المصدر: النهار العربيعبدالمجيد زراقط
يعقوب الشاروني
توفي، قبل أيام، رائد أدب الأطفال العربي والعالمي يعقوب الشاروني (1931-2023). بلغ الثانية والتسعين من العمر، وبقي في أوج عطائه.
في عيد ميلاده الثاني والتسعين اجتمع محبوه حوله مردِّدين: شابٌّ في الثانية والتِّسعين، ستُّون سنة من الإبداع، الإبداع شبابٌ دائم… مبدعٌ، ليس في الإنتاج الأدبي فحسب، بل في علاقاته الإنسانية أيضاً.
يلقاك مشرقَ الوجه، وضَّاء الابتسامة، يلهج بالترحيب… تقول عندما تعرفه: دمث، لطيف، طليُّ الحديث، محاور لبق متمكِّن، في مختلف شؤون الأدب والحياة…
أتى إلى كتابة الأدب من عالم القانون والاقتصادَين: السياسي والتطبيقي. ترك المحاماة ورئاسة محكمة في القضاء، ليعمل، على التوالي، مديراً عاماً في هيئة قصور الثقافة، ومديراً عاماً لثقافة الطفل، ورئيساً للمركز القومي لثقافة الطفل، في وزارة الثقافة المصرية، وأستاذاً زائراً يدرِّس أدب الأطفال ونقده، في عدد من الجامعات المصرية، منها: جامعتا حلوان والإسكندرية… وليشرف على صفحة أدب الأطفال في الأهرام التي كان ينشر فيها حكاياته تحت عنوان: “ألف حكاية وحكاية”، إضافة إلى تنظيمه المؤتمرات والندوات ومشاركته فيها.
ثقافة الأطفال وأدبهم القصصي ونقده هو مجال إبداع الشاروني، منذ أن امتلك، وهو الفتى الموهوب، ملكة القصِّ في أسرته، إذ توافرت له شروط امتلاك هذه الملكة، ومنها: جدَّة وأخت تحكيان له الحكايات، ومكتبة تحوي الكثير من الكتب الجديرة بالقراءة، وفي مقدمتها الكتاب القصصي الخالد: “ألف ليلة وليلة”.
منذ العاشرة من عمره بدأ الكتابة، ويذكر أنَّ مدرس اللغة العربية، ضبطه يكتب في أثناء شرح الدرس، فسأله: ماذا تكتب؟ فقال: رواية.
كاد المدرّس يسخر منه، لكنه عندما قرأ ما كتبه تلميذه شجعه على مواصلة الكتابة.
نشر أوَّل قصة سنة 1959، ثم تتالت قصصه المنشورة، ولم يلبث أن فاز بالمركز الأول في مسابقة الدولة، بمسرحية “أبطال بلدنا”، فكرَّمه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مهرجان شعبي، في مدينة المنصورة، حضره ما يزيد على نصف مليون مواطن.
أشاد الكاتب المسرحي الكبير توفيق الحكيم بموهبته عندما قرأ مسرحيته: “أبطال بلدنا”، وطلب له التفرغ للكتابة.
واصل الشاروني مشواره، فكتب المسرحية والحكاية والقصة القصيرة والقصة الطويلة والرواية القصيرة، وأصدر ما يزيد على أربعمئة مؤلَّف في هذه الأنواع الأدبية، إضافة إلى مؤلَّفات في ثقافة الأطفال.
ترجم عدد كبير من أعماله إلى لغات عالمية عدة، ونال جوائز مصرية وعربية وعالمية.
وهو، عندما يكتب للأطفال، يميِّز بين نوعين من الكتابة لهم: الأول الأدب، وهو ما تهيمن فيه الوظيفة الجمالية والرؤية التربوية التي ترشح من النص في فضاء المتعة الجمالية الأدبية، والثاني هو الثقافة، وهو ما يقدم معرفة متنوِّعة بلغة تلائم المراحل العمرية.
تنوَّعت فضاءات قصص الشاروني، بين الحارة المصرية وأزقتها، وشوارع المدينة وأطفالها، والعشوائيات، والصحراء، وشاطئ البحر، والمدرسة، والبيت، والتاريخ والتراث…
وهو، إذ يستدعي شخصيات أو أحداثاً من التاريخ أو من التراث، يعيد إنتاجها، فعلى سبيل المثل، قصته: “رادوبيس”، وهي “سندريلا” المصرية، فقد قدمها شخصية مختلفة، ليست كما تقدِّمها القصة المعروفة في الأدب الأوروبي، فتاة جميلة مطيعة لطيفة تجيد الطبخ والغزل، وترقى بها المصادفة إلى أن تكون زوجة صالحة لابن الملك، وإنما قدمها فتاة جميلة ذكية، تستخدم عقلها، وتسعى إلى تحقيق ذاتها بجهودها، فتصنع قدرها، فيصح أن تُسمَّى بطلة معاصرة، تختلف عن بطلات الحكايات التي تقودها المصادفات والمفاجآت إلى الانتصار.
وفي الحكايات التي كتبها للمكتبة الخضراء، حقق شرط هذه السلسلة، المتمثل بالحكاية العجائبية، وفي الوقت نفسه حقق شرط الإقناع وإنجاز الانتصار ببذل الجهد، ما مثل البطولة المعاصرة، كما في حكاية “الشاطر محظوظ”.
وهذا النوع من البطولة نلحظه في معظم أعماله، فشخصيات قصصه تسعى إلى أن تتحقق، وتواجه المشكلات بشجاعة، وتتمكن من حلِّها، من طريق استخدام العقل والتفكير، والإرادة والعزم والتصميم، فتحقق الإنجاز، وتقدم أنموذجاً للبطولة هو بطولة الإنسان العادي الذي ينتصر في مواجهة مشكلات حياته بقدراته هو، مستفيداً من كل ما يقدمه له واقعه من عوامل مساعدة.
هذه الشخصيات يأخذها الشاروني، من الحياة المعيشة، فتمثل مرجعاً واقعياً لشخصية قصصية متخيَّلة تتخذ موقعاً، تؤدي منه دوراً في بنية قصصية متخيلة، يمكن أن نسميها بنية قصص الواقعية الاجتماعية الجديدة.
هذه القصص تلتقط اللحظة المهمة من الحياة الممتدة، وتقدمها للقارئ في سياق قصصي مشوِّق، ينطق عندما يكتمل تشكله بالدلالة، وهو ما يجعل هذا النوع من القصص يصلح للصغار والكبار في آن، يمتعهم بنسيجه القصصي المتشكل من سرد مشوِّق ووصف دال وحوار متعدد ملائم للشخصية والموقف، متعدد الصوت، فيقرب مما يسميه باختين “حوارية”.
في سعيه إلى تحقيق هذا الهدف، قال في إحدى المقابلات التي أجريت معه في العام الماضي: “عمري 89 عاماً، وأنا أجلس مع الأطفال، وأتفاعل معهم، وأفكر بطريقتهم، وأستفيد منهم كثيراً، كما يستفيدون مني، من خلال الحوار التفاعلي معهم”. هل نقول: من هنا يبدأ الأدب التفاعلي الذي يشارك المتلقون في إنتاجه؟
ولما كان رائد حوار، فإنه يدعو النقاد إلى محاورة أدب الأطفال، ويرى أننا نحتاج حركة نقد حقيقية لأدب الأطفال، ويستدرك، فيسأل: ولكن أين هي المنابر التي تنشر أدب الأطفال ونقده!؟
ويبدو أن هذا العمر من الإبداع جعل وزارة الثقافة المصرية، تقرر أن تتعامل مع أدب الأطفال كما بقية أنواع الأدب، فتخصص له جوائز، منها الجائزة التقديرية التي نالها يعقوب الشاروني العام الماضي، وهي تمنح لأول مرة، بعد سبعين عاماً من بدء منح جوائز أدبية في مصر.
خلدك عطاؤك، وكان معراجك إلى الخلود، ينبغي تكريمك كما يستحق مبدعو الأمة الكبار. رحمك الله، سبحانه وتعالى، وجعلك قدوة للمبدعين، أصدقائك وزملائك وتلامذتك. وإذ يحزنني فقدك، صديقي الغالي، يعزيني أنك جعلت قراءات العديد من أجيال أبنائنا الأحبة مفيدة وممتعة، وفضاءً للفرح الذي نفتقده في كثير من مجالات حياتنا، وللمعرفة الجمالية التي نحن بأمسّ الحاجة إليها.