موازين العدالة لا يمكن غشها

1

موازين العدالة لا يمكن غشها

صادق الازرقي

انشغل الفلاسفة والمفكرون بموضوعة العدالة حتى في حقب ما قبل الميلاد، إدراكا منهم لأهميتها في تحقيق المجتمع المنشود.

وبرغم تناول اشكالية العدالة لحقب طويلة، فإنها ما تزال تؤثر عميقا في المجتمعات المعاصرة؛ وكثيرا ما تضاف لموضوعة العدالة مفاهيم جديدة تقترن بعصرها، الا ان السمة الرئيسة تبقى لصيقة بها، ومفادها ان أي مجتمع لن تكتب له الرفعة والتقدم والرفاه، الا بأخذ العبر من مغزى العدالة وتطبيقها على الدساتير والقوانين وشتى مفاصل الحياة.

لقد التفت الفلاسفة الى قضية العدالة منذ عصور قديمة، لم تخلو بدورها من الاضطهاد بشتى صوره، وكذلك منذ تعزز القمع بوساطة محاكم التفتيش الأوروبية التي نشطت بخاصة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ولم تلغى الا في القرن التاسع عشر، التي قتل فيها كثير من البشر لأسباب واهية.

لقد طرح الفيلسوف اليوناني ارسطو الذي عاش للمدة من 384 – 322 قبل الميلاد ما يسمى العدل التوزيعي، وفصلّه في توزيع الموارد والممتلكات والثروات والمناصب والأعباء بين أفراد المجتمع بحسب طاقتهم وقوتهم، وهذا النوع ينطبق على المعاملات بين الأشخاص والمؤسسات، مشددا على ان هذا النوع من العدل يحمي المجتمع من اندلاع الثورات المستمرة، لأن الناس دائمًا يثورون طلبا للمساواة، ويرى ارسطو أن هناك علاقة تطابق بين الإنصاف والعدل، ولكن الأفضلية تكون للإنصاف بصفته يصحّح خطأ العدالة.

أما الفيلسوف والسياسي الفرنسي الاشتراكي برودون 1805-1865م فيتساءل “ماذا يعني أن نقيم العدالة؟ إنها تعني أن نعطي لكل فرد جزءا متساويا من الخيرات بشرط الكم المتماثل من العمل، وهذا يعني التصرف والعمل بما يتوافق مع مصالح المجتمع”؛ ويقول أيضا “ماذا تعني العدالة من دون تساوي الملكية؟ إنها ميزان بأوزان مزيفة”.

اما الفيلسوف والاقتصادي الألماني كارل ماركس 1818-1883 فلا يختلف كثيرا عن هذا الطرح وادراك مسببات اللامساواة وانعدام العدالة، فقد كان منهمكا بدراسة سبل معالجة والتخلص من التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة في المجتمع، وهو يعد أن هناك عدم عدالة أساسي في نظام الرأسمالية الذي يسمح بتجميع الثروة والسلطة في يد القلة على حساب اكثرية الناس؛ وبالنسبة لماركس، العدالة الاجتماعية تشمل توزيع الموارد والثروة بشكل أكثر عدالة بحيث يتمتع الجميع بفرص متساوية ويشاركون في الثروة الاقتصادية بالتساوي، على وفق ما طرحه في افكاره ومؤلفاته.

اما في العصر الحالي الذي نعيشه فلقد توالدت العناصر الممثلة لموضوعة العدالة، وان كانت السمة الاساسية للمفهوم أي العدالة الاجتماعية هي الاساس الذي تتعلق به عدالة توزيع الموارد في المجتمع، التي يتسبب انعدامها بالتوترات في جميع مناحي الحياة، كما يقترن ذلك باستكشاف الفجوات الاقتصادية والتفاوت في الثروة والدخل، والسعي لفهم تأثير ذلك على العدالة الاجتماعية؛ كما تبرز قضايا المساواة بين الجنسين، في امور مثل الأجور، والحقوق، والفرص في مجمل المجتمع، ومشكلات التمييز العرقي والثقافي، والعنف المجتمعي، والتحديات التي تواجهها الشعوب والأقليات العرقية والثقافية، و التحقيق في تأثير السياسات القانونية والنظام القضائي على توزيع العدالة والمساواة.

كما استجدت لدينا ما تسمى العدالة البيئية ومناقشة التأثيرات البيئوية للأنشطة الصناعية والتنمية، والجهود للمحافظة على البيئة وضمان حقوق الأجيال المقبلة.

وتبرز ايضا قضية التباين في فرص التعليم والوصول إلى التحصيل الدراسي على اختلاف مستوياته وأوجهه، والعدالة في الوصول إلى الرعاية الصحية والتباين في جودة الخدمات الصحية، وكذلك حقوق الإنسان في السياق الدولي، والصراعات ودور العدالة في تحقيق السلام والاستقرار العالمي؛ وجميع تلك القضايا المستجدة التي شخصت ينبغي حسمها بنتائج ايجابية لغرض تحقيق استقرار ورفاه المجتمعات البشرية، بحسب ما يطرح من علاجات لإشكالية تحقيق العدالة.

وفي العراق، البلد الغني، فان قضية العدالة في توزيع الثروات كانت الشغل الشاغل لسكانه طوال الحقب الماضية وكانت نتائج تجاهل ذلك وبالا على البلد والسكان، تسببت في كوارث كبرى لم تزل تفعل فعلها؛ اما مشكلات التمييز العرقي “وكذلك الطائفي” التي ابتدعها بعض سياسيي العراق المعاصرين، فلقد اصبحت سببا رئيسا في عدم الاستقرار المجتمعي الذي لا غنى عنه للتركيز على البناء والاعمار وتحقيق رفاه الناس.

وفي مجال السياسات القانونية والاجراءات القضائية، يلاحظ لدينا ان التصرف ازاءها كثيرا ما يجري بصورة انتقائية او مزاجية، وان القضاء غالبا ما يلجأ الى النظر في القرارات بتأثير الفعل ورد الفعل، وليس برسم سياسات وقوانين تخدم السكان لاسيما اننا غادرنا مدة النظام الدكتاتوري الشمولي؛ ما يتسبب في شرخ كبير في موضوع العدل بسبب ارتباط القضاء المفترض بذلك الاساس المهم لبناء المجتمع.

اما قضايا مثل الأجور، والحقوق، والفرص في مجمل المجتمع، فتنبثق بقسوة في صور البطالة الحقيقية التي يفقد الناس فيها اهم متطلبات معيشتهم؛ ما يفاقم التوتر، وتلك الاشكالية جرى حلها في معظم الديمقراطيات الحقيقية في اوروبا واميركا بصيغة صناديق البطالة، وزيادة المدفوعات إلى الشركات والعاطلين عن العمل والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، فضلا عن الضمان الصحي وغيرها من المعونات، جميع ذلك بغرض الحفاظ على السلم الاهلي وتقليل الحرمان لدى الناس، وتجنب الكوارث المحتملة فيما لو تواصل العوز.

ان بلدا مثل العراق احوج ما يكون الى العدالة الحقيقية بشتى صنوف تمظهرها واولها العدالة الاجتماعية، اذ ان امر الدولة والمجتمع لن يستقيم بتوافر الاموال لفئة قليلة من السكان فيما تعيش الاغلبية وهي بالكاد تحصل ارزاقها، وتعاني الامرين من انعدام المساواة في الرعاية الصحية وفرص التعليم والاجور وغيرها من المستلزمات الضرورية لإدامة نسغ الحياة الاعتيادية.

إذا أردنا الخروج من البوتقة التي نحن فيها ومن الازمات الدورية المتلاحقة وانعدام الامن والصراعات واعمال القتل والسجن والاغتيال والتعذيب، فان علينا ان نحقق العدالة بأنواعها وفي طليعة ذلك العدالة الاجتماعية التي تؤمن لكل فرد مستوى معيشي لائق على وفق الاعمال التي يقوم بها السكان، التي توفر الدولة اجواءها؛ ومن اشتراطات تحقيق العدالة سن القوانين العصرية المطلوبة للارتقاء بأوضاع الناس وكرامتهم، والرقي بالخدمات الصحية والتعليمية والمساواة في الاجور وتفعيل اعمال النظافة والحفاظ على البيئة واقامة الحدائق والمتنزهات، وتخليص الناس من بؤسهم و يأسهم، وحسم قضايا الموقوفين والمسجونين وغيرها من متطلبات العدالة.

التعليقات معطلة.