وأن عوامل اللغة والدين والتاريخ المشترك لا تكفي وحدها لإتمام التجارب الوحدوية. حيث لا بد من وجود رؤية شاملة ومصالح مشتركة ونيات حقيقية لإنجاح أي منها. وحتى ذلك الحين، سيبقى مصطلح أمة عربية واحدة مجرد شعار فضفاض خاو من المعاني الواقعية.
أمة عربية واحدة!
التعليقات معطلة.