اعتاد التونسيون على استهلاك زيت الزيتون بكميات معتبرة، وهم الذين قدم لهم العالم القرطاجي ماغون أو ماجون باكراً، وفي عصور ما قبل الميلاد، قواعد غرس أشجار الزيتون وإنتاج ثمارها وطرق عصرها وكيفية حفظ زيتها في مدونته الشهيرة التي حملت مسمى “مدونة ماجون” التي اقتبسها الرومان وبقيت مرجعاً في علوم الفلاحة إلى العصر العربي في الأندلس. وتتنافس تونس اليوم مع كل من إسبانيا وإيطاليا على المراتب الثلاث الأولى عالمياً في إنتاج زيت الزيتون وتصديره بفضل الغابات الكثيفة لشجر الزيتون المنتشرة في كل أرجاء البلاد. لكن هذا الإنتاج الوفير في السنوات الماضية والذي انخفض هذا العام، قابله ارتفاع في الأسعار لا يتناسب والقدرة الشرائية للمواطن التونسي التي تدهورت كثيراً في السنوات الأخيرة ليصل سعر الليتر إلى 25 ديناراً وأحياناً أكثر. ولعل السبب في هذا الارتفاع هو غلاء الأسعار في الأسواق العالمية بسبب تراجع إنتاج كل من إيطاليا وإسبانيا، وهو ما جعل المنتجين التونسيين يحبذون تصدير منتوجهم إلى الخارج أو في الداخل بسعر الأسواق العالمية. استهلاك عائليوفي هذا الإطار يؤكد الخبير الاقتصادي التونسي عماد بالرابح لـ”النهار العربي” أنه بات مستحيلاً على مواطن عادي من الطبقة الوسطى أن يشتري حاجته السنوية من زيت الزيتون أو حتى نصفها، في ظل هذه الأوضاع الاستثنائية التي يشهدها القطاع الذي باتت بمقتضاه تونس مدعوة إلى سد النقص في الأسواق العالمية في ظل تراجع إنتاج منافسيها. وحتى بالنسبة إلى الزيت المنتج في بعض دول المنطقة ويباع بسعر زهيد، فإن المستهلك التونسي لا يقبل عليه، بحسب الخبير التونسي، ويراه أقل جودة من الزيت المحلي، ويرى أيضاً أن خبرة الفلاحين التونسيين وأصحاب المعاصر التونسية لا تُقارن بنظرائهم في بعض البلدان الأخرى باعتبارها مراكمة لتجارب قرون من الزمن. ويضيف بالرابح: “أمام هذا الوضع الاستثنائي، وأمام حاجة التونسيين الملحة إلى زيت الزيتون الذي يمثل استهلاكه عادة غذائية متوارثة عبر الأجيال، تدخلت الدولة من خلال الديوان الوطني للزيت ووفرت من خلال ما تمتلكه من غابات زيتون وعلى رأسها “هنشير الشعال” في ولاية صفاقس جنوب البلاد، كميات من زيت الزيتون المعلب المخصص للاستهلاك العائلي وبسعر مقبول 15 ديناراً لليتر الواحد (نحو 4 دولارت). لكن الإشكال يكمن في أن أغلب التونسيين لم يتمكنوا من الحصول على هذا الزيت في الفضاءات التجارية الكبرى بسبب اللهفة والإقبال الكثيف عليه، وتداولت مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لمطاعم وهي تستغل هذا الزيت المخصص للاستهلاك المنزلي”.
تخفيض الأسعارويؤكد سفيان النالوتي، وهو موظف تونسي من العاصمة، أنه إلى اليوم لم يتحصل على زيت زيتون الدولة، فكلما غادر مقر عمله إلى أحد المراكز التجارية الكبرى أبلغ أن الكمية التي وصلت صباحاً نفدت وعليه أن يعود غداً. ويقول إن الخيار الوحيد أمامه هو ترك عمله صباحاً والوقوف في الطابور الطويل للحصول على حقه في زيت الزيتون المدعوم من الدولة. ويضيف أن ما “قامت به الدولة جهد يذكر فيشكر باعتبارها فكرت في المواطن البسيط وذكرتنا بدولة الاستقلال التي كانت دولة اجتماعية بالأساس، دعمت الفئات المعوزة وخلقت طبقة وسطى كانت هي عماد الاقتصاد التونسي في الماضي. ولو لم تقم الدولة بهذه الخطوة لكان الحصول على زيت الزيتون التونسي البكر الممتاز حلماً صعب المنال والتحقق، ولاضطررنا لشراء كميات من الزيت من بعض الدول بجودة أقل”. إن ما قام به ديوان الزيت التونسي سيجعل المنتجين الخواص يخفضون الأسعار في الداخل ويدركون أن القدرة الشرائية للمواطن التونسي ليست نفسها القدرة الشرائية التي للمواطنين الغربيين الذين يستهدف أسواقهم المنتج التونسي. “ولا يعقل بأي حال من الأحوال أن يُسعر زيت الزيتون في الداخل بالأسعار نفسها التي يباع بها للخارج، باعتبار أن لكل سوق مقدرته ودخل المواطن التونسي ليس هو دخل المواطن الأوروبي والأميركي”، يكمل النالوتي. نوعية جيدةأما منى العيادي، وهي مواطنة من مدينة صفاقس تعمل في قطاع التعليم، فتؤكد لـ”النهار العربي” أنها حصلت على زيت الزيتون المدعم وتذوقته، وهو برأيها لذيذ ومن النوعية الجيدة تماماً كالتي يتم تصديرها إلى الخارج. وبالتالي “فقد أوفت الدولة بوعودها ووفرت لشعبها زيت زيتون جيداً وبسعر مقبول مقارنة بالأسعار التي يبيع بها القطاع الخاص والتي تشبه الأسعار في البلدان التي تصدر إليها تونس”. وتضيف: “يرى البعض أن الدولة فكرت فقط في الطبقة الوسطى ولم تهتم بالفقراء الذين لا يستطيعون شراء زيت الزيتون حتى بالسعر الذي تبيع به الدولة وهو 15 ديناراً لليتر الواحد. وبالتالي يرى هؤلاء أنه كان على الدولة أن تخصص كميات لتوزيعها على الفئات المعوزة حتى يشعر الجميع بوجود الدولة، بخاصة أن الأمر يتعلق بمنتوج تاريخي مهم في العادات الغذائية للتونسيين”. لكن في المقابل ثمة من يرى أن عصر الدولة التي تحشر أنفها في قطاع زيت الزيتون قد ولى وانتهى، وما كان عليها أن تتدخل من الأساس في الأسعار في عصر اقتصاد السوق حيث الأسعار حرة وتخضع للمنافسة ولقواعد السوق. ويرى هؤلاء أن الدولة أضرت بأهل القطاع وستضطرهم إلى تخفيض الأرباح وهم الذي أنفقوا الكثير لإيصال هذا المنتوج إلى المستهلك، كما أنها فتحت الباب على مصراعيه للمزايدة عليها بأنها فكرت في شريحة ولم تفكر في أخرى، وبالتالي فهي الآن محل انتقاد من أهل القطاع من جهة وذوي الدخل المحدود من جهة أخرى.