د. احمد عدنان الميالي
شهدت العلاقات الأمريكية مؤخرا تحولات سلبية وصلت لحد التأزم، فقد طفت على السطح قائمة طويلة من الخلافات والتقاطعات المتزايدة كانت وستبقى بمثابة تحديات أمام العلاقات الأمريكية مع تركيا.
من الواضح أن العلاقات الأمريكية – التركية الآن لا يمكن أن نتصورها على أنها علاقة صداقة أو شراكة أو تحالف كما كانت في السابق بقدر ما نستطيع أن نطلق عليها أنها علاقات بين دولتين متخاصمتين ومتنافستين في العديد من الملفات الستراتيجية وتقاطعات في كثير من المصالح، لاسيما في الشرق الأوسط.
قد يتبادر للذهن أن توترات العلاقة بينهما كانت بسبب سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. لكن قد يكون من الخطأ التصديق بذلك بسبب أن أميركا وتركيا تتجهان للتصادم منذ عام 1991، عندما تفكك الإتحاد السوفيتي، وإندلاع حرب الخليج الثانية، ففي تسعينيات القرن الماضي، غضبت تركيا بقوة من العقوبات الدولية على العراق ومنح شمال العراق حكما ذاتيا وإقامة منطقة حظر طيران فيه.
وبالطبع، كانت هناك إختلافات سابقة تعود لمرحلة السبعينات من القرن الماضي تتعلق بالغزو التركي لقبرص في عام 1974، وما لحقه من حظر الأسلحة الأمريكية، وكذلك الأمن في بحر إيجه. ولكن دَفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرا بالعلاقات الأمريكية – التركية من سيئ إلى أسوأ، إنطلاقا من عدة ملفات أولها تقاطعاتهما في الملف السوري، ورفضه التعاون الأمريكي مع الخصوم (أكراد سوريا)، إذ تعتقد تركيا أنهم منظمة إرهابية تشنّ حرب ضد تركيا منذ عام 1984.
أما الملف الآخر فهو ملف فتح الله غولن الذي يتواجد على الأراضي الأمريكية ويربط أردوغان الإنقلاب الفاشل في يوليو ٢٠١٦ بهذا الداعية المنشق من عباءة حزب العدالة والتنمية، وكل المخاطر والتحديات الأمنية والإرهابية في تركيا تقع على عاتقه وعاتق الأكراد -كما يعتقد أردوغان-.
ومؤخرا تأزمت علاقة أنقرة بواشنطن نتيجة فتح الله غولن واشتعلت بين الطرفين ما عرف (بحرب التأشيرات)، بعد أن زعم أردوغان بأن جواسيس تسللوا عبر البعثات الأمريكية في تركيا. وقال: “إن تركيا لا تعتبر أن السفير الأمريكي لدى أنقرة ممثلاً شرعياً للولايات المتحدة”. وهذه سابقة خطيرة غير معهودة في تاريخ العلاقات بين البلدين، أن يتم الإعلان عن عدم إعتراف تركيا بسفير أمريكا لديها. وبذلك، صعد الرئيس التركي أزمة دبلوماسية منذ شهر برزت عندما أعلنت السفارة الأمريكية أن الولايات المتحدة باتت مضطرة لإعادة تقييم التزام حكومة تركيا تجاه أمن منشآت البعثة الأمريكية وموظفيها، وبناءا على ذلك لن تقوم بإستخراج تأشيرات أمريكية للأتراك.
وبالطبع كان القرار رداً على توقيف (ميتين طوبوز) وهو موظف أمريكي متعاقد مع إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية في أنقرة، واتهمته الأخيرة بدعم منظمة فتح الله غولن. وردّت الحكومة التركية بالمثل على رفض الولايات المتحدة إستخراج التأشيرات، قبل أن يتابع أردوغان تصريحاته الهجومية في محافل داخلية وخارجية ضد أمريكا.
كذلك كان ولا زال هنالك تقاطعا بين أمريكا وتركيا، عبرت عنه واشنطن أكثر من مرة بأن أردوغان يسعى باستمرار إلى تعزيز سلطته السياسية على حساب مبادئ حقوق الإنسان والحفاظ على المكتسبات الديمقراطية في تركيا وإقصاء واضطهاد القوى السياسية المناوئة لسياساته. ولكن أمريكا تغفل أو تتغافل عن حقيقة، وهي أن مركزية حكم وقرارات أردوغان تلاقي مقبولية وثقة عند الأتراك لأسباب تاريخية عديدة، منها ما يتعلق بأن القوة التركية والعودة للسلطنة العثمانية تحتاج إلى المركزية الشديدة.
في ضوء هذه التعقيدات والحقائق أين تتجه بوصلة العلاقات الأمريكية التركية؟، هنالك عدة إحتمالات للإجابة:
الإحتمال الأول: عودة دفء العلاقات بين البلدين
إن هنالك فكرة تقول بأن العلاقات بين أمريكا وتركيا كانت دائماً دافئة، ومماثلة لعلاقات تركيا مع الحلفاء التقليديين في أوروبا رغم تراجعات علاقة أنقرة ببرلين.. وبالطبع كانت هناك علاقات عمل طيبة بين القادة العسكريين الأمريكيين والأتراك في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واصطفت تركيا مع أمريكا في مناسبات عديدة لمواجهة تحديات أمنية، آخرها كان في سوريا بداية الأزمة رغم تعقيدات العلاقة مؤخرا في سوريا، وطمأن دونالد ترامب أردوغان بإتصال هاتفي قبل أيام: “إن أمريكا لن تستمر بتسليح أكراد سوريا (قوات سوريا الديمقراطية)”.
وبالطبع تتلاقى تركيا وأمريكا في معارضتهما من حيث المبدأ على إنتشار أسلحة الدمار الشامل، وتؤيدان السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتحاربان الإرهاب جنبا إلى جنب، وترغبان في سقوط الرئيس السوري بشار الأسد، ويتفقان بأن إيران يجب أن لا تزداد نفوذا في الشرق الأوسط، وفي بداية تسعينيات القرن الماضي، إقتنع بعض صناع القرار في السياسة الخارجية الأمريكية، أن تركيا نموذج مؤهل للتعميم والإرشاد لدول آسيا الوسطى، خاصة التي نالت استقلالها حديثاً في ذلك الوقت، والتي يتشارك سكانها روابط لغوية وثقافية مع تركيا، لتتمكن سياسيا عبر تبني الحكم الديمقراطي. وفي منتصف التسعينيات ونهاية ذلك العقد، أعتبرت الإدارة الأمريكية تركيا بمثابة منطقة نموذجية للسلام والأمن في الشرق الأوسط. وأثناء ثورات ما يسمى بالربيع العربي، أشارت واشنطن إلى تركيا بإعتبارها أيضا نموذجاً يحتذى به للدول والأنظمة العربية الساعية إلى بناء مجتمعات مزدهرة وديمقراطية. ولكن الوصفات الأمريكية والتركية لإستمرار هذه الطموحات والمحافظة على هذه المشتركات، أضحت متباينة ومتباعدة كل البعد عن بعضهما البعض في أحيان كثيرة بدرجة تجعل من الصعب الإقتناع والتصديق بأن تلك الأهداف والمقتربات تمثل مصالح مشتركة بشكل مستمر. وهذا ما يرجح أن مفاعيل هذا الإحتمال تواجه ضعف ثقة بين البلدين سنتناوله في الإحتمال الثاني.
الإحتمال الثاني: تأزم العلاقة
منطلقات هذا الإحتمال ناجمة من أن أمريكا وتركيا لا تتقاسمان قيم ومصالح مشتركة وفق قناعات مطلقة، إذ أن النظام العالمي قد أختلف كثيرا بعد عام ١٩٩١، والتحالف قبل هذا التاريخ اختلف عنه الآن، فتغيرت ديناميكيات معاصرة، مما جعل دالات التحالف والشراكة الستراتيجية بينهما غير قابلة للديمومة، فالعلاقات الدافئة أثناء الحرب الباردة قد عفى عليها الزمن، فلم تعد أمريكا وتركيا تقفان جنبا إلى جنب لمواجهة المعارك الأيدولوجية ضد الإتحاد السوفيتي، فبعد ذلك لم تعد هنالك أمور وملفات عديدة تربط البلدين معا، مما يؤكد أن العلاقات الثنائية بينهما لا ترتكز على الصداقة أو الثقة أو القيم، وإنما على ضرورات الصراع الذي تخوضه الدولتان بصورة مشتركة ضد المخاوف والتحديات التي تواجههما.
وبعد الأزمة الدبلوماسية بين أمريكا وتركيا التي يبدو أنها ستتصاعد لأن هنالك معطيات جديدة تؤكد على أن تركيا لن تستمر في صف الشركاء لأمريكا، وأن أي إعتقاد خلاف ذلك سيكون خاطئا، وأي إعتماد تركي لالتزام أمريكي بأمن تركيا سيكون تقديرا مبالغا فيه، لأن أمريكا مقتنعة الآن أن القيادة التركية السياسية والعسكرية ليست ديمقراطية ولا موالية للغرب، بل لديها في حقيقة الأمر شكوكاً عميقة تجاه الغرب، وخصوصا أمريكا.
وهذا نابع من الشعور التركي أيضا بغياب الثقة بالغرب والتشكيك بالنوايا الأمريكية، لأن تركيا لا تزال مفعمة بالقومية والخصوصيات الثقافية، أي العثمانية كقومية والإسلام كهوية. كما أن تركيا مقتنعة الآن أن أمريكا لن تتراجع عن التزامها ودعمها للأكراد في المنطقة ولن تلتزم باحترام الهوية التركية باعتبارها دولة تتبنى سلوك وخطاب إسلامي.
الإحتمال الثالث: شراكة أهداف وتباين وسائل
من المحتمل أن تستمر المراوحة بالعلاقات بين تركيا وأمريكا بين الإنفتاح مرة والتوقف مرة أخرى، فلا زالت هنالك أهداف مشتركة لكن وسائل وتكتيكات تحقيق هذه الأهداف متباينة، ففي كل قضية يقترب الطرفان، وفي نهاية الأمر يذهب المسؤولون من كلا الطرفين لإتجاه إضعاف الطرف الآخر لجهوده في تلك الحالات والمجالات. خاصة حينما تدخل أطراف أخرى في هذه الحالات تمتلك علاقات ليست على وتيرة واحدة مع تركيا وإيران. فمثلا تركيا وإيران تدعمان جهود السلام بين إسرائيل وفلسطين لكن دعم تركيا لحركة حماس من منطلق إخواني يذبذب العلاقة، كذلك الموقف من الأزمة القطرية، وأيضا الدفء بالعلاقات بين تركيا وإيران، أضعف جهود أمريكا لإحتواء تطوير إيران للأسلحة النووية.
كما تغيرت تكتيكات الطرفين بعد الأزمة السورية بشكل كبير، لدرجة أن تركيا، عضو الناتو، تتعاون في سوريا مع روسيا، التي يسعى بوتين إلى إضعاف التحالف الدولي بقيادة أمريكا، بينما تحارب أمريكا تنظيم داعش الإرهابي بمعية القوات الكُردية السورية. مما يقلص مستويات إنفراج العلاقات الستراتيجية وقد تقلّصت العلاقة حاليا إلى مجرد دخول القوات الأمريكية إلى قاعدة إنجرليك الجوية التركية، التي تطلق منها أمريكا وحلفاؤها عمليات عسكرية ضد تنظيم (داعش الإرهابي). ومن حين إلى آخر، تهدّد تركيا بسحب التصريح باستخدام هذه القاعدة لهذا الغرض.
فمن المؤكد القول أن أمريكا وتركيا تتعاونان مع خصوم الدولة الأخرى.
وهنا يطرح تساؤل مهم حول ما إذا كان الخلاف بين أمريكا وتركيا سينتهي أم سيراوح بمكانه؟، وهذا يرتبط بأمور كثيرة منها يعتمد على الحسابات السياسية الداخلية والخارجية لرجب طيب أردوغان، وأيضا في ضوء مخزون معاداة النهج الأمريكي والغربي في تركيا، وبالطبع بديهيا أن أردوغان في هذه المرحلة سيحافظ على نسق رسمي بأستمرار تحالفه مع أمريكا لكنه لن يتوانى من تحقيقه منافع سياسية عامة حينما يتبنى خطاب ومناورات سياسية مضادة لأمريكا.
أعتقد أن الإدارة الأمريكية لا تمتلك إجابات أو آليات للتعامل مع تعقيدات هذه العلاقة خاصة إذا واصلت واشنطن النظر إلى أنقرة بعدسات قصيرة المدى، وفي ضوء ذلك ستبقى العلاقات تراوح مكانها، إذ من العبث تصور أن تتحفز هذه العلاقات نحو الأفضل دون تحفيز القيم المشتركة بين تركيا وأمريكا، فقد آن أوان الإقرار بأن العلاقة بينهما قد تغيرت، وأن إنعكاسات هذا التغيير ستنعكس على منطقة الشرق الأوسط.
ولكن هل تركيا قادرة على الصمود بدون الغطاء الأمريكي، وهل أمريكا قادرة على التموضع في منطقة الشرق الأوسط وضمان أمن إسرائيل دون الحليف التركي؟، أسئلة ستكون الأيام القادمة هي المجيبة عنها.