المصدر: النهار العربيالرباط- خولة اجعيفري
فلاح مغربي يشرح تأثيرات الجفاف على الأرض الزراعية. (النهار العربي)
تسبّبت موجة الجفاف واستمرار استنزاف المخزون الجوفي للمياه في المغرب، ويُعدّان الأسوأ في تاريخه لما يناهز الأربعين سنة، في نزوح أعداد من الفلاحين في الريف إلى المدن، متخلّين عن أراضيهم العطشى، ومن بينهم الفلاح الستيني حميد العمري، الذي ترك أراضيه في منطقة “تمانار” جنوب المغرب (530 كلم عن الرباط) وانتقل وأسرته منذ سنتين إلى مدينة أكادير بحثاً عن لقمة العيش الكريم بعيداً من مهنته الأم. يقول العمري، الذي يعمل نادلاً في أحد مقاهي المدينة، إنّ حاله لا يختلف عن حال عشرات الفلاحين في مختلف مناطق المغرب، ممّن يعانون جراء الجفاف الناجم عن التغيّر المناخي، بعدما يبست أراضيهم وباتت في حكم العقيمة بسبب شح المتساقطات الذي تشهده المملكة منذ سنة 2014، مشيراً إلى أنّ الحالة المادية الضعيفة هي التي دفعته إلى التخلّي عن أرض أجداده وأسلافه الجدباء، بعدما فشلت محاولاته في إعادة إحيائها. العمري استسلم لواقع الجفاف وتخلّى عن أرضه التي كانت تنتج القمح والشعير والخضر وشجر الأركان، لكنه سيجابه الأقدار حتى آخر رمق لكي لا يضطر لبيعها، موضحاً: “الله يقول خلقنا من الماء كل شيء حي، وأنا أنتظر أن يحيينا الله جميعاً بغيثه، فالواحد منا يموت من أجل ولده وأرضه، وأنا هنا أعمل لأعيل أسرتي ولتعليم ابنتي، أما الأرض فلن أبيعها بالرغم من كون الحرارة والجفاف حوّلاها من خضراء يانعه ومنتجة للثمار وخيرات الربّ إلى شبه صحراوية وقاحلة… وهذا حقاً مؤلم جداً لا يسرّ الناظر فكيف يسّرني وأنا فلاح ابن فلاح”.أراضٍ من دون فلاّحينهنا “جماعة بلفاع” في إقليم شتوكة آيت باها التابع لجهة سوس ماسة في جنوب المملكة، رئة المغرب الفلاحية ومصدر الجزء الأكبر من الإنتاج الوطني للخضروات البكرية الموجّهة للتصدير. أراضٍ شاسعة من الأراضي الفلاحية المجهّزة، طالها التلف والنسيان بسبب توالي سنوات الجفاف وشح الموارد المائية السطحية والباطنية، ما حدا بالكثير من المزارعين والفلاحين من أصحابها إلى التخلّي عن هذه المساحات المهمّة من المغروسات والأراضي الفلاحية في المنطقة ككل وعلى مدّ البصر، في مشهد مؤسف. وتتظهر مشكلة الجفاف والتغيّر المناخي في هذه المنطقة أكثر استفحالاً وإثارة للقلق، بعدما استبدلت الأرض بوشاحها الأخضر آخر صحراوياً شاحباً، في ظلّ استنزاف فرشتها المائية بسبب الاستغلال المفرط وغير العقلاني، إلى جانب شح المتساقطات المطرية التي لا تتجاوز في المعدل 30 مليمتراً في السنة، وعدم قدرتها على تعويض تراجع المياه الجوفية، ما دفع بفلاحي المنطقة إلى البحث عن طرق نجاة أخرى، من قبيل عرض مزارعهم للبيع بأثمان بخسة من دون أن يجدوا من يشتريها، أو الهجرة أو تغيير المهنة كأبعد تقدير.
ساعتان للسقي في اليوم وإجراءات قاسيةبحسرة كبيرة وعينين اغرورقتا بدموع قلّة الحيلة، يشرح الفلاح جامع أيت أوفقير كيف جفّت ينابيع الأراضي الفلاحية، وفقد عشرات من الفلاحين الأمل في ري مزارعهم التي توشّحت بثوب قاحل صحراوي عوض الأخضر خلال السنوات الأخيرة التي استفحل فيها الجفاف وبلغ عمق الآبار أكثر من 250 متراً من دون قطرة ماء شافية. أوفقير الذي رافق “النهار العربي” في جولة في المنطقة التي تحوّلت إلى سراب من الأراضي العطشى والصحراوية، حيث تنعدم الحياة ولا صوت يُسمع في الأفق، تحدث عن محاولات عدد من الفلاحين إنقاذ مزارعهم عبر جلب الماء من سد يوسف بن تاشفين الذي يبعد عنهم عشرات الكيلومترات، والذي بات لا يستفيد منه حالياً سوى أقل من 20 في المئة من الأراضي، بسبب غلاء تكلفة السقي وعدم وجود موارد مادية كافية في السد تسمح بريّ المنطقة بالكامل، إلى جانب كون السلطات حدّدت ساعتين في اليوم فقط لري الزراعات لمدة 5 أيام في الأسبوع، وذلك بسبب استفحال الجفاف.
ويعتبر فلاّحو المنطقة أنّ ساعتين في اليوم عن طريق “التنقيط” غير كافية أبداً، بخاصة أنّ محاصيلهم تتطلّب مياهاً كافية لضمان جودة المحاصيل، بخاصة في الخضر والحوامض والفواكه مثل الفراولة، وهو ما دفع جلّهم في بادئ الأمر إلى استبدال محاصيله بأخرى لا تتطلّب رعاية خاصة ومياهاً أوفر على غرار الفول والجلبانة (البازلاء) وغيرها، “ولكن مع تحديد السلطات وقت الري ساعتين لمدة 5 أيام تضرّرت هذه الزراعات بدورها، وبالتالي وصلنا إلى الطريق المسدود والنتيجة التي ترونها بأم أعينكم اليوم… أراض قاحلة هجرها أصحابها في منطقة فلاحية بامتياز وتعتمد أساساً في مواردها الاقتصادية على الفلاحة”. الفلاح المتضرر الأولوعلى بعد كيلومترات عديدة من الأراضي العطشى التي زارها “النهار العربي” في مناطق شتوكة أيت باها في الجنوب المغربي، لاحظنا عشرات أشجار الزيتون وشجر الأركان التي طالها الجفاف والتلف هي الأخرى، بالرغم من كونها لا تتطلّب الكثير من المياه. وبهذا الخصوص، أكّد المسؤول في وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات حسن نشيط، أنّ “التغييرات المناخية وفداحة الوضع المائي في رئة المغرب الفلاحية طاولت أيضاً هذه الزراعات وتهدّد مستقبلها في المنطقة”. وشدّد نشيط على أنّه رغم المجهودات التي بذلتها الحكومة لاحتواء أزمة عطش الأرض، يبقى المتضرّر الرئيسي من هذا الوضع الذي تسبّب فيه الجفاف، هو الفلاح الصغير نظراً الى التكلفة العالية لمياه التحلية المخصّصة للفلاحة، والتي تتضاعف لستّ مرات مقارنة بالمياه المسحوبة من السد. ماذا بعد تحلية مياه البحر؟وكان المغرب قد شيّد محطة لتحلية مياه البحر داخل المجال الترابي للمتنزّه الوطني الطبيعي لسوس ماسة، وفقاً للمعطيات الرسمية الصادرة عن وزارة الفلاحة، ويرمي إلى تحلية أكثر من 400 ألف متر مكعب من مياه البحر في اليوم، بتكلفة تقدّر بمليارين و500 مليون درهم للمحطة، وما بين 600 و800 مليون درهم لشبكة الري.
ويهدف إنشاء محطة تحلية مياه البحر لآشتوكة إلى تحقيق مجموعة من الغايات تشمل على الخصوص تقليص استخراج المياه من الفرشة المائية، واستبدال مياه البحر المحلّى محل المياه الجوفية، بما يصل إلى 3600 متر مكعب للهكتار للمساحات المزروعة بزراعات ذات قيمة مضافة عالية، وتوفير مياه محلاة يمكن أن تغطي 68 في المئة من الحاجيات السنوية للزراعات المغطاة في سهل اشتوكة. وهذا المشروع سيمكّن أيضاً، بحسب وزارة الفلاحة، من الحفاظ على 5000 منصب شغل قار مرتبطة بالأنشطة الفلاحية في المنطقة، مع الحفاظ على إنتاج المنطقة من البواكر البالغ مليوناً و400 ألف طن (مليون طن موجّهة للتصدير و400 ألف للاستهلاك الداخلي، تمثل 85 من المئة من الصادرات الوطنية للطماطم). سد يوسف بن تاشفين عطشوفي طريقنا إلى سد يوسف بن تاشفين الذي يزود معظم أقاليم الجهة بالمياه، لاحظنا كيف أنّ المنطقة تفتقر لمعالم الحياة وتتلبس سكون الصمت، فلا تكاد تسمع سوى صوت عجلات السيارة وهي تخترق هذه البلدة التي تبدو وكأنّها اندثرت منذ عهود. وتبدو الأرقام والمعطيات الرسمية لوزارة التجهيز والماء بخصوص حقينة ملء السدود رحيمة أكثر من واقع الحال الذي نراه بأم أعيننا، فمنسوب المياه المتبقية في سد يوسف بن تاشفين بحسب المعطيات الرسمية 40 مليون متر مكعب من أصل 299، فيما أنّ الحياة تكاد تنعدم في المكان، وحجم تراجع المياه مهول ومفزع… “إنّه الموت البطيء، للأرض والإنسان”، كما يقول الفلاح جامع الذي رافقنا في الزيارة إلى السد. وكانت وزارة الداخلية المغربية قد عمّمت، قبل أشهر، منشوراً على الولاة والعمال ورؤساء المجالس المنتخبة، تدعوهم من خلاله إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى التقليل من الاستعمال المفرط للماء الصالح للشرب، محذّرة من أنّ المملكة تشهد حالة مائية حرجة للغاية بمعدلات ملء منخفضة في السدود والأحواض المائية. ودعت وزارة الداخلية إلى تقليص كمية تدفق المياه الموزعة على المواطنين، والمنع التام لسقي المساحات الخضراء وملاعب الغولف بمياه الشرب، ومنع غسل الشوارع والأماكن العامة بالمياه الصالحة للشرب، مع منع الاستخراج غير المشروع للمياه من الآبار والينابيع والمجاري المائية وقنوات نقل المياه. وفي هذا الصدد، طالب وزير التجهيز والمياه نزار بركة بضرورة تسريع إنجاز برنامج السدود الكبرى والصغرى، في إطار البرنامج الوطني للتزويد بمياه الشرب ومياه السقي 2020-2027، لرفع الطاقة التخزينية إلى 24 مليار متر مكعب في أفق سنة 2030.