يتناول يان ريمان الظاهرة في كل جوانبها وعبر مجالات ظهورها ومستويات حضورها في الوعي والفكر والواقع العيني
كارل ماركس بريشة سيسيليا فيكوناس (صفحة الرسامة – فيسبوك)
ينطلق الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يان ريمان Jan Rehmann في كتابه “نظريات الأيديولوجيا: قوى الاغتراب والإخضاع” Theories of Ideology The Powers of Alienation and Subjection من المعالجات الماركسية للأيديولوجيا باعتبارها مفهوماً وظاهرة، ابتداءً من ماركس وإنغلز، وعبر الماركسيين اللاحقين. ويركز على تطورات المفهوم لدى الاتحاد الدولي الاشتراكي الثاني، ولدى الماركسيين الروس بمختلف توجهاتهم، والماركسية الغربية التي تبدأ بجورج لوكاتش ومدرسة فرانكفورت، وما تلاها من اتجاهات نقدية لدى غرامشي وألتوسير ومدرسته. ثم يتتبع المفهوم ذاته لدى الاتجاهات التي لا تصنف عادة على أنها ماركسية ولكن تقاطعت دراساتها مع دلالات المفهوم، مثل اتجاهات فوكو وبورديو، وتيار ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. والكتاب دراسة تاريخية ونظرية في الوقت نفسه. فهو يتتبع تاريخ مفهوم الأيديولوجيا والتحولات التي جرت على استخداماته عبر قرن ونيف من الزمان، وهو كذلك دراسة نقدية مقارنة لفهم التيارات السابقة للأيديولوجيا؛ إذ يحلل هذا الفهم بدقة نظرية وضبط تصوري بارع، بحسب مترجم الكتاب إلى العربية أستاذ الفلسفة في كلية الآداب، جامعة الإسكندرية أشرف حسن منصور. والنسخة الإنجليزية من الكتاب صدرت عام 2013، بينما صدرت الترجمة العربية حديثاً عن المركز القومي المصري للترجمة.javascript:false
يعدّ يان ريمان (1953)، من مجددي الفكر الماركسي المعاصرين؛ فهو عمل على إحيائه وتوظيفه في دراسة الأوضاع الحالية، مثل صعود الليبرالية الجديدة وما صاحبها من حركات اجتماعية معارضة في الغرب، عموماً والولايات المتحدة الأميركية بخاصة. وينتمي ريمان لمدرسة فكرية ألمانية ظهرت في سبعينيات القرن الماضي، أطلقت على نفسها اسم “مشروع نظرية الأيديولوجيا”، وهي تخرج عن معالجة الظاهرة الأيديولوجية باعتبارها مجرد ظاهرة فكرية في الوعي، وتدرسها باعتبارها ممارسات وسلوكاً وأفعالاً ومؤسسات. وهو ما قدمته المدرسة نفسها على أنه عودة إلى معالجة ماركس وإنغلز الأصلية للأيديولوجيا.
الكتاب بالترجمة العربية (المركز القومي )
ريمان هو واحد من مجموعة الباحثين الذين يعملون في “المعجم التاريخي النقدي للماركسية”. وهو مهتم كذلك بالجانب التطبيقي لمفهوم الأيديولوجيا؛ إذ يقدم تحليلاً نقدياً لفكر أحد أبرز آباء الليبرالية الجديدة وهو فريدريك هايك، مستعيناً بفهمه الخاص للأيديولوجيا في تحليل فكر هايك باعتباره أيديولوجياً بالدرجة الأولى وبطريقة لا تظهر مباشرة من الاطلاع السريع على كتاباته.
يحلل ريمان – بحسب ما ورد في مقدمة المترجم – ظاهرة الليبرالية الجديدة باعتبارها ظاهرة أيديولوجية، ليست فكرية وحسب بل مادية كذلك، ولا تكرس للوعي الزائف وحده، بل تعتمد في عملها على النظم والمؤسسات التي أنشأتها الرأسمالية في مرحلتها المتأخرة، وعلى نمط الإنتاج الرأسمالي الجديد العالي التقنية والمرن للغاية، والمعتمد على إخضاع الذوات الفاعلة بطريقة توهم باستقلالها وتسييرها الذاتي، في وقت خضوعها الطوعي للنسق الرأسمالي في مجالاته كافة.
السلطة والمجتمع
الكتاب بالأصل الإنجليزي (أمازون)
يتناول الكتاب ظاهرة الأيديولوجيا في كل جوانبها وعبر كل مجالات ظهورها ومستويات حضورها، سواء أكان هذا الحضور في الوعي أو في الفكر أو الواقع العيني على حد سواء. والإطار العام الذي يضم هذه الظاهرة هو علاقة السلطة بالمجتمع، سواء كانت سلطة الدولة أو الطبقة الاجتماعية أو التراث الديني. فلا تستطيع أي سلطة العمل على مَن يخضعون لها إلا داخل إطار يبرر لها شرعيتها، في أعين الخاضعين وفي أعين من يمارسون السلطة معاً. وبذلك فإن الأيديولوجيا هي الوسط الذي تعمل فيه السلطة. ولا تستطيع أي سلطة العمل إلا في ظل بعض القبول لشرعيتها وبعض الاعتراف بما تدعو إليه من مبادئ ومعايير. ولأن الاتجاه الماركسي في الأساس اتجاه بيْني، يضم في رؤيته مجمل الواقع الاجتماعي وشامل في منهجه، فقد دُرست فيه الظاهرة الأيديولوجية بتوسع وعمق لا نجدهما في أي اتجاه آخر. صاغ ماركس وإنجلز مصطلح الأيديولوجيا كما نعرفه الآن، وألحقا به كافة المعاني والدلالات التي بحثتها كل الاتجاهات الماركسية التالية.
غرامشي وألتوسير
من هنا فإنه يمكن التعاطي مع كتاب ريمان على أنه “تنظير لنظريات”، أي أنه يحاول إقامة نظرية في تاريخ وتطور المعالجات النظرية للأيديولوجيا، وهذا ما أدى إلى تركيزه الشديد وزيادة تعقيده، بحسب المترجم. كما أنه يتدرج من الصعوبة إلى السهولة، فالفصول الأولى أصعب، والتالية تزداد سهولة. أما الفصل السادس عن ألتوسير فهو معقد – يقول منصور – لكنه ليس عسيراً على الفهم، وهو عبارة عن “مبارزة فكرية”. والمؤلف متحيز لنظرية غرامشي في الهيمنة، وفي إطارها ينظر إلى الظاهرة الأيديولوجية على أنها تتأسس في الهيمنة وبمقياسها يحكم على نظريات الأيديولوجيا التي تناولها وقد تبناها ووظّفها في أعماله الأخرى، مثل دراسته عن العلاقات المعقدة والمتشابكة بين النازية والكنيسة ودراسته عن سوسيولوجيا ماكس فيبر وعن حركة “احتلوا وول ستريت”. إن النخب الرأسمالية والمالية وممثليهم السياسيين والأيديولوجيين ليسوا قادرين وحسب على الدفع بـ “إصلاحاتهم” الليبرالية الجديدة وتقديمها على أنها ضرورة موضوعية ونافعة بل وتقديم أنفسهم على أنهم حركة معارضة، حتى ولو كانت هذه المعارضة ضد تبعات سياساتهم نفسها. وقد خُطِط لهذه المعارضة بطريقة تدعم نمط الأيديولوجيا السائد. وعن طريق هذه الاستراتيجية فإن تلك النخب تنجح في تحقيق سيطرتها الطبقية باعتبارها هيمنة كاملة على المجتمع. كان مصطلح الهيمنة من المصطلحات الأساسية في نظرية غرامشي، وهو يعني أن الطبقة الحاكمة لا “تحكم” وحسب بل “تقود” أي إنها تخلق في الخاضعين لها نوعاً من الإجماع على شرعية حكمها، سواء كان هذا الإجماع سلبياً أو إيجابياً.
الفيلسوف يان ريمان (المركز القومي)
وترتبط مع الطبقة الحاكمة – بحسب ريمان – طائفة كبيرة من السياسيين والقانونيين والوعاظ الدينيين والفلاسفة والفنانين ومثقفين آخرين، يعملون على ترجمة الأيديولوجيا المهيمنة إلى لغة مقنعة للناس. وفي حين يتم التعتيم على طريقة عمل وأسس الحكم الطبقي بطريقة نسقية، يتم توجيه الغضب الشعبي على أشخاص النخبة الليبرالية الذين يأكلون أفخم الوجبات ويركبون أغلى السيارات! وعلى البيروقراطية والقيادات العمالية والمثقفين المنعزلين عن الشعب، وضد الفقراء الذين يوصمون عرقياً على أنهم في الأغلب سود ومن غوغاء المدن فاقدي الأخلاق. وينبغي هنا ذكر أن صياغة مصطلح نظرية الأيديولوجيا تمت في السبعينيات، للإشارة إلى إعادة بناء البحث الماركسي في الأيديولوجيا تحت تأثير لويس ألتوسير. ولاحظ ريمان ان الحاجة إلى تجديدٍ في نظرية الأيديولوجيا نتجت من عدم قدرة أي من هذه النظريات على تفسير استقرار المجتمع البرجوازي ودولته، أو على تطوير استراتيجية في التحول الديموقراطي – الاشتراكي القادر على تحقيق إجماع عام بين الناس. فالمداخل التي تبنتها نظرية الأيديولوجيا حاولت تلبية هذه الحاجة عن طريق البحث في التكوين الاجتماعي للأيديولوجيا والأنماط اللاواعية التي تعمل بها وتؤثر. وبذلك ركزت على الطابع المادي للأيديولوجيا، أي وجودها باعتبارها حزمة من الآليات والمثقفين والطقوس وأشكال الممارسة.
ماركس وإنجلز
يفحص ريمان في الفصل الأول تاريخ مصطلح الأيديولوجيا السابق على ماركس؛ أي ابتداءً من ديستوت دي تريسي، الذي صاغه باعتباره اسماً لعِلمٍ دقيق للأفكار، إلى هجوم الإمبراطور نابليون الأول على ما أسماه “الأيديولوجيين”. يركز في الفصل الثاني على الاستخدامات المختلفة للمصطلح من قبل ماركس وإنغلز والتي شكلت نقاط البداية لمدارس عديدة في نظرية الأيديولوجيا بعد ذلك. وفي مقابل التفسير الماركسي – اللينيني يوضح ريمان أن ماركس وإنغلز لم يقدما مفهوماً “محايداً” للأيديولوجيا، بل بالأحرى مفهوماً نقدياً يتوقع أن تفقد الأيديولوجيا ضرورتها الوظيفية و”تذوي” (مثلها مثل الدولة) في المجتمع الخالي من الطبقات (الشيوعي). وفي مقابل سوء فهم منتشر، يبرهن ريمان كذلك على أن تحليلات ماركس وإنجلز لم تكن مقيدة بنقد للوعي الزائف، بل كانت مهتمة في الأساس بإعادة بناء ما يكمن تحت هذا الوعي الزائف من عمليات قلب الواقع داخل العلاقات الاجتماعية للمجتمع الطبقي.
اقرأ المزيد
- شي جينبينغ تلميذ الماركسية المخلص يسعى لترويض الرأسمالية
- أوغوست كونت أثار حفيظة ماركس باكتشافه ثورة الصورة الجمالية
ويتناول الفصل الثالث الظاهرة التاريخية الواضحة لدى كل من الماركسية الرسمية للدولية الثانية والماركسية اللينينية للدولة الثالثة، وهي تجاهل نقد ماركس وإنغلز للأيديولوجيا وإحلال مفهوم محايد للأيديولوجية مكانه. وإلى جانب أنطونيو لابريولا كان جورج لوكاتش هو الذي كسر تهميش مفهوم ماركس وإنغلز النقدي للأيديولوجيا، وكان ذلك كما يرى ريمان، إنجازاً تاريخياً أثّر بشدة في تطور مدرسة فرانكفورت.
لوكاتش وفوكو
يفحص الفصل الرابع كيفية دمج لوكاتش نقد ماركس لصنمية السلع مع مفهوم ماكس فيبر عن “العقلنة الصورية” بحيث وسّع من مفهومه عن “الوعي المشيأ” حتى اختفت من نظريته التناقضات والصراعات الطبقية. ويختم الفصل بتقييم لنقد فولفغانغ فريتز هاوغ لإستطيقا السلع، وهو مصطلح يشير إلى تغيير المجتمع الاستهلاكي لطرق الإدراك والتفكير والوعي عن طريق السلع. ويرى ريمان أن ذلك النقد يتجاوز “الخيار المفلس” بين إنكار كامل للعقل الحديث، وتخلٍ سلبي عن نقد الأيديولوجيا كله. ويعمل الفصل الخامس على تفسير أفكار غرامشي في الهيمنة والحس المشترك والأيديولوجيا باعتبارها بديلاً واعداً لكل من الماركسية اللينينية والنظرية النقدية. وتناول الفصل السادس أجهزة الدولة الأيديولوجية والإخضاع، وفق تصور لويس ألتوسير. وترتبط بداية الفصل التالي بتفكك مدرسة ألتوسير، ثم يتعقب تطوراً متناقضاً من الماركسية إلى ما بعد الحداثة، تم فيه إحلال كلمات كثيرة محل مصطلح الأيديولوجيا، مثل المعرفة، والخطاب، والسلطة. ويتناول الفصل الثامن إسهام بورديو في تطوير نموذج ألتوسير في السيطرة.
ويتناول الفصل التاسع مشروع نظرية الأيديولوجيا والذي أسسه هاوغ من الجامعة الحرة في برلين. وركز الفصل العاشر على سبل توظيف الأدوات المنهجية التي تم تطويرها حتى تلك اللحظة في دراسة التشكيل الأيديولوجي لليبرالية الجديدة وخاصة في دراسة أحد أهم منظريها؛ فريدريك هايك الذي صعّد نظام السوق اللاشخصي إلى نوع من “الإله الخفي”، الذي توجب له الطاعة، هذا النظام الذي يمثل سلطة لا يجب على البشر معرفتها أو تغييرها أو التدخل فيها. ويتناول الفصل الأخير الوعود غير المتحققة لفوكو في مرجلته الأخيرة ولدراسات الحوكمة التي سارت على خطى فوكو. ويرى ريمان أن التمييز الذي وعد به فوكو بين آليات الهيمنة والسلوك الذاتي التحرري، لم يتم تبنيه بانتظام، وكان هذا هو السبب في أن تحليلات فوكو لآليات الحكم الليبرالية والليبرالية الجديدة فقدت روحها النقدية.