نيتشه يغامر فينادي بالعود الأبدي وضرورة الاكتفاء بالعالم الذي نختبره اختباراً حاسماً
مشير باسيل عون مفكر لبناني الثلاثاء 26 سبتمبر 2023 13:39
العود الأبدي بريشة بول بيليفو (صفحة الرسام – فيسبوك)
يمكننا أن ننظر في فلسفة نيتشه نظرة شاملة تنطوي على المحاور الثلاثة التي زين كل واحد منها بمساهمة فكرية جليلة: محور البناء النظري، ولو أنه بمطرقته هدم العمارات النظرية التي تكتفي بتجريد المعاني، محور الأخلاق، ولو أن الرأي السائد ينعته باللاأخلاقي، في حين أن ما يقترحه نيتشه أسلوب جليل من الحياة الإنسانية المبنية على ابتكار القيم الحرة، محور نظرية الخلاص، ولو أن العود الأبدي لا يعدنا بعالم ما ورائي غيبي لاهوتي، بل يزرعنا زرعاً مخصباً في تربة النضال الحياتي. الحقيقة أن العود الأبدي (die ewige Wiederkehr) هذا لا علاقة له بالدوريات الانتظامية أو الإيقاعات التكرارية التي تتعاقب على حياة الإنسان وتصوراته.
أصل العبارة والاختلاف بين نيتشه والرواقيين
قبل إنشاء “هكذا تكلم زرادشت” (So sprach Zarathustra)، وردت عبارة العود الأبدي في نصوص نيتشه الأوائل، لا سيما في مخطط كتاب “إرادة الاقتدار” (Wille zur Macht) الذي كان القسم الأخير منه منعقداً على نية التوسع فيها. في كتاب “هوذا الإنسان” (Ecce homo)، أعلن نيتشه أن الفكرة أتته من هيراقليطوس (القرن السادس ق.م.)، مشيراً إشارة خفرة إلى اقترانها بالفلسفة الرواقية، بيد أن الفلاسفة الرواقيين يستخدمون الاصطلاح الإغريقي (palingenesia) الذي يدل على الولادة الجديدة أو التكوين الجديد. ثمة اصطلاح آخر يستخدمه آباء الكنيسة، لا سيما القديس أوريجنيس (نحو 185-نحو 253)، نقلاً عن الرواقيين، يشير إلى ترميم الخليقة بأسرها (apocatastasis). من جراء الأبوكاتاستاسيس الكونية هذه، يعود كل كائن إلى فطرته الأصلية بعد فسادها في مصطرع التاريخ.
“هكذا تكلم زارادشت” بالألمانية (أمازون)
من الواضح أن جميع هذه المعاني كانت ماثلة في ذهن نيتشه، وهو الفقيه اللغوي وعالم الآداب القديمة، لا سيما اليونانية واللاتينية. إلا أن الاختلاف جوهري بين تصوره الفلسفي وتصور الرواقيين، إذ إن العود الأبدي، في نظره، عبث أبدي لا معنى له (sinnlos)، ما دام الكون لا أصل له ولا نهاية ولا غاية. أما الرواقيون فكانوا يخالفون أرسطو في مسألة قدم العالم، ويعتقدون أن الله خلق الكون في أبهى صورة مثالية ممكنة، وما برح يعتني به ويرعاه حتى يصون فيه البهاء الأصلي. ومن ثم، لا يعقل أن يعود الله إلى الخلق مجدداً، فينكر صلاح فعله الكوني الأول. إذا كان الله، في العود الأبدي، يعيد رسم الكون، فلأنه رسم، منذ البدء، أن ذلك حسن، يستحق المحافظة عليه. وفي ذلك دليل على محبة العالم الإلهية. أما الغريب في الأمر، فالتباين الذي جعل الرواقيين يتصورون العود الأبدي تعبيراً عن محبة الله، وجعل نيتشه يختبره إفصاحاً عن إرادة الاقتدار وعن عبثية الوجود.
تطور المفهوم في كتابات نيتشه
الحقيقة أن فكرة العود الأبدي كانت ترسم خلفية التأملات التي ساقها نيتشه في معنى التاريخ الإنساني. يمكننا أن نتبين ذلك في ثلاث حقب من الإنشاء الفلسفي: الحقبة الأولى تشتمل على النصوص التي وردت في كتاب “ولادة التراجيديا” (Die Geburt der Tragödie)، وكتاب “معاينات في غير أوانها” (Unzeitgemäße Betrachtungen)، الثانية تتناول نصوصاً من كتاب “المعرفة البهيجة” (Die fröhliche Wissenschaft)، وكتاب “هكذا تكلم زرادشت”، أما الثالثة فتنطوي على تأملات استودعها نيتشه في نصوص نشرت بعد وفاته، ولكن نيتشه نفسه يصف لنا، في كتاب “هوذا الإنسان”، اللحظة الأولى التي فيها نزل عليه حدس العود الأبدي. ذات يوم من شهر أغسطس (آب) 1881، خلال نزهة ممتعة من نزهاته في جبال الألب (Haute-Engadine)، وقف إلى جانب صخرة شاهقة تشبه الأهرام تنعكس صورتها في بحيرة سيلڤابلانا (Silvaplana)، وأخذ يستكشف آفاق الحقيقة الجليلة هذه، وقد تجلت له في صورة الدوران الكوني اللامتناهي.
“هوذا الإنسان” بالألمانية (أمازون)
يجمع الباحثون على أن نيتشه كان شديد الحذر من العود الأبدي في مستهل كتاباته الفلسفية، ولكنه ما لبث أن طور هذه الفكرة، لا سيما في كتاب “المعرفة البهيجة”، فأنشأ يقول في المقطع 341: “كل ألم، وكل ملذة، وكل فكرة، وكل تنهد، وكل ما في حياتك من أمور صغيرة وكبيرة يستحيل وصفها يجب أن يعود من أجلك […]، وهذا كله وفقاً للتعاقب عينه والترابط نفسه”. لا عجب في أن هذا التصريح يربك العقل السليم، إذ يصعب علينا أن نقبل عودة الأمور التي اختبرناها في الماضي. لذلك يسارع نيتشه فيعلن أن في هذا الشعور “أثقل الأحمال” التي ينوء بها الوجدان، إذ كيف لنا أن نحتمل نفسياً تكرار الحياة التي لم تنصفنا ولم تبهجنا في بعض الأحيان؟
إذا قارن المرء تصور العود الأبدي في كتاب “المعرفة البهيجة” بتصوره في كتاب “هكذا تكلم زرادشت”، تبين له أن التصور الأول يتناول المسألة تحدياً وجودياً يجابه الإنسان الباحث عن لغز محدوديته الزمنية، في حين أن التصور الثاني يصر على طابع المحنة التي يبتلى بها الإنسان حين يدرك أن الدهر كتب عليه أن يعود إلى سابق حياته. ومع ذلك، ما برحت فكرة تكرار الأحداث وفكرة الحركة الدائرية ترسمان الخلفية الناظمة في كلا التصورين. أما القلق الذي ينتاب زرادشت، فيقترن بالعواقب النفسية الخطرة التي قد تنجم عن مواجهة الإنسان المصير العودي المنهك هذا.
وحده الإنسان الأعلى (Übermensch) قادر على اختبار العود الأبدي يرسم لنا نيتشه معالم العود الأبدي في القسم الثالث من كتابه “هكذا تكلم زرادشت”. بعد أن يستلهم اقتدار الإنسان الأعلى الذي يهدم بحريته جميع القيم القديمة الحاقدة ويبتكر قيماً تمجيدية استعظامية ترمم كرامة الإنسان المقيد بسلاسل الأنظومات الأيديولوجية، يعلن وحدة العالم الواقعي التاريخي الملموس الذي فيه نختبر كل وعود طبيعتنا الإنسانية الخلاقة. يرتبط العود الأبدي بصورة الإنسان الأعلى الذي يملك من القدرة الخلاقة ما يتيح له أن يحتمل فكرة معاودة الاختبار عينه: “هذه الحياة يجب عليك أن تحياها مرة أخرى ومرات لا تحصى” (نيتشه، “هكذا تكلم زرادشت”). خلافاً للتصور المسيحي الذي يرسم أن التاريخ يصعد صعوداً مأسوياً منذ الخلق، مروراً بالسقطة والخطيئة، وصولاً إلى الدينونة الشاملة، يؤثر نيتشه الزمنية الدائرية التي تعاين التاريخ يعود إلى البداية حاضناً الكائنات عينها والأحداث نفسها، ذلك بأن الزمن لا يبتلع الحياة ويغلق عليها في كهف النهايات، بل يخضع لإرادة الإنسان الأعلى الذي يحيي قيم الحرية الكيانية الإبداعية. في جوهر الإنسان تنفجر طاقات التجاوز المطرد، إذ إننا في الحياة جسر ووصال، ولسنا المنتهى والاختتام. ومن ثم، يجب على كل إنسان أن يستثمر جسريته العابرة إلى الأسمى في كل شيء. إننا أهل الخلق والابتكار، والتربية والإصلاح، وأصحاب الزرع المستقبلي، نكتسب خبرة التصبر والمعاندة حتى نتجاوز انسدادات الأخلاق العتيقة المبنية على أحكام الخير والشر، وقد فرضتها السماء على وعينا من غير استشارتنا.
العود الأبدي بريشة فون تسلا راسكولنيكوف (صفحة الرسام – فيسبوك)
أما الحقيقة الأصعب التي لا يطيقها إلا الإنسان الأعلى، فتقضي بأن نصير على قدر ما نعود، ونختبر ما أصبنا من فتوحات الحياة: “كل شيء يذهب، كل شيء يعود، ودولاب الوجود يدور دوراً أبدياً. كل شيء يموت، كل شيء يعود فيزهر، ودورة الوجود تتواصل أبدياً. كل شيء ينكسر، كل شيء يترمم مجدداً، فإذا ببناء الكينونة يشيد تشييداً أبدياً”. على رغم أخطار العودة التافهة، يعلن زرادشت أن حرية الإنسان الأعلى تمنحه القدرة على تحويل التفاهة إلى أناقة وبهاء ورقي. لذلك يجب على الإنسان أن يعشق الحياة الناشطة المبتكرة السعيدة.
العود الأبدي امتحان إرادة الحياة
لا ريب في أن أمثولة العود الأبدي تقترن باختبار معنى الحياة. لذلك تنوعت سبل تفسير الاقتناع الفلسفي النيتشوي هذا. يذهب بعض المفسرين إلى أن هذا العود يعبر عن رغبة الإنسان في الاضطلاع بمسؤولية ماضيه، ذلك بأنه ينطوي على قدرة تطهيرية تنزع عن النفس الإنسانية الحقد والتبرم الوجودي. فيشفي الناس من أمراضهم النفسية، بعد أن يختبروا عودة الأمور ويدركوا معناها الذي فاتهم في الاختبار الأول. ومن ثم، فإن اختبار العود الأبدي أشبه بامتحان نفسي وروحي يساعدنا في تقويم مشاعرنا ومواقفنا من الحياة. حين نرتضي بالعود الأبدي، لا نكتفي بأن نحيا ما اخترنا سابقاً أن نحياه، بل نشعر بواجب قبول الحياة التي لم نخترها أيضاً. فنتعلم كيف نروض إرادتنا من أجل اقتبال تجليات الحياة فينا، حتى نتحول تحولاً وجدانياً ونتوب إلى الفهم الإنساني الأصوب. وعليه، تشبه أمثولة العود الأبدي ما تنطوي عليه الحكمة الإغريقية القديمة “اعرف نفسك” من عبر حياتية بليغة.
يؤثر مفسرون آخرون التدليل على أهمية الحاضر وكثافة الطاقات الإلهامية التي يختزنها، بحيث تتجلى لنا صدارة اللحظة الآنية التي ينبغي أن نستثمرها في تهذيب مسار حياتنا وتكثيف وعينا. ومع أن العود الأبدي حقيقة إيمانية ذاتية لا تخضع لبراهين العقل العلمي، فإنه يدلنا على السبيل الذي يتيح لنا أن نرضى بما يحتشد في الحياة من اعتمالات مأسوية تختمر اختماراً بطيئاً في وجدان كل إنسان. بمعزل عن صحة العود العلمية، ينبغي أن نستثمر إلهاماته الوجودية التي توحي إلينا بأن واجبنا الأخلاقي يملي علينا أن نتجاوز كل أصناف العدمية، ونحارب قوى التخلف والانحلال، حتى نقوى على تعزيز معنى الحياة الظافرة المتفوقة.
دعوة الإنسان إلى اختبار السر الفائق الوصف
لا يخفى على أحد من أهل الاطلاع الفلسفي أن نيتشه يكره الفكر العقائدي الذي يستميت في الدفاع عن حقائق الوعي المزيف. لذلك غالباً ما نراه يحث الإنسان على الانعتاق من الأنظومات الفلسفية والوثوق بحس الحرية الإبداعي الذي يتمتع به الإنسان الأعلى. ليس في تصور العود الأبدي أي ضرب من ضروب البرهان الميتافيزيائي أو الاستدلال المنطقي المجرد، بل جل الأمر اختبار القابليات الوجدانية اللامتناهية التي يزخر بها الوعي الإنساني المنعتق من سلطان الإرهاب الأيديولوجي. وحده زرادشت، الناطق الحق بلسان الحياة، يصون سر العود الأبدي، فيحرض كل إنسان على اختباره اختباراً وجدانياً ذاتياً، من غير الاستناد إلى براهين العقل العقيمة. يدرك نيتشه أن الحياة مصنع الآلام والمآسي، ولكنها أيضاً حقل الاختبارات الابتهاجية الأصدق والأعمق. ومن ثم، ينبغي أن نختبر هذا العود لكي نحول الحزن إلى ابتهاج، والعبودية إلى حرية، والظلم إلى كفاح، والعدم إلى امتلاء طافح بالفتح الوجداني المبين. بفضل العود الأبدي، نستطيع أن نتجاوز العدمية، ونعزز إرادة الاقتدار فينا، ونعيد ابتكار القيم الإنسانية العليا، حتى نتعلم كيف نعشق العالم وكفاحاته عشقاً سليماً منعشاً مبهجاً.
نيتشه الرجل المتفوق كما رسمه دانيال بيرنال (صفحة الرسام – فيسبوك)
يتضح لنا أن زرادشت لا يخاف التكرار اللامتناهي في الوجود، ولا يتهيب معاودة الحياة المجبولة بالآلام والمشقات، إذ إنه يدرك أن الطبيعة الإنسانية معرضة لأصناف شتى من المضايقات، وأن الألم لا يناقض حقيقة الحياة، وأن الضيق لصيق بانعطابيتنا الجسدية. الأمر الأفظع الذي يخشاه الإنسان المستنير المتجلي في وعي نيتشه إنما يقترن بمأساة عودة الإنسان التافه إلى الحياة، أي الإنسان الصغير النفس، السافل الخلق، الدنيء التطلع، الذليل الإرادة.
هل من دليل فيزيائي مقنع على صحة العود الأبدي
ينطوي العود الأبدي أيضاً على أبعاد فيزيائية كوسمولوجية، إذ إن نيتشه، في النصوص المتأخرة الصادرة بعد موته، يعاين إرادة الاقتدار في هيئة المجابهة التي تقاوم قوى العالم بأسره. لا ريب في أنه يتصور الكون فضاء رحيباً لا متناهياً من التجاذب المستمر بين قوى الإيجاب والسلب، بين قوى الارتقاء والانحدار، بين قوى الاستزادة والاستنقاص. لو كان للعالم من غاية لصيقة بطبيعته التناقضية، لكان استطاع أن يبلغها على تعاقب الأدهار. والحال أننا ما زلنا نعاني ونكابد ونكافح من غير أن نحقق غاية الغايات. وعليه، لا يعقل أن يبلغ الكون خاتمته، إذ إنه في تحول مطرد. بعبارة فيزيائية علمية، يعلن نيتشه أن مبدأ الحفاظ على الطاقة يسوغ العود الأبدي، ويبطل النظرية الفيزيائية التي تدعي أن الكون في طور فقدان طاقته (Entropie) وانحلاله التدريجي.
ومن ثم، يعتصم نيتشه بمبدأين يعتقد أنهما يفرضان حقيقتهما على الحس السليم: محدودية قوة العالم الفيزيائية، ولا محدودية الزمن أو لا تناهيه. من جهة، لا ينطوي العالم على قوة ذاتية قادرة على حسم تفاعلاته وإبلاغه خاتمة التناقض الكوني، من جهة أخرى، ليس للزمن من حدود، سواء في لحظة البداية (الأزل) أو في لحظة النهاية (الأبد). لا غرابة، والحال هذه، من أن يتمسك نيتشه بحقيقتين متناقضتين في الظاهر: تقضي الأولى بأن كل ما في الكون من طبيعة جامدة وحياة عضوية يتألف من قوى محدودة، بحيث يظل العالم على وضعيته، من دون استزادة أو استنقاص، وتبين الثانية أننا، مهما استقصينا حركة الزمن، سواء في الماضيات أو في المستقبلات، لن نعثر مطلقاً على حد فاصل، إذ إن الزمن، في نظره، لم يبدأ ولن ينتهي، شأنه شأن العالم الأرسطي القديم. لذلك غالباً ما يحشد نيتشه في عبارات العود الأبدي قضيتين متناقضتين في الظاهر: العالم محدود من حيث القوة، ولكنه أبدي من حيث انسياب الزمن، ذلك بأننا نعرف أن كل المعطيات التفاعلية في عناصر الكون لا تضيف إلى طاقته طاقة، ولا تزيد على قدرته قدرة. وفي الوقت عينه ندرك أن العالم غير مخلوق. لذلك يجب أن نقبل مبدأ العود الأبدي الذي يعلمنا أن كل شيء سبق فكان، وسيكون مجدداً إلى ما لا نهاية.
“المعرفة البهيجة” بالألمانية (أمازون)
علاوة على ذلك، يعمد نيتشه إلى تصحيح العلاقة المختلة بين العالم والإنسان. خلافاً للمذاهب الفلسفية الحديثة المصرة على إعلاء مقام الذات الإنسانية، وفي طليعتها العقلانية الدكارتية، يؤثر نيتشه أن يضع الإنسان في موضعه الذي يليق به في صميم حركة العالم. ليس الإنسان سيد العالم، يثبته تارة وينفيه تارة وفق أهواء إرادته، بل جزء من أجزائه. كل ما في الإنسان يحتوي عليه العالم أضعافاً مضاعفة. لذلك لا يجوز أن نفصل بين مصير الإنسان ومصير العالم. إذا كان الإنسان مأسوراً بنظرته الإنسانية، فإن الحياة الإنسانية واختباراتها المتنوعة لا تستغرق كلية العالم الرحبة. ليس للفلاسفة، في رأي نيتشه، أن ينصبوا الإنسان مقياساً مطلقاً به تقاس قيمة العالم، بل العالم الرحب مقياس ذاته. العالم والإنسان مقترنان اقتراناً وثيقاً، بحيث يضحى الإنسان عنصراً من عناصر العالم تسري عليه ضرورات التحول المطرد الذي يختبره الكون في العود الأبدي.
هل يرغب الإنسان حقاً في تكرار حياته؟
العود الأبدي تعبير عن اقتناع نيتشه بأن رغبة الإنسان تواقة إلى الأبدية (Alle Lust will Ewigkeit). ورد التصريح الخطر هذا في كتاب “هكذا تكلم زرادشت”. من خصائص الاصطلاح الألماني (Lust) أنه يدل على الرغبة وعلى اللذة في الوقت نفسه. من المعلوم أن فرويد استثمر هذه العبارة، فأظهر أن اللذة يرافقها توتر في رغبة تجاوز النقص الكياني. من الواضح أن فكرة الأبدية أساسية في كل رغبة إنسانية، وفي كل مسعى طموحي إنجازي. لذلك يتجلى هذا التصور في هيئة الأمر القاطع الذي يرشد الإنسان في جميع مساعيه الوجودية. في صميم الأمر القاطع ينعقد المعيار الفاصل الذي يساعد الإنسان في استجلاء طبيعة الأمور التي يرغب في عودتها الأبدية، والأمور التي لا يرغب فيها على الإطلاق ولا يطيق حتى التحدث عنها.
“إرادة الإقتدار” بالألمانية (أمازون)
يشير هذا المعيار إلى ضرورة التمييز بين المرغوب الإنساني الدائم، والمنبوذ الإنساني القاطع. ما من إنسان حكيم يروم أن يكرر كل يوم مأساته الوجودية الناجمة عن اعتلال في الجسد أو اضطراب في الذهن أو خصام في المعية أو اقتتال في المدينة أو انقراض في الطبيعة أو احتضار في البيئة. من الواضح، والحال هذه، أن العود الأبدي منغرس في الواقع الحي الذي يعتصم به نيتشه اعتصاماً مطلقاً، ويحثنا على التعلق به ورعايته وصونه، إذ إنه وجه الحياة الحق. كل تصور يخرج من حقل الواقع الحي لا يستحق منا الاعتناء والنظر. وعليه، فينبغي لكل إنسان أن يتحرى، في صميم الواقع الحي، الاختبارات السعيدة المنعشة التي يروم أن يكررها إلى ما لا نهاية، والاختبارات الأليمة المهلكة التي يرجو الانعتاق النهائي منها، ذلك بأن ما يستحق أن نحيا من أجله، يستحق أيضاً أن يتكرر في حياتنا في هيئات شتى. لا بد إذاً من عود أبدي ينمي فينا قدرتنا على السعادة الحق، ولكن ما الاختبارات المبهجة التي نصبو جميعاً إليها؟ لا ريب في أن نيتشه يعرف الجواب، إذ يسارع فيعلن أن الحياة التي يليق بنا أن نؤبدها تنتمي إلى النهج الوجودي الأشرف الذي بفضله يتعزز في وعي الإنسان التكثف الوجداني، والأناقة الكيانية، والاقتدار الإرادي، والأصالة الوجودية. أما الدليل الساطع على الاستمتاع بهذه الخصائص فمصالحة الواقع الحي مصالحة صادقة سليمة. حين يصالح الإنسان واقعه، يرتضي طوعاً بأن يختبر قابليات كيانه في حدود هذا الواقع، من غير أن يتظلم تظلماً يخرجه من دائرة الالتزام التاريخي، ويزج به في متاهات التنظير المثالي والتجريد الميتافيزيائي الماورائي.
حب الحياة دليل على ضرورة العود الأبدي
حينئذ يكف الإنسان عن التحسر والتأسف والتلوع، ويعرض عن الرجاء الوهمي المنهك، حتى يستطيع أن يحب واقعه حباً صادقاً. ومن ثم، لا يصح العود الأبدي، في نظر نيتشه، إلا حين يختبر الإنسان الحب الأعظم، حب الحياة وحب الواقع وحب العظمة الإنسانية. من الغريب هنا أن يستطلع المرء وجوه القربى بين وصية الحب النيتشوية ووصية المحبة الإنجيلية.
اقرأ المزيد
“إذا كنت، في كل ما تريد أن تصنعه، تبدأ بمساءلة نفسك: أمتيقن أني أريد أن أصنع هذا الأمر مرات ومرات لا نهاية لها؟ كان لك ذلك بمنزلة مركز الجاذبية. إليك التعليم الذي ينطوي عليه مذهبي: احيَ حياة تتيح لك أن ترغب في أن تعود فتحيا، إذ إنك ستعود فتحيا في جميع الأحوال. من كان فرحه الأعظم في جهده، فليجهد جهده، من يحب فوق كل أمر الراحة، فلينعم بالراحة، من يعشق قبل كل أمر الخضوع والطاعة والاتباع، فليطع، ولكن ليعلم جيداً أين يذهب به خياره المفضل هذا، فلا تثبطه أي وسيلة من الوسائل، ذلك بأن الأمر كله متعلق بالأبدية. إن هذا المذهب رقيق للذين لا يؤمنون به، إذ لا يلوح بجحيم أو وعيد. من ليس فيه الإيمان، لن يشعر في داخله إلا بحياة زائلة مضمحلة” (نيتشه، “هكذا تكلم زرادشت”). لا ريب في أن العود الأبدي تعليم فلسفي لا يلقي الرعب في نفوس الناس، ولا يربكهم بعقدة مؤلمة من الذنب الذاتي، ذلك بأنه أبعد ما يكون من مقام المثال الأعلى الذي ينبغي أن يحتذي به الناس حتى ينفصل الأنقياء عن الفاسدين. جوهر التعليم الفلسفي هذا تحريض الناس على الاستمتاع بكل لحظة من لحظات حياتهم استمتاعاً يتواصل في الزمن ويستمر استمرار الحياة.
فردريك نيتشه (مؤسسة نيتشه)
ومن ثم، فإن الإنسان الحكيم الذي صالح الواقع وأعلن انتماءه الصريح إلى الحياة واعتنق مصيره (amor fati) من دون تضجر، يمكنه أن ينعم بالحاضر ويرتشف كل دقيقة من دقائقه كما لو أنها تستجمع الأبدية في ثناياها. لحظات الحياة السعيدة ذرات متناثرة من الأبدية الناشبة في تربة الحاضر، المنعتقة من حنين الماضي ومخاوف المستقبل. لا يحيا الإنسان الحكيم على الرجاء، بل على الاعتصام العنيد بوعود اللحظة الحاضرة، فيحرر نفسه من أمراض الحنين إلى الماضي المندثر، ويعرض عن ذنب التقصير في إنجاز المثال المرتسم في أوهام المستقبل. بمثل الاستعداد الوجداني الحر هذا يستطيع الإنسان أن يختبر العود الأبدي في صميم الحاضر الذي يتوق إلى الإكثار من استحضاره، حتى يمتلئ كيانه بقابليات الانتعاش المنطوية فيه. من أبهى هذه القابليات لحظات النعمة التي تزين حياتنا من حين إلى آخر، فنتشبث بها حتى لا تنقضي، إذ بانقضائها نشعر بأن قسطاً من سعادتنا اضمحل وتلاشى. تتجسد فينا هذه اللحظات حين نختبر قربنا من العالم، وقد أتانا في وهب هني يعفينا من معاركته. حين يبتسم لنا العالم، أي حين يمنحنا أفضل ما يختزنه من فرص الهناء الكياني، نكف عن منازلته ومكابدة نوائبه. فننعم بأبدية انبساطه ونتذوق انحلال الزمن فيه، أي انقطاع جريانه المقلق.
مصالحة العالم وقبول محدوديته الواعدة
لا يختبر العود الأبدي الناشب في صميم الحاضر إلا الإنسان الذي حرر نفسه من قبضة الماضي ووهم المستقبل، فانغمس انغماساً بريئاً في بحر الحاضر لا يتأسف على فعل فاته في ما انقضى من حياته، ولا يتهيب فعلاً يجهل كيف ينجزه في ما هو آت عليه. من آثار العود الأبدي البهية أن الإنسان ينعتق من رهبة الموت، وكأن الحاضر المكتمل بانبساطه اللانهائي لا يطيق الانطفاء والانقضاء والتلاشي. قد تكون أقرب الصور المجازية ما قاله المسيح في إعلان حلول ملكوت الله في العالم، ذلك بأن الجنة الموعودة ليست واقعاً مؤجلاً يهبط علينا في منتهى الدهر، أو ملهاة الأفيون الذي يداوي جراحات الزمن، بل حقيقة وجدانية يختبرها الناس الأنقياء هنا والآن، وقد صالحوا أنفسهم وصالحوا الآخرين وصالحوا العالم، فانعتقوا من أوهام الكمال الخادعة. ما من عود أبدي إلا إذا أدرك الإنسان أن الحب لا يختبره على هيئة التأجيل الرجائي الميتافيزيائي، بل في صورة الإنجاز التاريخي الآني. من لا يحب الآن، لن يحب أبداً. وحده حب الحاضر يحول الحياة إلى ذرة من ذرات الأبدية. ليس من قبيل المصادفة إذاً أن يصف نيتشه الأبدية بالمرأة التي يعشقها عشقاً لا نهاية له: “لم أعثر أبداً حتى الآن على المرأة التي منها أود أن أنجب الأولاد، إلا تلك المرأة التي أحب: إذ إني أحبك، أيتها الأبدية” (نيتشه، “هكذا تكلم زرادشت”).
اعتراض جيل دلوز: المعاودة والاختلاف
يتناول الفيلسوف الفرنسي النيتشوي الهوى جيل دلوز (1925-1995)، في كتابه “نيتشه والفلسفة “(Nietzsche et la philosophie)، مقولة العود الأبدي، فيرشقها أولاً بتهمة التكرار المضجر، إذ يصرح بأنها لا تحمل إلينا الجديد الذي ينطوي عليه الاختلاف الخلاق. العود تكرار الأمر عينه، وإقصاء متعمد يصيب الغيرية المتحفزة للاعتلان. ما دام الزمن أشبه بدائرة، والعالم على هيئة الدولاب، فإننا سنختبر الأمر عينه، ونفقد فرصة الاستمتاع بالاختلاف المبدع، ولكن العود الأبدي ينطوي خصوصاً على بعد وجداني يحرره من مقولة التكرار الروتيني المألوف. خصوبته منبثقة من التناقض الحي الذي يستثيره في وجدان الإنسان المرتعب من قابليات اعتلان الاختلاف المستجد في معاودة الاختبارات عينها.
لذلك يستدرك دلوز فيعترف بأن العود الأبدي يحرك وجدان الإنسان التائق إلى تنويع اختباراته الحياتية. قبل أن يكون العود تصوراً كوسمولوجياً فيزيائياً، يتجلى في أبعاده الوجدانية الأخلاقية على قدر ما يقترن بإرادة الاقتدار التي تروم أن تتخطى الماضي لكي تبتكر المستقبل الآتي منه على غير تكرار. من عبر العود الأبدي واجب تهذيب الذات حتى تتجاوز اختباراتها من غير أن تبطل معاودتها في شكلها القديم. التفاهة التي تعود إلى في مسلكي المقبل لن تكون على هيئة التفاهة التي اختبرتها في الماضي، بل ستعتلن في صورة منقحة وفقاً لقابليات الاصطفاء التكثفي الذي يجعلني أختبر الأمر عينه في اختلاف المقادير الوجدانية. وعليه، يتصور نيتشه الاختلاف اللصيق بالحياة في هيئة الماوراء الذي لا يؤمن به، إذ يعتقد أن في كل اختبار وجودي بعداً منحجباً يتيح لي أن أحول التكرار إلى معاودة تحمل في ثناياها بذار الاختلاف الإبداعي.