الشّعبوية والسّلطوية الرقميّة

1

 المصدر: النهار العربي

أحمد نظيف

أحمد نظيف

 مواطنون في انتظار الخبز امام أحد المخابز في تونس (أ ف ب)

فيما يواجه التونسيون منذ شهور أزمةً اقتصادية غير مسبوقة في تاريخهم المعاصر، تتجلى في شكل طوابير طويلة أمام المخابز ومحال بيع المواد الأساسية، تجندت ثلاث وزارات رئيسية في حكومة الرئيس قيس سعيد لمواجهة “تشويه رموز الدولة”. فقد  قالت الحكومة التونسية إنها ستلاحق قضائياً، دورياً، منشورات ومنصات على مواقع التواصل الاجتماعي بدعوى مكافحة الأخبار الكاذبة والإضرار بمصالح الدولة وتشويه رموزها. وصدر بيان مشترك موقّع من وزراء العدل والداخلية وتكنولوجيا الاتصال، يحذر من الإسهام أو المشاركة في نشر محتوى مواقع ملاحقة لدى القضاء. وقال البيان المشترك إن السلطات بدأت بالفعل تحقيقات قضائية للكشف عن هويات مستخدمي حسابات تنشر أو تروج أخباراً كاذبة أو شائعات غير صحيحة بنية التشهير والإساءة للغير والإضرار بالأمن العام والسلم الاجتماعي ومصالح الدولة والسعي لتشويه رموزها. وأضاف أنه سيجري نشر قوائم الصفحات الملاحقة دورياً على المواقع الرسمية. تبدو الأولويات واضحةً بالنسبة إلى السلطة الحاكمة: أولاً وأخيراً، الحفاظ على استقرار السلطة مهما كانت الأوضاع في القاع كارثيةً ومنذرةً بهبة شعبية يحركها الجوع قبل السياسة. وإن كان جوع الناس في جوهره سياسةً للحكم الذي لم يفلح في تحويل أي شعار من شعاراته حول التنمية والسيادة إلى حقيقة، نجح قيس سعيد منذ 25 تموز (يوليو) 2021 في تأميم المبادرة الشعبية وفي تقليص هامش تحرك الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات ونقابات وجمعيات، ونجح إلى مدى بعيد في إنتاج مناخ من الخوف محروس بالأجهزة الأمنية والعسكرية، أفرغ المجال العام الواقعي على الأرض من أي نشاط سياسي معارض أو ناقد. لكنه مع كل ما يملكه من قوة تنفيذية ورمزية، فشل في إخضاع المجال العام الافتراضي على الإنترنت، إذ حافظت الشبكات الاجتماعية على نوع من الخطاب المضاد للسلطة بعضه يميل إلى الجد، وكثير منه يميل إلى الهزل والسخرية في مواجهة واقع أشد سخريةً.

لذلك دأبت السلطة منذ أكثر من عام على محاولة السيطرة على هذا المجال الافتراضي، بوصفه آخر مساحات التعبير الحرّ، وآخر مجالات الخطر الشعبي ضدها. في أيلول (سبتمبر) 2022 أصدر الرئيس سعيد قانوناً في شكل مرسوم رئاسي يتعلق بــ”مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال”، خلاصته أن الدولة وحدها، ورئيسها وحده، من يحق لهما بث الشائعات، من خلال إنزال عقوبات ثقيلة بكل من يروّج الشائعات، حتى وإن كانت هذه الشائعات مجرد رأي نقدي ضد السلطة. يشير القسم الثالث من القانون، والذي يحمل عنوان “الشائعة والأخبار الزائفة” إلى أنه: “يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو شائعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذباً للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان. ويعاقب بالعقوبات نفسها المقررة بالفقرة الأولى كل من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر، أو شائعة أخبار، أو وثائق مصطنعة، أو مزورة أو بيانات تتضمن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به مادياً أو معنوياً أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية. وتضاعف العقوبات المقررة إذا كان الشخص المستهدف موظفاً عمومياً أو شبهه”. كما يؤكد أن العقوبات المقررة سوف تكون مضاعفةً إذا كان الشخص المستهدف “موظفاً عمومياً أو شبهه”، لكأن الذي ينتمي إلى الجهاز البيروقراطي للدولة أعلى درجةً في المواطنة من التونسي الذي يقف في الطوابير الطويلة أمام المخابز، ولا يجد بداً من الاحتجاج سوى نشر نكتة أو صورة ساخرة على حسابه في “فايسبوك” من واقعه البائس. والمؤسف أن العشرات قد تمت محاكمتهم وسجنهم بموجب هذا القانون، بينهم شعراء وصحافيون.  اللافت في هذه الاستدارة الشعبوية نحو الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، هو مدى اعتماد السلطة الشعبوية في تونس اليوم على هذه الشبكات للدعاية واستدامة علاقات الولاء مع أنصارها، وقبل ذلك كانت قد اعتمدت عليها حصرياً للوصول إلى الحكم. فهناك المئات من الصفحات والآلاف من الحسابات الموالية للسلطة والتي تقوم على نشر الأخبار الزائفة وتشويه المعارضين، وبخاصة التحريض والوشاية ضد أي ناقد أو معارض، إذ تحولت إلى شكل من أشكال الميليشيات الرقمية، التي تعمل على نحو موازٍ للسلطة كهياكل قمع رمزي.  تلعب الإنترنت في الأنظمة الاستبدادية والهجينة دوراً غامضاً. فهذه الشبكة تمتلك في الوقت نفسه ميزة تكنولوجيا التحرير وفرص الاستبداد الرقمي. ورغم أن المستبدين تعلموا الاستفادة من الإنترنت لمصلحتهم، إلا أنهم يدركون إمكاناتها التحررية. كلما تعرض البقاء السياسي للنظام للتحدي، فإنهم يستخدمون أدوات تلاعبية لتجنب عدم اليقين. لقد أصبحت سياسات الرقابة الرقمية والميليشيات الإلكترونية وقطع الإنترنت أدواتٍ شائعةً في العالم اليوم. لذلك فإن نظام قيس سعيد اليوم لا يبدع جديداً، لكنه في الوقت نفسه يعمق من أزمته على نحو واضح، من خلال إغلاق مجالات التعبير، في ظل وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي يتدهور في نسق متسارع نحو الهاوية.

التعليقات معطلة.