المصدر: النهار العربي
أسامة رمضاني
عندما أصدرت الخارجية التونسية بياناً الأسبوع الماضي حول تطورات الوضع في الغابون، وقالت فيه إنّها “تتابع ببالغ الاهتمام التطورات السياسية والأمنية التي يشهدها هذا البلد الشقيق”، استغرب البعض أن تسدي تونس النصيحة للحكّام الجدد هناك، حول الطريق الأقوم الذي عليهم انتهاجه للحفاظ على أمن بلادهم واستقرارها. قد لا يكون الغابونيون في حاجة لنصيحة أحد، فأهل مكّة أدرى بشعابها. ولكن الاعتبار الأهم، هو أنّ تونس التفتت إلى بلدان جنوب الصحراء في خضم أزماتها، وقطعت مع النزعة السائدة لدى التونسيين والتي توحي بعدم الاهتمام بما يحدث في بلدان جنوب القارة الإفريقية. ليس من الحكمة بالنسبة إلى تونس التغافل عمّا يجري هناك. الأوضاع مضطربة هذه الأيام في وسط القارة الإفريقية وغربها. الهجمات الدموية للحركات المتطرّفة في منطقة الصحراء والساحل لا تتوقف. والأخبار تتحدث عن مقتل العشرات من القوات الحكومية في مالي وبوركينا فاسو خلال الفترة القليلة الماضية فقط. حالةٌ من عدم الاستقرار تسود المنطقة بعد سلسلة من الانقلابات أطاح آخرها نظام الحكم في الغابون في آخر آب (أغسطس)، وذلك بعد شهر تقريباً من استيلاء الجيش على مقاليد السلطة في النيجر. خارج نطاق الدوائر الرسمية الساهرة على العلاقات الإفريقية وبعض الخبراء والمتخصّصين، هناك انطباع رائج لدى الكثير من التونسيين، بأنّ هذه المنطقة بعيدة جداً من ناحية الجغرافيا والمصالح، وإن كانت المسافة بين العاصمة التونسية وبقية العواصم الإفريقية تصبح موضوعاً غير ذي بال عندما تتنافس فرق كرة القدم التونسية مع نظيراتها الإفريقية. المتمعن في الخارطة يكتشف قرب تونس من بقية البلدان الإفريقية. عندما نذكر النيجر فإننا نتحدث عن بلاد تقع على حدود جارتين مباشرتين لتونس هما الجزائر وليبيا. ومن المفهوم أن تلحّ الجزائر وليبيا على أن أي اضطراب للأوضاع في النيجر سوف يمسّ أمنهما القومي، باعتبار أنّ الحدود الجزائرية مع هذه الدولة الإفريقية تمتد على أكثر من 1000 كيلومتر، فيما تمتد الحدود النيجرية مع ليبيا إلى أكثر من 340 كيلومتراً. إضافة إلى ذلك، ضاعفت الأوضاع في النيجر من منسوب التوتر على الحدود الليبية- التشادية، وزادت من انشغال السلطات في كل من بنغازي وطرابلس، على حدّ سواء، بالأوضاع غير المستقرّة جنوب الحدود الليبية، بخاصة أنّ الحرب في السودان دخلت شهرها الخامس. وما يخشاه كثير من الخبراء في شمال إفريقيا، هو أن ينجم عن انهيار الأوضاع في النيجر تدفق أفواج من المتطرّفين ومن المهاجرين غير الشرعيين انطلاقاً من جنوب الصحراء. سيناريوهات عديدة تصبّ في هذا الاتجاه، من أهمها احتمال حدوث تدخّل عسكري من قِبل البلدان الأعضاء في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، وذلك في نطاق مواجهة قد تتوسع لتشمل الأطراف المساندة والمعارضة للانقلاب في نيامي. وزير خارجية إيطاليا أنطونيو تاياني حذّر منذ أيام من أي تدخّل عسكري في النيجر، منبّهاً أنّ ذلك سوف تنجم عنه تداعيات “كارثية” في ما يتعلق بتصاعد موجات الهجرة غير الشرعية. ولكن أي تسارع في نسق الهجرة غير النظامية سوف يقضّ كذلك مضاجع الدول المغاربية قبل أوروبا ذاتها. فالمهاجرون الأفارقة لن يصلوا إلى شواطئ إيطاليا إلاّ بعد أن يمرّوا ببلدان الشمال الإفريقي ومنها خصوصاً تونس وليبيا. وليس بعيداً من النيجر، هناك السودان وأوضاعها المتدهورة في ظلّ الحرب الدائرة رحاها هناك. ومن تداعياتها نزوح مئات الآلاف من بلادهم. رغم صعوبة الطريق نحو البلاد التونسية من السودان، فإنّ شهادات كثيرة تُظهر أنّ الكثير من السودانيين كانوا من بين المهاجرين غير النظاميين الذين حاولوا عبور المتوسط انطلاقاً من تونس
التدفقات البشرية من السودان لن تتوقف قريباً. تقول الأمم المتحدة إنّ مليوناً و800 ألف شخص سوف يغادرون السودان قبل نهاية هذا العام، مشيرةً إلى أنّ حوالى مليون شخص غادروا من هناك. ومنطقياً سوف يتوجّه هؤلاء أولاً إلى التشاد أو مصر أو إثيوبيا أو جنوب السودان أو إفريقيا الوسطى، وكلها بلدان مجاورة للسودان. ولكن إغراء العبور إلى أوروبا سيبقى قائماً بالنسبة للكثيرين بعد ذلك. وستكون سواحل المغرب العربي هي المنطلق الأكثر احتمالاً لمن يسعى للوصول إلى إيطاليا. مشكلة الهجرة غير الشرعية انعكست سلباً على الأوضاع الداخلية في تونس، وخلقت توترات بين البلاد وجيرانها وأضرّت بصورة تونس في الخارج. ولكن تونس لا يمكن أن تسقط في النظرة الأمنية المحضّة لموضوع الهجرة غير النظامية، والتي تسيطر على المنظور الأوروبي وتهيمن على الاجتماعات الأوروبية- الإفريقية. على سبيل المثال، انعقد في تونس خلال الأيام الماضية اجتماع للبلدان المشاركة في مبادرة “صحراء واحدة”، وهي مبادرة أطلقها الاتحاد الأوروبي عبر بعثته، للمساعدة في إدارة الحدود في ليبيا (يوبام) مع بلدان الساحل الإفريقي (ليبيا وبوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر). يأمل الاتحاد الأوروبي من وراء هذه المبادرة في إنجاز ما يسمّيه “خارطة طريق تأخذ في الاعتبار الممارسات في إدارة الحدود، والتصدّي للجرائم العابرة للحدود، مع تعزيز التجارة والتنمية”. لم تنل اجتماعات هذه المبادرة اهتماماً كبيراً خارج نطاق الأطراف المنظّمة للاجتماع، رغم أهمية المواضيع التي أثارتها ورغم جهود الطرف الليبي لوضعها في إطار أوسع، وذلك لأنّ مقاربتها كانت أساساً مقاربة أمنية تسعى للاستجابة للهواجس الأوروبية قبل كل شيء. تعاملت تونس مع مثل هذه الهواجس خلال مباحثاتها السابقة مع إيطاليا والاتحاد الأوروبي حول الهجرة غير النظامية، في إطار نقاشات شملت مجمل العلاقات مع أوروبا، على خلفية المصاعب المالية الجمّة التي تواجهها البلاد. لكن إلى حدّ الآن لم ترشح أية قرارات أوروبية حاسمة لدعم الاقتصاد التونسي، وذلك رغم وعود المفاوضين القادمين من شمال المتوسط. مهما كانت مواقف الطرف الأوروبي، فإنّ التماشي التونسي لا بدّ أن يكون بعيد النظر، وأن يشمل الشواغل المشتركة التي تتجاوز حواجز الصحراء.هذه الشواغل تمتد إلى ميادين التنمية الاقتصادية والأمن والمناخ وعلاقات القارة مع الغرب والشرق. وهي اعتبارات أوسع من مجرّد التصدّي للهجرة غير الشرعية. كما أنّ تونس وبلدان الحزام المتوسطي لإفريقيا تعرف أكثر من غيرها درجة التداخل بين الأوضاع في منطقتها والبلدان الواقعة على تخوم الصحراء. دول المغرب العربي ما زالت تتذكّر كيف تسبّب تدفق المقاتلين والأسلحة من ليبيا إلى مالي سنة 2011 في زعزعة استقرار منطقة الساحل. وهي تخشى اليوم تدفقات في الاتجاه المعاكس تدفع هي ثمنه وليس الأوروبيون.فرياح الصحراء تهبّ دوماً في الاتجاهين.