مقالات

جدل الهوية العراقية في خضم العصف الفلسطيني

 المصدر: النهار العربي

فاروق يوسف

فاروق يوسف

ميليشيات تابعة لإيران في العراق.

ميليشيات تابعة لإيران في العراق.

A+A-برّأت الحكومة العراقية نفسها من الهجمات الصاروخية ضدّ القواعد الأميركية التي تقوم بها ميليشيات لم تثبت صلتها علناً بالحشد الشعبي، في بيان أصدرته أخيراً، مطالبةً من خلاله تلك الميليشيات بالكف عن القيام بأعمال عدوانية ضدّ “دولة صديقة”. ليس في ذلك ما هو جديد، سوى أنّ الحشد الشعبي الذي يوصف بأنّه مؤسسة حكومية، لم ينف صلة تلك الميليشيات به، بالرغم من أنّها حملت أسماءً غير متعارف عليها وربما تكون منتحلة. في المقابل، فإنّ الموقف الحكومي الذي مثّله رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لم يتمّ تبنّيه من الأحزاب الرئيسة في ائتلاف الإطار التنسيقي الحاكم. وكما في كل مرة فإنّ ما يقوله رئيس الحكومة لا يُلزم الأطراف الأخرى المتنفذة في شيء. فالرجل كما لو أنّه يمثل نفسه، تحدث عن ثوابت سياسية، قد تمّ التخلّي عن معظمها عملياً بسبب اعتبارها جزءاً من تركة النظام السابق التي كان يجب التخلّص منها. لقد دفع فلسطينيو العراق ثمن ذلك الإجراء حين هاجمت الميليشيات الشيعية أحياءهم السكنية وقتلت مَن قتلت وكان التهجير من حصّة الأحياء منهم. حدث ذلك بعدما أصدر الحاكم المدني الأميركي بول بريمر قراره بنزع الإقامة الدائمة منهم. كان الفلسطينيون في العراق قبل 2003 يتمتعون بالمواطنة من غير أن يتمّ تجنيسهم إلاّ في حالات ضيّقة. أما وقد تمّ تضييق الخناق عليهم فقد مثّل ذلك انقلاباً على الثوابت التي كان العراقيون يتعاملون من خلالها مع القضية الفلسطينية. ولم يكن ما حدث بعيداً من المناورة التي يضع الإيرانيون من خلالها “فلسطين” ورقة في ملف الجدل المتمهل مع الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة. جرائم من غير عقابفي خلفية المشهد السياسي العراقي كان الموقف الإيراني الحقيقي يقف باعتباره مؤشراً للحدود التي تفصل بين الواقع والتضليل الإعلامي. كان “الموت لإسرائيل” شعاراً بقي زمناً طويلاً مرفوعاً في شوارع المدن الإيرانية، ولكنّ الفلسطينيين كانوا يُقتلون ويُهجّرون على أيدي أتباع إيران في العراق من غير أن تتخذ الدولة المنادية بموت إسرائيل موقفاً تردع من خلاله أتباعها من تنفيذ حكم الإعدام بالفلسطينيين، ولم يكن ذلك في أبسط تفسيراته إلاّ قلباً للشعار الإيراني ليكون “الموت لفلسطين”. واقعياً، فقد تمّ وأد القضية الفلسطينية في كواليس الحكم العراقية بعدما قام عدد من سياسيي الخط الأول العراقيين بزيارة الدولة العبرية علناً، من غير أن يتمّ تفعيل بنود من القانون العراقي التي تدين مَن يقوم بذلك الفعل وتحكم عليه بالإعدام. على المستوى القانوني كانت هناك جريمة تُرتكب من غير أن يكون لها عقاب. وهو ما يعني أنّ النظام السياسي الحاكم في العراق لم يعد يرى في الحق الفلسطيني فاصلاً ما بينه وبين إسرائيل، وأنّ في إمكان العراقيين أن يسافروا إلى إسرائيل من غير أن يشعروا بالخوف من عبارة “ما عدا إسرائيل” التي أُزيلت من الجواز العراقي الذي صار نصفه عربياً والنصف الثاني كردياً. ولكن مَن يصدّق أنّ العراق قد وصل إلى هذه الدرجة من الانحطاط الإنساني؟ ليس العراق حتماً ولكنهم أفراد طبقته السياسية الذين صاروا يفعلون كل شيء من أجل الحفاظ على وجودهم في السلطة.   المحيط العربي قي سلّة المنسياتاليوم تجدّد الميليشيات المقنّعة حربها على الولايات المتحدة. فهل يعني ذلك أنّ الأميركيين مقتنعون بأنّ العراقيين يقاتلونها من أجل القضية الفلسطينية منزهين من رغبة إيران في الضغط عليهم، لا من أجل غزة وأهلها بل من أجل أن تكسب إيران جولة جديدة عليهم؟ يصلح ذلك موضوعاً لفيلم أميركي طويل. لن يخسر الأميركيون إن طال زمن الفيلم. فالعراقيون إذ يتحوّل بلدهم إلى ساحة لتصفية الحسابات هم الخاسرون أولاً وأخيراً. ما صار واضحاً أنّ العراقيين وقد ثلم الاحتلال جزءاً من هويتهم القومية، قد تخلّوا إلى حين عن القضية الفلسطينية باعتبارها واحدة من أهم ثوابت العيش قبل أن تكون ركيزة لطريقة تفكيرهم السياسي. وإذا ما كان رئيس الحكومة قد ردّد بطريقة فارغة من المحتوى الشعارات القديمة، فإنّ ذلك لا يعبّر عن أدبيات الأحزاب التي تتحكّم بمصير حكومته. غير أنّ أحداً لن يعترض عليها ما دامت تبقى في إطارها الشكلي غير المتصل بأية مسؤولية محدّدة. ولقد سبق للسوداني غير مرّة أن أكّد على أنّ رعاية المصالح الإيرانية في العراق تقع في الدرجة الأساس في سلّم مهمّات حكومته. وهو ما يضع علاقة العراق بمحيطه العربي في سلة المنسيات التي لا يجري تذكّرها إلاّ في إطار الحاجة الإيرانية في إدارة الصراع مع الغرب انطلاقاً من النافذة الإسرائيلية. العجمة والهوية العربيةسبق للعراقيين أن دخلوا في جدل عميق، كان محوره الهوية الوطنية. ذلك الجدل كان محسوماً بشكل بديهي لصالح عروبتهم. غير أنّ الاحتلال الأميركي كان قد هيأ مسرحاً ثقافياً يقع إلى جوار مسرحه العسكري. لقد أحضر معه مجموعة من “المثقفين” العراقيين الذين صاروا يشكّكون في تلك البداهة التي قالوا إنها جزء من إرث النظام السابق الذي يجب التخلّص منه، وأنّ الهوية العراقية منفصلة عن العروبة، معتبرين أنّ كل ما قيل عن الهوية الثقافية العربية للعراقيين هو محض خيال سياسي لا علاقة له بالواقع. وكما اتضح في ما بعد، فإنّهم يفضّلون أن يكون للعراقيين أي شيء سوى أن يكونوا عرباً. وهو ما فضحه صمتهم حين تحول العراق بشكل تدريجي، ليس إلى حديقة خلفية لإيران أو إمارة فارسية فحسب، بل وأيضاً إلى واحدة من أهم جبهات إيران في صراعها مع العالم. تلك حقيقة تضع موقف الميليشيات وهي تستأنف قصفها للقواعد الأميركية بحجة الدفاع عن القضية الفلسطينية في موضعها الواقعي. عملياً فإنّ ما نراه لا يمتّ بصلة إلى الثوابت السياسية التي تحدث عنها رئيس الحكومة العراقية، بقدر ما هي استثمار صريح للنتائج التي عمل المحتل الأميركي جاهداً من أجل الوصول إليها وتسليمها جاهزة إلى إيران. العجمة التي انتهى إليها العراقيون لن يتمكنوا من عبور لجتها ما داموا عاجزين عن العودة إلى عروبتهم باعتبارها هويتهم الحقيقية.