ركز الفلاسفة الحديثون موضع الخطاب في التاريخ على ضوء الوضع الذي يقوم فيه
مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة
كاندينسكي ورؤيته الفلسفية (متحف كاندينسكي)
في نص نشره قبيل وفاته، كتب الفيلسوف الألماني الفرنسي إريك ڤايل (1904-1977) قائلاً: “إذا كان من الصعب جداً تحديد تاريخ ميلاد الحداثة أو إرجاعها إلى اسم واحد بوصفه مطلق مشروعها، فيمكننا في الأقل التأكيد أن الفلسفة دخلت العصور الحديثة عندما أدركت أنها حديثة، أي عندما عبرت عن زمنها بالفكر، فاكتسبت وعياً بذاتها وبتاريخها”.javascript:false
هذا يعني أنه بالنسبة إلى هذا المثقف والفيلسوف الهيغيلي الذي تابع دروس ألكسندر كوجيف في فكر هيغل مع أنه كان متمكناً من فهم “فينومنولوجيا الروح” بقدر كوجيف نفسه، إن أول سمة للخطاب الفلسفي الحديث هي إدراكه أن الحقيقة التي يبحث عنها تتموضع في التاريخ، وأن التاريخ هو الزمن الذي تنكشف فيه هذه الحقيقة، وأن العصور الحديثة أصبحت بالتالي هي نفسها ذات الخطاب الفلسفي وموضوعه. فالفلسفة بما هي أولاً إرادة فهم ومعنى، وبما هي ثانياً فهم هذا الفهم وفهم هذا المعنى، لا تتحقق إلا في التاريخ. وهذا بالضبط ما أشار إليه هيغل (1770-1831) في مقاربته للفلسفة الحديثة.
ويبدو أن نيتشه (1844-1900) قد شاطر هيغل أطروحته هذه، عندما جعل من التاريخ مسرح انكشاف العدمية والتصورات الخطأ للصيرورة ولإنكارات إرادة القوة. ولئن مثل نيتشه نموذجاً مختلفاً عن هيغل في ما يتعلق بعلاقة الفلسفة بزمن الحداثة وبالخطاب الذي يعبر عن راهنيته الخاصة، فإنه على غراره، أراد أن يتفكر في الحقيقة التي يعرف حتماً استحالة بلوغها ما لم تكشف عن نفسها في الزمن سلباً أو إيجاباً.
الخطاب الحديث
الفيلسوف الألماني الفرنسي إريك فايل (صفحة فلسفة – فيسبوك)
يبدو أن كانط (1724-1804) قبل هيغل ونيتشه أدرك أنه ثمة سمة أساسية تميز الخطاب الفلسفي الحديث في وعيه لذاته، حين دخل في قطيعة مع الطريقة الدغمائية في التفكر الفلسفي التي دافع عنها الفيلسوف الألماني كريستيان ڤولف (1679-1754)، بحيث تناول سؤال العقل، راسماً حدوده المعرفية الذاتية، جاعلاً العالم يتمحور حول الذات، مشدداً على أن الإنسان لا يمكنه إدراك كل الموجودات والأشياء في جوهر حقيقتها، إلا من خلال بنية الذات العارفة التي يسميها “البنية القبلية الترانسندنتالية لشروط المعرفة” وهي المكان والزمان والكمية والنوعية والسببية إلخ، مظهراً سذاجة الميتافيزيقا المعتقدة أنها تستطيع الوصول إلى حقيقة الوجود والكينونة التي أطلق عليها أرسطو قديماً تعبير “السبب الأول”.
وكانط هو أول فيلسوف أفسح المجال لسؤال الوجهة والمسارات التي ستسلكها الذات العارفة من أجل أن تتنور تدريجاً، مؤسساً بذلك فلسفة التاريخ ومكرساً انفصاله النهائي عن الميتافيزيقا في فعل حر للعقل النقدي. فليس التاريخ سوى تاريخ العقل، منذ لا وعيه الأول حتى ظهور العقل النقدي، هذا العقل الذي يستطيع العودة إلى ذاته وفهم تاريخ وعيه لذاته، بحيث تصبح الفلسفة والتاريخ اسمين لشيء واحد، أي لنفس الكائن الذي ينعكس فعله، أي التاريخ، في قوله، أي الفلسفة.
من هذه الزاوية، نستطيع القول إن الفلسفة دخلت مرحلة الحداثة يوم استطاعت أن تموضع الخطاب الفلسفي في التاريخ وأن تفهم فلسفياً الوضع التاريخي الذي تعيش فيه، هذا ما عبر عنه كانط حين قال في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه “نقد العقل المحض”: “إن عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء”، وما عبر عنه أيضاً إريك ڤايل عندما كتب “إن التاريخ هو الفلسفة وهي تتطور، والفلسفة هي التعبير عن واقع الإنسان المطلوب تحققه في التاريخ”. ما يعني أن الفلسفة الحديثة بدأت فعلاً يوم شرع الإنسان بالتفكر النقدي الذاتي في مرحلة محددة من التاريخ في الزمان والمكان، لا سيما في مجال الفلسفة السياسية.
الفيلسوف هيغل (صفحة هيغل – فيسبوك)
في هذا الإطار الذي رسمه كل من كانط وهيغل، تتموضع إذا كتابات إريك ڤايل بوصفها تحليلاً فلسفياً لمشكلات الحداثة الأساسية. يكفي أن نقرأ النصوص التي خصها بالفلسفة السياسية أو تلك التي كرسها لشرح وتأويل فكر كانط وهيغل، لنتبين مدى اهتمامه بقضية النظر في الحداثة وتحديد سماتها الفلسفية ولو كان هذا الموضوع أقل وضوحاً في كتابه “منطق الفلسفة”، لكن مقدمة الكتاب تشهد على طريقتها على استمرار انهمامه بهذه المسألة. ولئن غيب ڤايل في شروحاته خطاب الحداثة التأسيسي مع ديكارت (1596-1650) فذلك لأن هذا الخطاب ما كان ليعي نفسه ويتبين أمره بعد.
الذوق العام
ترد صفة “حديث” باستمرار في نصوص إريك ڤايل من دون أن تأخذ معنى الجدة أو الرائج الذي يوافق الذوق العام. ولعلها تفيد عنده مجموعة من التحديدات الدقيقة والخصائص الإيجابية المعينة في إطار كلامه عن مجتمع حديث ودولة حديثة وعمل حديث وتكنولوجيا حديثة وفكر حديث، ومعنى مصطلح “حديث” نفسه. ويبدو أن استخدام الكلمة عنده هو استخدام محايد وإيجابي ووصفي بشكل أساسي، ولو حمل هذا الاستخدام في النهاية حكماً قيمياً.
فما هي طبيعة الحداثة وما هو جوهرها؟ وفي أي مجال، لا بل على أي موضوع يمكننا إطلاق صفة “حديث”؟ يجيب ڤايل على أسئلته هذه بالقول إنه بإمكاننا إطلاق هذه الصفة على المجتمع والدولة، مشدداً على أن كل المجالات الأخرى ترتبط بهذين المجالين الأساسيين، علماً أن المجتمع الحديث يحفز مسار الدولة باتجاه أن تصبح حديثة.
الفيلسوف كانط (موقع كانط)
تأخذ كلمة “حديث” إذاً عند إريك ڤايل معنى بسيطاً، لكنها تأخذ أيضاً معنى مجرداً عندما تطلق على المجتمع. فانطلاقاً من هذه النقطة بالذات يبدأ ڤايل تحليلاته، ملاحظاً أنه عندما تطلق صفة الحداثة على الدولة يصبح معنى الكلمة أكثر تعقيداً وغموضاً.
اقرأ المزيد
- تيار ما بعد الحداثة “دفن” إنسان التنوير الأوروبي وجعل العقلانية قيدا
- الفلسفة الألمانية بين الاصطلاحات وعلم الأمور الممكنة
أولى سمات الحداثة في اعتبار إريك فايل هي “التفكر” وهو مفهوم يفيد في صيغته المعجمية معنى “التفكير” و”الانعكاس”. ولعله يفيد أيضاً عنده معنى التفكير بما هو انعكاس للذات المرمية في العالم في تعالق بين الوعي والذاتية والعالم الخارجي. مقتضى ذلك أن الإنسان الحديث يتميز عن الإنسان القديم حين يسمح لنفسه بالتفكير في الجماعة التي يعيش وسطها والنظر في فكرها، بخلاف الإنسان القديم الذي يتماهى بالجماعة، بوصفه عضواً مندمجاً فيها غير متفكر، عضواً مندمجاً بالكون الذي يعيش وسطه كجزء من كل. ففكر الإنسان القديم هو فكر الجماعة وفكر عقل كوني متعال عليه.
والسمة الثانية للحداثة هي “العصرنة” أي تخلية العالم من هالة القداسة التي كانت تحيط به. فالنظرة “السحرية” القديمة للعالم أخلت المكان لنظرة جعلت من الإنسان على حد تعبير ديكارت “سيد الطبيعة ومالكها”.
سمة العقلانية
وثالث سمات الحداثة عند ڤايل سمة “العقلانية”. ويعني بها النظر إلى الكون بما هو مفهوم للعقل، مدرك له، كما يعني بها النظر إلى الإنسان نفسه بما هو “مشروط” بالطبيعة والمجتمع. ومفهوم “الشرط” أو “الوضع الإنساني” هو المفهوم الذي سمح للإنسان بالتخلي عن فكرة “الكوسموس” المغلق الذي يحمل في ذاته معناه على نحو قبلي سابق لوجود الإنسان واستبدالها بمفهوم الطبيعة المنفتح.
وإذ يتوسع ڤايل في تحليل هذه السمات، فإنه يخلص إلى القول إن تغير نظرة الإنسان إلى ذاته وموضوعه جعلته إنسان موقف “الوعي” والإرادة الحرة، الفاعل في العالم بما هو واهبه المعنى ومانحه الدلالة. يقول ڤايل إن “الإنسان كائن عاقل شأنه أن يتصرف في هذا العالم وفق معنى يتسم دوماً بالواقعية، معنى ما كان هو بالمعطى سلفاً وإنما هو قابل للاكتشاف والتحقيق على الدوام”. في هذه الفكرة بالذات تلتقي سمات الحداثة التي ما عاد العقل فيها متعالياً، بل أضحى يسكن العالم، وما عاد شأنه أن يبرر، وإنما أن يفعل. فالعالم روح والروح هي التي توجهه في عمله وفي فكره.
هذه المفاهيم الحداثتية الثلاثة وجدت بحسب ڤايل اكتمال مسلكها في مقولة “المطلق” التي تحدث عنها هيغل حينما قال، إن الإنسان لا يعي بما حققه وأنجزه من تحديث لذاته ولعالمه إلا عند خاتمة المسار، أي عندما يتم وعيه بتمام مشروعه، ذلك أنه بمجرد ما يدرك الإنسان أنه قد أقفل المدار حتى يبادر إلى الالتفات إلى الوراء ناظراً وناقداً نهاية التاريخ التي هي في الوقت عينه نهاية الفلسفة.
إن أهمية تحليل إريك ڤايل للحداثة هو تنبهه إلى ردود الفعل التي رافقت إعلان هيغل عن اكتمال الحداثة، والتي اتخذت في بعض الأحيان صفة التمرد والثورة عليها في فعل إنساني ما زال يستدعي التفكر في الحداثة وفي ما بعدها.