ما بين جنّة الأمل ونار الفقد، تجلس تلك الأم العراقية بانتظار معرفة مصير ابنها بعد قرابة الثمانية أعوام على خطفه وتغييبه مع مجموعة كبيرة من أهالي مدينة الرمادي في أثناء عمليات تحرير المدينة من تنظيم داعش. يومها، اختطفت مليشيات مسلّحة تنتمي لأحزابٍ في السلطة ابنها مع مئات من أهالي المدينة الذين كانوا يرومون الهرب منها بعد سيطرة تنظيم داعش، وتتساءل بحرقة وهي تغالب دمعها “إذا كان حي نريده وإذا كان جثة همْ (أيضا) نريده”، ولا مجيب لدموعها، وهي تنتظر على نار جمرٍ أكلت من محيّاها وحياتها، حتى دهمتها أمراض شتى.
لا أحد يتذكّر المغيبين والمختفين قسراً في العراق، ما خلا بعض المراصد الحقوقية التي أخذت على عاتقها التذكير بمأساتهم كلما سنحت الفرصة لذلك، ومنها مرصد أفاد الذي بثّ مقابلات مع أمهات المغيبين والمختطفين وعائلاتهما، مناشدا الحكومة العراقية وضع حد لهذه المأساة التي تفيد تقارير المرصد العراقي لحقوق الإنسان بأنه تلقى 11 ألف بلاغ من عوائل عراقية تطالب بالكشف عن مصير أبنائها.
لا تتوقف المأساة العراقية عند حد التغييب والاختفاء، بل تعدّتها إلى أن تحوّلت هذه المأساة إلى قضية تتاجر بها الأحزاب والكيانات السياسية كلما دعت الحاجة، فما من انتخاباتٍ إلا وتتصدّر هذه القضية أجندات قوى سياسية عراقية تدّعي أنها لن تقف مكتوفة الأيدي حيال هذا الملف، ولكنها سرعان ما تغيّر بوصلة الحديث والاهتمام بمجرّد أن تنتهي الانتخابات وتحصد هي أصوات وثمرة تجارتها بهذه القضية الإنسانية.
ربما لا يُعرف على وجه الدقّة عدد العراقيين المغيّبين والمختفين قسراً منذ 2003، ولكن المؤكد أن الغالبية من عمليات الاختفاء والتغييب جرت عقب سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من العراق عقب عام 2014. والمؤكد أيضا أن جزءاً كبيرا من عمليات التغييب والاختفاء قامت بها مليشيات مسلّحة تنتمي للحكومة العراقية، كونها تشكيلات ضمن الحشد الشعبي الذي يعدّ قوة عسكرية تابعة للقائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء، ولك أن تتخيّل ماذا يعني أن تطالب جلادك بأن ينصفك؛ أنت الضحية.
يخرج رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي مطلع العام الحالي في مقابلة متلفزة، ويدعو إلى اعتبار المغيبين، وخصوصا من مناطق شمال العراق وغربه، مغدورين، ليفتح جرحاً آخر في جسد الضحية المدمّى أصلا، ولتتعالى أصوات ذويهم؛ إن كان رئيس البرلمان يعرف أن مصيرهم القتل فلماذا لا يخبروننا؟ لماذا لا نعرف من قتلهم؟ لماذا لا يتحدّد مكان دفنهم؟ لماذا تجاهل هذه المأساة الإنسانية؟ ولا من مجيب، لتبقى هذه القضية الإنسانية تجارة رابحة لدى القوى السياسية السُنية تحديدا، تجدّد الإعلان عنها كلما دعت حاجتها إلى ذلك، متناسية، بوقاحة، ما تعنيه هذه المأساة لآلاف العوائل.
وبينما يحتفل العالم في 30 أغسطس من كل عام بيومهم العالمي، يحتل العراق صدارة الدول في أعداد المغيّبين، حيث تؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن العراق من البلدان التي فيها أكبر عدد من المفقودين، إذ تقدّر اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي أن العدد قد يتراوح منذ عام 2016 إلى 2020 بين 250 ألفًا ومليون شخص. وهذا عدد كبير جداً، من دون أن يتناسب معه طردياً أي جهد حكومي من أجل وضع حد لهذا الملفّ، بل تمارس الحكومات العراقية دوراً سيئا في تمييع هذا الملف، وتسعى بكل ما أوتيت من سلطة إلى حماية الفاعلين، ليس فقط عدم ملاحقتهم، وهو ما تمثل في عدم إقرار قانون الإخفاء القسري، على الرغم من أنه جرى تقديمه إلى البرلمان العراقي، إلا أن الحكومة عرقلت إقراره بمختلف الطرق، لتبقى لوعة الأم حاضرة في مشهد يتكرّر منذ سنوات، من دون أن يجد صوتها أي صدى بين جنبات عالم السياسة والمصالح القذرة التي تُسير المشهد في عراق اليوم.
نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش، في سبتمبر/ أيلول 2015، تقريرا مفصّلا عقب استعادة القوات العراقية السيطرة على مدينة تكريت (مركز محافظة صلاح الدين) شمال بغداد، حيث اتهمت المنظمة مليشيات مسلحة بأعمال القتل الوحشية في مدن محافظة صلاح الدين، وهي كل من فيلق بدر ولواء علي الأكبر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وسرايا الخرساني وجند الإمام وجميعها تتبع الحشد الشعبي.
ذلك جانب من مأساة الاختفاء القسري في العراق، ملفّ لا يبدو قابلا للحلّ في قريب أو بعيد، فالجهات المتّهمة بعملية التغييب هي السلطة، فعلى الرغم من أن رئيس الحكومة محمد شيّاع السوداني وصف تلك المطالب بالكشف عن مصير المغيّبين بأنها حقوق، إلا أنه وبعد عشرة أشهر تقريبا من حكومته، لا يبدو قادرا على فعل شيء. وهناك في بيت في أقاصي مدينة الرمادي ما زالت الأم الثكلى تلهم حنظل الصبر بانتظار عودة ابنها المغيّب، تبحث في جنبات الأخبار التي تتقاطر كل ثانية عن رائحة أمل، ورغم ضآلته بعد كل هذه السنوات ما زالت تُمني النفس بعودةٍ طال انتظارها.