ها هو العالم يقف عاجزاً أمام مشاهد قطاع غزة ودماره، فشاء العام 2023 أن تكون نهايته كارثية على الشعب الفلسطيني في حرب إسرائيلية دخلت في شهرها الثالث، أمّا أفق نهايتها فمجهول حتى الآن. 75 عاماً على الصراع ومسار الحل معطّل ومتعثّر. واليوم ضحايا بالآلاف، حصار، لا دواء ولا مياه، ولا غذاء ولا كهرباء… فماذا بعد؟ منذ هجوم “حماس” على إسرائيل يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) والردّ الإسرائيلي المدمّر على قطاع غزة وسكّانه، لم تهدأ دول العالم في كشف مواقفها علناً، من داعمة لما يحصل وأخرى أدانت الأعمال العسكرية ودعت إلى وقفها. العالم كلّه مشغول بغزة والكارثة الإنسانية فيها، حيث المستشفيات لم تعد قادرة على الاستمرار، والجثث تملأ الشوارع، والشعب من دون مأوى، وغبار المباني جرّاء القصف يلبّد سماء القطاع بغيوم سوداء تقطع حتّى نور الشمس! بين مواقف دول القرار الكبرى، شكّلت الورقة الصينية بشأن تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، الصادرة عن وزارة الخارجية في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) موقفاً ثابتاً من 5 بنود: وقف إطلاق النار وإنهاء القتال على نحو شامل، حماية المدنيّين بخطوات ملموسة، ضمان الإغاثة الإنسانية، تعزيز الوساطة الدبلوماسية وإيجاد حل سياسي للقضية الفلسطينية. الولاية الثالثة…بالتزامن مع كل التطوّرات في العالم، توجّهت الأنظار إلى الولاية الثالثة للرئيس شي جينبينغ، ففيها بدأت بكين عرض وساطتها جدّياً وعلناً لإحلال السلام في مناطق الصراعات والتوتّرات، عازمة لعب دورٍ ريادي كقوّة عظمى على المسرح الدولي. الأهم في هذا النشاط الدبلوماسي كان رعايتها الاتّفاق بين السعودية وإيران في 10 آذار (مارس) الماضي بعد قطيعة دامت سنوات بين القوّتَين الكبيرتين. وأعادت الصين أيضاً، بشخص رئيسها، طرح مبادرة الأمن العالمي في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي عُقد في شباط (فبراير) الماضي، وتهدف إلى “القضاء على الأسباب الجذرية للنزاعات الدولية وتعزيز الحوار”. والأبرز أيضاً كان مقترحاً صينياً للسلام في أوكرانيا، إذ أرسلت بكين مبعوثاً خاصاً إلى موسكو وكييف وبعض الدول الأوروبية للتباحث بشأن وثيقة سلام بين طرفَي النزاع تؤدي إلى وقف الحرب.
نحو “إنجاز” جديد؟على مدى عقود، التزمت الصين بموقف موحّد تجاه حل القضية الفلسطينية وفق المقرّرات الدولية، وكانت من أوائل الدول التي اعترفت بفلسطين دولة ذات سيادة عام 1988. وفي المقابل، طبّعت بكين عام 1992 علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل وأصبحت اليوم ثالث أكبر شريك تجاري لتل أبيب.
لم تتخلَّ بكين عن دور المُفاوض ورغبتها في التوسّط لتسهيل المباحثات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هو موقف سمعه الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس من نظيره الصيني يوم زار بكين من 13 إلى 16 حزيران (يونيو) 2023، إذ قال له: “الصين وفلسطين صديقتان حميمتان وشريكان جيّدان يثقان ويدعمان بعضهما بعضاً. نحن على استعداد لتعزيز التنسيق والتعاون مع فلسطين والعمل من أجل حلّ شامل وعادل ودائم للقضية الفلسطينية”، مع تعهّدات بدعم فلسطين في محادثات السلام.
وفي 23 نيسان (أبريل) الماضي اتّصل وزير الخارجية الصيني السابق تشين غانغ بوزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي ووزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين ودعاهما لاستئناف محادثات السلام. واليوم أمام الواقع الفلسطيني المنهار والحرب الإسرائيلية المستمّرة، تكثُر التساؤلات عن الدور المُفاوض الذي تهتّم فيه بكين، مع غياب خرق دبلوماسي جدّي في مسار التسويّة بين الفلسطينيّين وإسرائيل بقيادة الولايات المتحدة، والذي توقّف منذ العام 2014. فهل ستفعلها الصين بدبلوماسيّتها وتنجح جهودها بعد فشل وتعثّر مسار الحل طيلة هذه السنوات؟ عن الدور والموقف…في هذا السياق، اعتبر الباحث المختّص بالشأن الصيني وارف قميحة أنّ “الصين كانت أوّل قوّة عالمية تصدر بياناً متوازناً محايداً وأكثر عقلانية من دون إدانة الهجمات الفلسطينية، ويحثّ الطرفين على التهدئة ويعترف بحق فلسطين في إنشاء دولة لها بجانب إسرائيل”. وأوضح، في حديث خاص لـ”النهار العربي”، أنّه “انطلاقاً من طرح الرئيس الصيني مبادرة الأمن العالمي وتأكيده الاستعداد للعمل مع كل الأطراف على تنفيذها مع التمسّك بالحوار بدلاً من المجابهة، الترافق بدلاً من التحالف، الكسب المشترك بدلاً من المحصّلة الصفرية، وبذل جهود مشتركة لبناء مجتمع الأمن المشترك، تعمل الصين بكل إمكانياتها الدبلوماسية وعلاقاتها مع كل الأطراف وتدعوهم إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات”. ورأى قميحة أنّ “أسباباً عدّة تدفع بكين إلى التحرّك أمام هذه القضية، فإضافة إلى الجانب الإنساني، هي تتعاطف مع الشعب الفلسطيني في غزة وترى أنّ أكثر ما يحتاجه هو الأمن والجهود لوقف الحرب وتعزيز السلام وليس الأسلحة أو الحسابات الجيوسياسية. وهناك المصالح الاقتصادية للصين في منطقة الشرق الأوسط التي ستتأثّر في حال اتّساع دائرة الصراع حيث تعتمد الصين حالياً بشكل كبير على واردات النفط الخارجية، إضافة إلى أهميّة بلدان الشرق الأوسط كأطراف مؤثّرة في مبادرة الحزام والطريق، والتي تشكّل حجر الزاوية في سياسة الصين الخارجية والاقتصادية”.
وتابع: “لعب دور الوسيط يشكّل حافزاً كبيراً للصين، إذ يمثّل الصراع فرصة ذهبية لبكين كي تراكم إنجازاتها الدبلوماسية على الساحة الدولية عامّة والعربية خاصّة. إلى ذلك، تقترح بكين رؤية لنظام عالمي متعدّد الأقطاب مع تزايد الإخفاقات من جانب الولايات المتحدة في قيادتها للنظام العالمي أو هيمنتها عليه”. مع استمرار الحرب في غزة، أشار قميحة إلى أن “موقف الصين الرسمي يعتبر أنّ الأولويّة القصوى هي وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن، وأنّنا أمام مفترق طرق بين الحرب والسلام ويجب على الدول بذل كل جهد ممكن لتهدئة الوضع ومنع توسّع الكوارث الإنسانية”. وعن الحل الشامل والدائم، أكّد أنّ “المفتاح لحلّ الصراع هو احترام حق فلسطين في إقامة الدولة وتقرير المصير تحت مبدأ: السيادة والقيادة والحكم للشعب الفلسطيني. وأضاف قميحة: “تعمل الصين على حث مجلس الأمن على تحرّكات مسؤولة وفعلية. ولا يجوز لأيّ حل للأزمة الحالية في غزة أن يحيد عن حل الدولتين، وأي ترتيب متعلّق بمستقبل فلسطين ينبغي أن يمثّل إرادة شعبها”. وختم: “كلّنا تابعنا كيف لم يتمكّن مجلس الأمن الدولي من اعتماد مشروع بالوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية بسبب استخدام الولايات المتحدة حق النقض، وبالتالي سوف تقف واشنطن بوجه أيّ تسوية أو حلّ للقضية الفلسطينية، ولن تسمح أقلّه في المستقبل القريب للصين بتحقيق أي إنجاز من خلال دور ما في التسوية والوصول إلى حلّ للصراع”.
من الواضح أن دخول الصين لن يكون أمراً سهلاً على الساحة الفلسطينية لعوامل عدّة، أهمّها أن إسرائيل تتمسّك بالولايات المتحدة وسيطاً رئيسياً في مفاوضات السلام لموقفها الداعم والمستمر لها على الرغم من العلاقة مع التنين الصيني. ويعتبر الإسرائيليون أن بكين تمثّل وسيطاً غير نزيه ومنحازاً لموقفها المُعلن من القضية الفلسطينية من جهة، وعلاقتها الاستراتيجية مع إيران، العدو اللّدود لإسرائيل، من جهة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر إسرائيل أن قبولها بالوساطة الصينية سيضرّ بعلاقتها مع واشنطن، خاصّة أنّ بكين هي المنافس الاستراتيجي لها.