الحرب آتية في القوقاز… لكنه التّوقيت!

1

 المصدر: النهار العربي

يوسف بدر

خريطة القوقاز وممراته الاستراتيجية

تتسارع التحركات في منطقة جنوب القوقاز بما يُنذر باحتمالية الحرب مجدداً بين أذربيجان وأرمينيا. وإن كانت هناك حشود عسكرية من جانب الطرفين، لكنها ما زالت في إطار الحرب النفسية والتوازن العسكري، بما يدعمهما في أي مفاوضات مقبلة. مع ذلك لا إنكار لاحتمالية وقوع الحرب، لكنها مرتبطة أكثر بالفواعل الخارجية التي ستكون هذه الحرب في خدمتها. لكن إيران بوصفها طرفاً إقليمياً، جادة في تهديداتها بمنع أي تغيير في الخريطة الجيوسياسية لتلك المنطقة، وتؤشر التحركات المتتابعة من جانب حكومتي باكو ويريفان تجاه طهران، إلى أن كلا طرفي النزاع لديهما مخاوف من اندلاع هذه الحرب بما لا تُحمد عقباه، إذا لم يحالفهما التوقيت! فبعدما وقّعت طهران وباكو على وثيقة للتعاون الدفاعي المشترك، قال وزير الدفاع الإيراني محمد رضا آشتياني يوم الأربعاء 13 أيلول (سبتمبر): “نعتقد أنه لن تكون هناك حرب في المنطقة”، وذلك وسط تداول فيديوات لنقل معدات عسكرية إيرانية على الحدود الشمالية الغربية.  وفي اليوم ذاته تحدث هاتفياً وزير الدفاع الأذربيجاني ذاكر حسنوف مع رئيس هيئة الأركان الإيرانية محمد باقري، مؤكداً له أن أذربيجان ليست لها أي أطماع في دول الجوار.  كذلك لم تنقطع الاتصالات بين طهران ويريفان، وتصر إيران على أن مفاوضات الحل لأزمات تلك المنطقة يجب أن تكون في إطار صيغة 3+3 (أذربيجان وأرمينيا وجورجيا + إيران وروسيا وتركيا)، ما يعني أن طهران ترفض أي حلول قد تفرضها قوى إقليمية أو دولية خارج هذه الصيغة؛ لأن هذا يعني تكرار الأزمات التي واجهتها إيران في منطقة الخليج من وجود للقوات الغربية، ولذلك أجرى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في اليوم التالي (الخميس الماضي)، اتصالاً هاتفياً بنظيره الأرميني، أرارات ميرزويان، أكد له فيه رفض بلاده وجود قوات أجنبية في منطقة جنوب القوقاز، مشيراً بذلك إلى المناورات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة وأرمينيا (إيغل بارتنر 2023) التي انطلقت الاثنين 11 حتى 20 أيلول (سبتمبر) الجاري.لاتشين والفشل الروسي!إن إجراء مناورة عسكرية صغيرة بين أرمينيا والولايات المتحدة ليس بالأمر المقلق لإيران أو روسيا، وإن كان الإعلام يُظهر عكس ذلك؛ لأن دول القوقاز أعضاء في برنامج الشراكة من أجل السلام الذي استحدثه حلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 1994؛ لكن الأمر يرتبط أكثر بفشل روسيا في إيجاد الطمأنينة والاستقرار لحليفتها أرمينيا، بخاصة في ما يتعلق بممر لاتشين. فبعد اندلاع حرب تحرير مرتفعات ناغورني كاراباخ عام 2020، فرضت أذربيجان حصاراً قاسياً على ذلك الممر الواصل بين أرمينيا وسكانها في الإقليم، ولم تستطع روسيا المكلفة ضمانة اتفاق السلام أن تفعل شيئاً لحل هذه الأزمة، سوى مطالبة خارجيتها تكراراً الحكومة الأذربيجانية بالاستجابة للمطالب الإنسانية والسماح بدخول الأغذية والمساعدات الإنسانية، حتى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال كلمته في المنتدى الاقتصادي الشرقي الثامن في مدينة فلاديفوستوك الروسية، الثلثاء 12 أيلول، كان يدافع عن سياسة بلاده أمام انتقادات أرمينيا، قائلاً: “ليست لدينا أي مشكلات مع أرمينيا، ولا حتى مع رئيس وزرائها نيكول باشينيان، لكنها اعترفت بسيادة أذربيجان على كاراباخ، فماذا نفعل إذاً؟”. ضغط على موسكو!بدا الأمر وكأن روسيا على وقع أزمتها في أوكرانيا، تواجه حرباً نفسية قادمة من فنائها الخلفي في القوقاز، بخاصة في ظل مخاوف أرمينيا من شن أذربيجان حملة عسكرية على محافظتها الجنوبية، سيونيك، وشعورها بتقاعس روسيا عن مساندتها وخيبة أملها رغم عضويتهما في منظمة معاهدة الأمن الجماعي. ويبدو أن تحركات حكومة يريفان بدأت تتجه نحو مناهضة موسكو، باقترابها أكثر من الغرب، وإعلان باشينيان تصديق برلمان بلاده بالكامل على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو قانون يلاحق الرئيس الروسي داخل أراضي حليفته أرمينيا، ثم تلقّيه دعوة للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وقبل ذلك كرر باشينيان في تصريحاته أن اعتماد أرمينيا على روسيا وحدها في مجال الأمن كان خطأً استراتيجياً. هذه الصورة من التشنج، جعلت روسيا تشعر كأن هناك أوكرانيا جديدة يتم التحضير لها في فنائها الخلفي، حتى أن وسائل التواصل الاجتماعي الأرمينية بدأت تتحدث عن انقلاب محتمل لإطاحة حكومة باشينيان التي تتقرب من القوى الغربية على حساب موسكو، وحتى أن المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، سخرت من بعض ما يتم تداوله على وسائل التواصل، مثل وجود 3 آلاف أرمني يعملون تحت إمرة فاغنر الروسية وينتظرون الأوامر بالانقلاب! عين على سيونيكعين أذربيجان وحليفتها تركيا على محافظة سيونيك الأرمنية الجنوبية، وذلك من أجل فتح ممر جنوبي (زنكه زور)، يتم الربط من خلاله بين أراضي أذربيجان وإقليمها المنفصل جغرافياً ناختشيفيان، ولذلك تحاصر ممر لاتشين من أجل مقايضة أرمينيا بهذا الممر الاستراتيجي، وتتذرع حكومة باكو باتفاق السلام بين البلدين، وتصر على أن حكومة يريفان لم تلتزم تعهداتها تنفيذ ممر زنكه زور لمصلحة أذربيجان مقابل ممر لاتشين لمصلحة أرمينيا. إن تحقق هذا الممر يفتح الباب أمام الطموحات التركية للربط الجغرافي بين دول آسيا الوسطى والقوقاز التي تعتبرها ضمن إرثها القومي الطوراني، إذ يمكن لتركيا إقامة طريق بري مباشر نحو بحر قزوين، يكون بمثابة ممر استراتيجي لنقل التجارة والطاقة.ويكون بذلك قد تشكل خط أفقي بمحاذاة جنوب أذربيجان وأرمينيا، يعزل شمال إيران عن الاتصال بروسيا، ويجعل تركيا البوابة الأولى لخروج النفط والغاز من منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، ما يعني ظهور روسيا جديدة أمام الأوروبيين لتوفير احتياجاتهم من الغاز؛ لكن هل تسمح الصين التي تعتمد على غاز آسيا الوسطى بحدوث ذلك؟! ولا ننسى أن التجربة الأوكرانية قد أعادت التفكير مجدداً في البحث عن بديل دائماً، فإن تركيا التي تعتمد على الوصول إلى آسيا الوسطى من خلال ممر لازورد (تركيا – جورجيا – أذربيجان – بحر قزوين – تركمانستان – أفغانستان)، وهو جزء من مشروع الحزام والطريق الصيني (الممر الأوسط)، لديها خشية من تعرض جورجيا لهجوم روسي مستقبلاً، ما يعني أن حلمها بالتحول إلى بوابة لنقل طاقة آسيا الوسطى والقوقاز وتجارة الصين إلى أوروبا قد تلاشى، وهنا تأتي أهمية إنشاء ممر زنكه زور لتضمن الحفاظ على موقعها في خريطة الحزام والطريق، وعلى تدفقات الطاقة القادمة من أذربيجان على الأقل. وهذا ما يفسر دعمها العسكري لكل من أذربيجان وجورجيا. كذلك أيضاً تدفع التجربة الإيرانية في سوريا والعراق إلى جانب الشراكة الأمنية مع روسيا، تركيا إلى الاهتمام بفتح ذلك الممر لعزل إيران خشية من تطويقها الأمني لها في منطقة القوقاز، وتقليصاً للتعاون الأمني بين إيران وروسيا، وذلك لمصلحة حلفائها الغربيين أيضاً. حاجة إلى التّوقيت!لا يمكن النجاح في إتمام هذا الممر من دون أن يكون التوقيت مناسباً تماماً؛ فأذربيجان لن تقوى على هذه المغامرة من دون الحصول على الدعم العسكري والغطاء الدولي الكافي من حلفائها تركيا وإسرائيل والغرب. وهذا لن يتم إلا إذا كانت إيران في حالة ضعف كأن تكون منشغلة بأزمة داخلية مثل الاحتجاجات العنيفة، فإن القوى الداعمة لهذا المشروع تريد عملية خاطفة لا حرباً عالمية؛ إن اشتعال النار في منطقة القوقاز يمكن أن يجذب دولاً كبرى مثل الهند للتدخل بوصفها منافساً للصين في منطقة القوقاز؛ بما يزيد من أزمة الطاقة التي تعاني منها أوروبا. أيضاً فإن تحقيق ذلك الممر، يعني أن تركيا باتت معزولة، إذا غضبت إيران عليها، عن الاتصال بمنطقة الخليج العربي الاقتصادية التي لديها خطة أيضاً لبناء مشروع ممر تجاري يربطها بأوروبا عن طريق الاتصال البري والسككي بميناء حيفا الإسرائيلي، وهذا يتطلب من تركيا ضمانة الوصول إلى منطقة الخليج عن طريق إتمام الممر التجاري الذي يربط بين ميناء البصرة العراقية ومدن تركيا وموانئها.  كما أن دول القوقاز وآسيا الوسطى، رغم ما تعانيه من السلوك الإيراني المتقلب، لا يمكن أن ترهن خروج تجارتها وطاقتها في ممر واحد، بخاصة أن هذه الدول في حاجة إلى الممر الإيراني (شمال – جنوب) للوصول إلى الموانئ الإيرانية القريبة من الهند ومنطقة الخليج وباب المندب، وهذا ما شجع دولة مثل أرمينيا على الاستثمار في ميناء تشابهار المطل على مياه بحر العرب جنوب إيران. ولا ننسى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بين دول بحر قزوين، فإن استطاعت تركيا الوصول من خلال هذا الممر إلى شواطئ بحر قزوين؛ فإن هناك معاهدة الوضع القانوني لبحر قزوين التي تمثل عائقاً أمام عبور تركيا إلى الضفة الأخرى نحو دول آسيا الوسطى.بالإضافة إلى أن وضع الحدود الجغرافية الحالية لدولة أذربيجان وأرمينيا ارتبط بمعاهدتي جلستان وتركمانتشاي بين إيران وروسيا القيصرية، وأن أي تغيير في هذه الحدود يفتح الباب أمام مطالب إيران باستعادة أراضيها، وأقلها شن هجوم عسكري على إقليم ناتختشيفيان الذاتي الحكم، أو إثارة الاضطرابات فيه. كما أن إيران بعد أن تستكمل ممرها البري بين تبريز ويريفان، تكون قد امتلكت ذريعة قوية للدفاع عن مصالحها التجارية والأمنية مع أرمينيا. إزاحة الأزمات!تمارس طهران سياسة الصبر الاستراتيجي في التعامل مع حكومة باكو، ولذلك تأتي الزيارات العسكرية المتبادلة، وتلبية مطلب أذربيجان بمحاكمة المتورطين في الاعتداء على سفارتها في طهران؛ من أجل كسب ثقة الأذريين الإيرانيين الذين يقطنون المحافظات الشمالية، وكذلك من أجل ألا تذهب العلاقة مع أذربيجان نحو التصعيد، بما يفتح الباب لإزاحة أزمات العالم إلى تلك المنطقة. وتدرك إيران أن فتح باب الصراع في منطقة القوقاز يمكن أن يشغلها هي وروسيا عن الأزمات في أوكرانيا والشرق الأوسط، ويمكن أن تكون ميليشيات إيران الموالية لها في منطقة الشرق الأوسط هي بالفعل بمثابة قنبلة نووية بديلة إذا ما تم حصارها شمالاً، بخاصة أن إسرائيل هي إحدى القوى الفاعلة في صراع منطقة القوقاز. وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية لا تعجب بتضخم الدور التركي في تلك المنطقة، لكن استمرار التوتر فيها يخدم استراتيجيتها لمحاصرة قوى منافسة مثل روسيا والصين، وربما يسحب معها إيران إلى الانشغال بتلك المنطقة بدلاً من مناكفة حلفائها في الشرق الأوسط.

التعليقات معطلة.