في السنوات القليلة الماضية، ظهرت على الانترنت قنوات وصفحات، يتابعها عشرات الآلاف من المصريين، يعلن أصحابها أنهم لادينيون أو ملحدون، صراحة أو ضمناً، بعضهم يكشف عن هويته الحقيقية، ويظهر بوجهه واسمه، والبعض الآخر يستخدم أسماء مستعارة، ويخفي صورته.
هذا الحالة التي لم يُشهد مثلها على مر العقود الماضية، فسّرها البعض على أنها عودة للانفتاح الفكري والثقافي الذي شهدته مصر في أعقاب ثورة 1919، بل ربما تجاوزتها بمراحل، وإن كان ثمة وجهات نظر ترى أن المجال السياسي في الوقت الراهن، لم يحظ بالقدر نفسه من الانفتاح والتنافس الحزبي القوي الذي اتسمت به تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر الحديث.
وتشير آراء متخصصين في علوم الاجتماع إلى أن حرية الاعتقاد ليست رفاهية، فهي تؤدي دوراً حيوياً في تقدم المجتمعات الإنسانية، وأن المجتمعات التي تتمتع بحرية الاعتقاد تنعم بمستويات أعلى من التنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والاستقرار السياسي، ويشعر أفرادها بالانتماء والقبول.
المثال الذي يستخدم كثيراً من كتّاب ومثقفين مصريين للتدليل على مدى الانفتاح الفكري في عهد ثورة 1919، هو رسالة نشرها كاتب وأستاذ جامعي متخصص في العلوم والرياضيات، اسمه إسماعيل أدهم، وكان عنوانها “لماذا أنا ملحد؟”، وقد نشرت في مجلة “الإمام” عام 1937.
و”الإمام” مجلة يقال إن محرريها وناشريها لهم توجه يميل للتدين، ومع هذا قبلوا بنشر مقال يدافع صاحبه عن الإلحاد. وقد أثارت رسالة أدهم ردود فعل واسعة، بعضها غاضب، لكن في النهاية كان رد الفعل هو بنشر عدد من الكتّاب مقالات تنتقد وتفند ما جاء في الرسالة.
بعد ثورة 23 تموز (يوليو) 1952، بدأت حرية الفكر والاعتقاد تتراجع، حتى ضُيّق عليها الخناق بشكل ملحوظ بداية سبعينات القرن الماضي وربما حتى تسعيناته، وحدث هذا مع انتعاش مشروع “الصحوة الإسلامية”، الذي تبنته وروجت له جماعات الإسلام السياسي بأطيافها المختلفة.
في تلك الفترة الملتهبة، والتي شهدت العديد من الفتن وعمليات التحريض، حدثت اتهامات بالكفر والردة عن الإسلام ضد بعض الكتاب والمفكرين، تبتعها عمليات ومحاولات اغتيال قام بها متشددون دينيون، وربما أشهرها، اغتيال الكاتب والمفكر الدكتور فرج فودة عام 1992، ومحاولة اغتيال الأديب العالمي نجيب محفوظ عام 1994.
سابقة فريدة
برأي أستاذ التاريخ الحديث الدكتور شريف يونس، لا يمكن القول بأنه كانت هناك حرية اعتقاد ونقد للدين بصفة مطلقة في مصر، لكنها بالطبع تزيد وتنقص، أو غير متساوية عبر العقود والعصور.
ويقول لـ”النهار العربي”: “الأمر الوحيد الذي يمكن اعتباره سابقة لم يحدث مثلها من قبل، وتستحق الانتباه، هو تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في أكثر من مناسبة، عن احترامه لمن يؤمن ومن لا يؤمن، وأن حرية العقيدة كفلها الله للناس، ولا يجب أن يقيدها البشر. هذا لم يسبق أن قاله أحد حتى في الفترة التي يعتبرها البعض “ذهبية” لحرية الفكر والاعتقاد في مصر”
ويشير يونس إلى أن “الأشخاص الذين يظهرون عبر الإنترنت، بصورهم وأسمائهم الحقيقية، وينتقدون الأديان التي يمكن أن نسميها الأديان التوحيدية أو الإبراهيمية – وليس الإسلام فحسب – بل إن بعضهم ينتقد فكرة الإلوهية، والاعتقاد بالغيبيات عموماً، أغلبهم يعيشون خارج مصر، في دول مثل أميركا، وكندا، وفرنسا، وغيرها من البلدان التي بها حرية اعتقاد، وسماح بانتقاد الدين، ولا تعتبر ذلك جريمة”.
ويضيف: “لكن أيضاً يوجد عدد من الملحدين المصريين والعرب، في داخل بلدانهم، تتم استضافتهم، أو يظهرون بأسماء مستعارة ودون صورة. هناك بعض الأشخاص تم التحقيق معهم بسبب نقدهم للدين بشكل صريح، لكن منهم من عاد وواصل الظهور، بحدة أقل في النقد”.
يتفق العديد من المراقبين والمهتمين على أن عهد الرئيس السيسي – الذي فاز بفترة رئاسية جديدة، في الانتخابات الرئاسية للعام 2024 – شهد انفتاحاً ملحوظاً في مجال حرية الاعتقاد، ومناقشة الأفكار الدينية بحرية أكبر من ذي قبل، إلا أن ثمة قيوداً صارمة ضد أي إساءة للأديان، ويعد قانون “ازدراء الأديان” إحدى الأدوات المثيرة للجدل.
وفي سياق متصل، تبذل المؤسسات الدينية جهوداً حثيثة للتصدي لانتشار الإلحاد بين الشباب المصري، ويتبنى الأزهر على سبيل المثال برنامجاً تحت اسم “بيان” لمواجهة الإلحاد، كما يعد ندوات ولقاءات ولديه خط للتواصل مع أولياء الأمور الذين يلاحظون اتجاه أبنائهم لهذا المسار.
وتزايد الاتجاه للادينية والإلحاد في أعقاب صعود تيارات الإسلام السياسي، وتولي جماعة “الإخوان المسلمين” وحلفائها السلفيين مقاليد السلطة في 2012 في أعقاب ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، إذ شكل سلوك عناصرهم صدمة لقطاعات واسعة من المصريين، الذين كانوا ينظرون لتلك الجماعات على أنها “بتاعت ربنا” وفقاً للتعبير المصري.
إضافة إلى هذا، لعب ظهور تنظيم “داعش” وجماعات العنف الديني في 2014، دوراً محورياً في زيادة أعداد الملحدين في مصر، خصوصاً من الشباب حديثي العمر الذين لا يميزون بين من يعتبرهم دعاة ورجال دين، والدين في ذاته. لذا، ربما يشكل تصدي المؤسسات الدينية للتطرف الديني، جزءاً مهماً من مواجهة انتشار الإلحاد، حسب رأي متخصصين في الإسلام السياسي.
عصر الكوزموبوليتانية
يقول الكاتب الصحافي والمترجم محمد حرفوش: “في الفترة شبه الليبرالية التي أفضل تسميتها الكوزموبوليتانية، كانت حرية الاعتقاد والتفكير والكتابة في المعتقدات حقاً يكفله الدستور، وكان هذا جلياً حين أصرت لجنة الثلاثين، التي وضعت دستور 1923 أن تكتب حرية الاعتقاد، وليس حرية العقيدة أو الأديان، لتوسع باب الحرية أكثر”
ويضيف حرفوش: “كان لهذه الحرية في الاعتقاد مقابلٌ في النقد السياسي، وأيضاً في الحريات الفردية، وكان ثمة تناغم ما بين الحريات، هذا لا يعني أن الصورة كانت وردية، لكن النخب الأصلية التي بشرت وتقدمت برؤية ثورة 1919، كان لديها في خيالها بشكل واضح ثوابت مثل فصل الدين عن الدولة وفصل السلطات وغيرها”.
يلفت الكاتب الصحافي إلى أن “الوضع السياسي الذي لم يكن يملك فيه أي طرف (الانكليز، الملك، الأحزاب، وعلى رأسها “الوفد”)، سلطة مطلقة، تعددياً بطبعه، لا بد فيه من التعايش مع الخصم وفق قواعد إلى حد ما مرعية لتفادي المعادلة الصفرية”.
ويرى حرفوش أنه “بعد تموز (يوليو 1952)، كان ثمة قطيعة تامة لهذا التصور، قامت يوليو على رفض الكوزموبوليتانية كتصور، وقمعت الحريات، واحتكرت الوطنية والسلطة، وأصبحت سلطة أبوية بطريركية، وفي كل ضغط عليها تفتح الباب قليلاً لحرية في مجال بعينه، لكنّ لديها دوماً ساعداً حديدياً يغلق هذا الباب متى أرادت، ودأبت على إسعاد فئة على حساب الأخرى”.
ويعتقد المترجم المصري أن “من يقول إن ثمة حرية في مجال الاعتقاد الآن، وأن هذا شبيه بحرية ما قبل يوليو، ينسى أمرين، أولهما أن لهذا سابقة في ستينات جمال عبد الناصر: أحد الكتاب قال إن من يطالع صحف هذه الفترة يندهش من كم النقد السياسي، لكنه يستدرك قائلاً إن كل ما في الأمر أنه ما دام هذا لا يتخطى حدود القول، فهو مباح. أي يظل الكاتب محكوماً بلجام السلطة في النهاية، إذا أرخت العنان كتب، وإذا شدته ارتدع”
الأمر الثاني، الذي يرى حرفوش أنه “منسي” هو “عصر الإنترنت، وكم الأفكار الهائل الذي يتعرض له كل حامل هاتف ذكي، فهذا لا بد أن يوسع سوق الأفكار، وما دام أن الأمر لا يتعدى القول، لن يلقي النظام الحاكم بالاً بمن يكتبون في المعتقدات والمذاهب، إلا إذا شكل هذا حركة وفعلاً، حينها ستطال اليد الحديدية أكبر وأصغر كاتب في المعتقدات”.
فارق جوهري
يلفت الدكتور شريف يونس إلى أن “ثمة فارقاً يجب أن نلاحظه في مسألة نقد الدين، وأسباب الإلحاد في الماضي، والحاضر. في الماضي كان الإلحاد يأتي في سياق إيديولوجية أو فكرة أوسع. مثلاً: أن يكون شخص ما شيوعياً، وفي سياق هذا الإيديولوجية الواسعة يصبح ملحداً، لأن الفكر الذي يتبعه يقود لهذا، لذا لم يكن الدين في ذاته موضوعاً للنقد”.
أما الآن فالمسألة مختلفة تماماً، حسب رأي أستاذ التاريخ الحديث، الذي يقول: “بعد ما يسمى مشروع “الصحوة الإسلامية”، تدخل الدين في كل شيء: كيف تشرب، وكيف تأكل، وماذا تفعل في غرفة نومك… الخ”.
ويضيف: “كثير من الملحدين المشهورين الآن، هم من أبناء هذه “الصحوة”، كانوا سلفيين متشددين دينياً، ومتعمقين في الدين الإسلامي، لذا فإن نقدهم يأتي وهم على علم بالتراث الديني، ويشعرون بغصة في الحلق، لأن سنوات من حياتهم مرت وهم خاضعون للتشدد الديني”.
صورة متداولة لـ”هشام المصري” أحد أشهر الذين تحولوا من التشدد الديني إلى الإلحاد. (“فايسبوك”)
“أما ملحدو الماضي، فلم يكونوا متعمقين في الدين أساساً، وكان التدين في المجتمع بسيطاً” يقول المؤرخ المصري، ويضيف: “كان الدين في الماضي يتعلق بالطقوس والتعبد، ولا يتدخل في كل شيء. كما كان ملحدو الماضي ينظرون إلى الدين على أنه يأخذ الناس إلى عالم الغيبيات، فيما ينشدون هم العلم والتجربة التي قادت الغرب للنهضة”.
هذا الفرق بين الإلحاد واللادينية في الماضي والحاضر، مهم لفهم طبيعة النقد ودوافعه، حسب رأي يونس: “النقد في الماضي كان من الخارج، أما الآن فهو من الداخل، لذا فهو مزعج في كثير من الأحيان، وبطبيعة تكوين المجتمع، يصعب التسامح معه حالياً، لذا أنا أرى أنه لا في الماضي أو الحاضر كان ثمة حرية اعتقاد وفكر حقيقية في مصر”.