دخلت المساومات بين الأحزاب التركية مرحلة حسّاسة مع بدء العدّ التنازلي للانتخابات البلدية، في ظل تفاوت الأهداف والتكتيكات الانتخابية للتكتّلات والأحزاب السياسية وتضاربها في الكثير من الأحيان بين حلفاء الأمس ومتنافسي اليوم. ومع تصاعد وتيرة الاستقطاب السياسي الحاد في المجتمع التركي، نجح حزب “المساواة والديموقراطية للشعوب” الموالي للأكراد في البلاد، في لفت الأنظار والتمركز في قلب التفاهمات الانتخابية المرجوة من كل من حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، والمعارضة الأم حزب “الشعب الجمهوري”.“اتّباع تقاليدنا سينعكس علينا إيجاباً”حزب “المساواة والديموقراطية للشعوب”، أو كما بات يعرف باختصار “ديم” في تركيا، هو استمرار لحزب “الشعوب الديموقراطي” الذي اضطر إلى خوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة في أيار (مايو) الماضي تحت اسم حزب “اليسار الأخضر” خوفاً من حرمانه المشاركة في الانتخابات بقرار قضائي، على خلفية الدعاوى السياسية المرفوعة ضده في المحاكم التركية. لكن الإسم الجديد للحزب، وبعض شعاراته وأهدافه المتّسقة مع أقصى اليسار، لم تلق قبولاً لدى فئات واسعة من الكتلة اليمينية المحافظة الداعمة للحزب تاريخياً في عدد من الولايات الشرقية ذات الغالبية الكردية في البلاد، حاصلاً على 57 مقعداً (من أصل 600). وعلى الرغم من حلوله في المرتبة الثالثة في عدد المقاعد البرلمانية، بعد حزب “العدالة والتنمية” المتصدّر، و”الشعب الجمهوري” المعارض، إلا أن نتائج الانتخابات جاءت دون المتوقّع والمنتظر وفق استطلاعات الرأي، ما دفع الحزب إلى إجراء عملية تقييم وهيكلة شاملة انتهت بتغييرات جذرية لا يمكن حصرها في اسم الحزب وشعاره ومسؤولي الصف الأول فقط. ويشرح الرئيس المشارك للحزب (إلى جانب الرئيسة تولاي حاتم أوغولاري أوروج)، تونجير باكيرهان، في حديث شامل مع “النهار العربي” إطلاق الحزب “عملية إعادة هيكلة مباشرة بعد الانتخابات والانتقال من قرية إلى قرية ومن حي إلى حي وعقد اجتماعات مع مناصريه في عملية نقد ذاتي تطورت من المستوى المحلي إلى المستوى المركزي”.ويقول: “حضر الاجتماعات التي عقدناها عشرات الآلاف من مناصرينا. قبلنا الانتقادات واستمعنا إلى ما يجب القيام به واعتمدناها في مؤتمرنا العام كقرارات حزبية، وهو المؤتمر الذي حدد الخط السياسي لحزبنا للفترة الجديدة”.
ووفق باكيرهان الذي قضى حكماً في السجن لمدة 3 سنوات تقريباً بتهمة الانتماء إلى جماعة إرهابية، فإن الحزب “مرّ بعملية إعادة هيكلة قوية لم يسبق أن شهدها أي حزب سياسي في التاريخ. ومباشرة بعد انعقاد المؤتمر (العام)، بدأنا نرى الآثار الإيجابية لعملية إعادة الهيكلة هذه. ومن خلال عملنا المستقبلي، سنرى ونظهر للجمهور أن اتّباع تقاليدنا سينعكس علينا انعكاساً أكثر إيجابية”.
العودة إلى الجذورتنطلق الأحزاب الموالية للكرد في تركيا من أيديولوجيا قائمة على فكرة الشعوب القاطنة في الجغرافيا التركية والتي تتمتّع بحقوق متساوية على أساس المواطنة، مناهضة بذلك التيار القومي السائد في تركيا، والذي عمل على مدى عقود على تكريس مفاهيم “تركيا للأتراك” و”سعيد من قال أنا تركي” و”لا صديق للتركي إلا التركي” وغيرها.لذا حرصت الأحزاب الموالية للكرد على وجود كلمة “الشعوب” في تسميات أحزابها التي تبدّلت تبدلاً مطرداً خلال العقود الأخيرة، بفعل قرارات الإغلاق والاعتقال السياسي. لكن حزب “اليسار الأخضر” شكّل استثناءً في هذا المسار، بتسميته المغالية في إظهار خلفيته اليسارية وفق العديد من منتقديه وتركيزه على قضايا ثانوية بالنسبة إلى المجتمع التركي، كحقوق المثليين والبيئة والتمثيل المبالغ فيه للأقلّيات بين صفوفه، على حساب الخط الأساسي والأيديولوجي التقليدي للحزب، ما أدّى إلى استنزاف أصوات انتخابية في عدد من الولايات الشرقية التي تعتبر أحد أهم خزّانات الحزب البشرية والعقائدية. ورداً على سؤال “النهار العربي”، يشرح باكيرها أن “حزب اليسار الأخضر صمّم كحزب انتخابي حتى لا يترك الناس من دون خيار في مؤامرة إغلاق حزب الشعوب الديموقراطي بالشراكة بين الدولة والسلطة، التي لا تستطيع مجاراتنا بالأساليب السياسية، فتتوجّه إلى عرقلة حزبنا من خلال تفعيل القضاء”، مضيفاً: “لا أعتقد أن هناك حزباً آخر في العالم تم اعتقال رؤسائه وأعضائه مثل حزبنا. عندما يتعلق الأمر بحزبنا ونضالنا، فإن السلطة والبيروقراطية تلتقيان على الخط نفسه. نقاوم هذه الهجمات من خلال التحركات التكتيكية والتحشّد التنظيمي”. وحول مفهوم “الشعوب” يؤكد باكيرهان أن “موقفنا الأيديولوجي، حيثما توجد شريحة اجتماعية مضطهدة أو مستبعدة أو مطلومة، فإن الوقوف إلى جانبها هو مسألة مبدأ وفضيلة. وفي هذا الصدد، نعتمد على منهج المجتمع الديموقراطي. نلتقي ونتواصل مع كل شرائح المجتمع لبناء المستقبل الديموقراطي. ونهدف إلى تحقيق هدفنا المتمثل في إنشاء جبهة تيار ثالث قوية من خلال زيادة هذه الاتصالات”.
تكتيكات انتخابية بحسب المناطقمع اقتراب موعد الانتخابات، طرق كل من الحزب الحاكم والمعارضة الأم أبواب الحزب الموالي للكرد في محاولة لضمان أصواته الانتخابية، خصوصاً في البلديات الكبرى، حيث يشكّل الكرد والمتماهون معهم من الأقلّيات الأخرى قوّة انتخابية مؤثّرة في انتخابات قد تحسم بفارق آلاف الأصوات فقط، نظراً إلى المنافسة الحادة من جهة وشكل وطريقة التحالفات الانتخابية، من جهة أخرى. بالأمس، أعلن حزب “المساواة والديموقراطية للشعوب”، عقب اجتماع لكتلته البرلمانية دام لأكثر من 8 ساعات، عن استعداده لعقد اتّفاقات انتخابية، خصوصاً في غرب البلاد “والتباحث مع جميع المكوّنات والشرائح والمؤسسات والأوساط الثقافية من أجل خلق أرضية للتوافق الحضري يبنى عليها النضال المشترك”. وكشف الحزب عن أولى المناطق في غرب البلاد التي سينافس فيها في الانتخابات البلدية عبر مرشّحين مستقلّين، وقد ضمّت اللائحة بلديات في مدن أضنة، وأنطاليا، ومرسين، وإسطنبول، وكونيا، وإزمير، ومانيسا، وتشاناكالي، وتكيرداغ، من دون الاقتراب من البلديات الكبرى في هذه المدن، والتي يتوقّع أن تشهد منافسة قوّية كما الحال بالنسبة إلى مرسين واسطنبول، والتي حسمتها المعارضة في الانتخابات الماضية بفضل الأصوات الكردية. ورداً على سؤال “النهار العربي” حول استراتيجية التحالفات الانتخابية، يؤكّد باكيرهان عزم حزبه على “خوض الانتخابات في كردستان مستقلاً. سوف ننافس بمرشّحينا في كل مكان ونحقق نجاحاً كبيراً، بخاصة في بلدياتنا التي سلبت من خلال تعيين الأوصياء. نحن ندرك ألعاب السلطة والدولة التي تريد خلق انقسامات في جغرافية كردستان وثقافتها السياسية. سوف نضمن تمثيل شعبنا في الإدارات المحلية أينما كان. ومن خلال استراتيجية الإجماع الحضري الخاصة بنا، سنقيم تحالفات اجتماعية في الإدارات المحلية ونوصل المضطهدين والعمال والمهتمين بأماكن عيشهم إلى الإدارة”. وعيّنت الحكومة التركية أمناء في 48 بلدية فاز بها حزب “الشعوب الديموقراطي” في الانتخابات الأخيرة، بينها 3 بلديات كبرى، و5 بلديات إقليمية، و33 بلدية مناطق، و7 بلديات مدن، بقرار من وزارة الداخلية. كما تم أيضاً حل مجالس البلديات التي تم تعيين أمناء لها، وإنهاء عضوية ما مجموعه 1139 عضواً في المجالس البلدية، 807 منهم من حزب “الشعوب الديموقراطي”.قرارات وزارة الداخلية التركية تشير إلى تجاهل الإرادة الانتخابية لنحو 4 ملايين و356 ألف ناخب، أكثريّتهم الساحقة في الولايات ذات الغالبية الكردية شرق البلاد. في ظل الأرقام المذكورة، تتزايد المخاوف لدى السياسيين الكرد من تكرار السلطة سياسات تعيين الأوصياء، وهم رؤساء منتدبون من الحكومة ليحلّوا محل رؤساء البلديات المنتخبين، وذلك في حال رفض حزب “المساواة والديموقراطية للشعوب” التحالف مع السلطة في البلديات المترنّحة. في الحقيقة فإن رغبة “العدالة والتنمية” لا تقتصر على التحالف فقط، بل يكفيها ترشيح الحزب الموالي للكرد مرشّحين له في البلدات الكبرى، ما يضمن عدم حصول مرشحي المعارضة على أصواتهم التي تقدر نسبتها بنحو 10% في مناطق حسّاسة مثل اسطنبول مثلاً. لكن باكيرهان يخفف من هذه المخاوف قائلاً: “تقاليدنا السياسية تظهر حقيقة شعب يقاوم كل أنواع الهجمات، من الموت إلى الاعتقال. ولهذا السبب، نضالنا يتجاوز الانتخابات. الهجمات ضد حزبنا لا تتعلق بموقفنا من الانتخابات، بل بسبب نضالنا السياسي. سنواصل السير على الطريق الذي نؤمن بصوابيّته والمتوافق مع إرادة شعبنا. لا يمكن للتهديدات أن تردعنا عن السير في طريقنا”.
العلاقات مع الجهات العربية دون المستوى المأمولإلى جانب تعيين أمناء بدلاً من رؤساء البلديات وأعضاء المجالس المحليّة من منتسبي حزب “المساواة والديموقراطية للشعوب”، فقد تعرّض معظم أعضاء اللجنة المركزية لحزب الشعوب الديموقراطي ورؤساء المحافظات والمناطق ومعظم قادته السابقين للاعتقال. حيث تم، منذ تموز (يوليو) 2015، توقيف 15 ألف شخص من الحزب، اعتقل منهم 6 آلاف، بينهم 89 رئيساً مشاركاً للولايات و193 رئيساً مشاركاً للمدن، و9 نوّاب، بينهم الرئيس المشارك الأسبق للحزب صلاح الدين دميرتاش، الذي تواصل السلطات التركية اعتقاله على الرغم من قرار المحكمة الدستورية العليا ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية بضرورة إطلاق سراحه، وهو الذي حصل على نحو 4.3 ملايين صوت في الانتخابات الرئاسية لعام 2018، التي خاضها وهو قيد الاعتقال. إلى جانب دميرتاش، يستمر اعتقال الرئيسة السابقة المشتركة للحزب، النائبة فيغان يوكسيكداغ، المحكومة بتهمة تأسيس جماعة إرهابية، بعدما تم إسقاط الحصانة النيابية عنها منذ عام 2017. يصف باكيرهان استمرار سجن دميرتاش من قبل السلطة القضائية الخاضعة لقيادة الحكومة “احتجازاً كرهينة”، مؤكدّاً أن الحزب “سيواصل النضال عبر جميع المنابر المحلية والدولية في ما يتعلق بوضع دميرتاش وجميع السجناء السياسيين”، منتقداً في الوقت ذاته موقف الدول الأوروبية، التي “أصبحت رهينة لحكومة حزب العدالة والتنمية من خلال ملف اللاجئين، وبالتالي تفضّل تجاهل التجاوزات والوضع غير القانوني في تركيا”. وحول علاقة “المساواة والديموقراطية للشعوب” بالجهات والأحزاب والحكومات الخارجية، يشرح باكيرهان أن الحزب “يحافظ قدر الإمكان على اتصالاته مع جميع الأحزاب والقادة السياسيين والمؤسسات الكردية التي ناضلت من أجل المستقبل الحر والديموقراطي للشعب الكردي ضد إنكار الكرد في الشرق الأوسط في القرن الماضي. وعلى الرغم من وجود اختلافات في البرنامج والنظام الأساسي والسياسة لكل حزب سياسي كردي، إلا أننا نعتبرهم جميعاً ممثلين شرعيين للشعب الكردي”. ويضيف قائلاً: “نتواصل دائماً مع العديد من الأطراف التي تمارس النشاط السياسي في حكومة إقليم كردستان. تستمر هذه الاتصالات من خلال مقرنا الرئيسي ومكتبنا التمثيلي في أربيل. حضر العديد من الأحزاب والشخصيات السياسية من حكومة إقليم كردستان مؤتمرنا الأخير أو أرسلوا رسائل مكتوبة”. ويشير باكيرهان إلى أنّ “علاقات الحزب مع الأحزاب السياسية العربية لم تصل إلى المستوى المنشود، ومع ذلك، فقد اتخذ حزبنا خطوات مهمة في السنوات الثلاث الماضية لتحسين علاقاته مع الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي. ومع إنشاء مكتب الشرق الأوسط للجنة العلاقات الخارجية لحزبنا، قام بسلسلة من الزيارات للعديد من البلدان مثل ليبيا وتونس والمغرب والجزائر والعراق ولبنان والأردن، آخذاً بعين الاعتبار التطورات التي يشهدها العالم، والتي تؤثر مباشرة على منطقة الشرق الأوسط”. ويقول باكيرهان: “التقينا خلال هذه الزيارات بممثلي الشعب العربي وقادة الرأي والنقابات، ويمكننا القول إن هذه العلاقات التي أقمناها أصبحت دائمة في السنوات الثلاث الماضية. وبطبيعة الحال، هذا الإطار لا يزال دون المستوى الذي نريده. أولويتنا هي تقديم مساهمة تاريخية في العلاقات الكردية العربية من خلال الالتقاء في أطر أوسع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع العمل الأكثر فعالية لمكتب الشرق الأوسط، وإيصال فكرتنا عن الحياة المشتركة لجميع الشعوب والنضال من أجل الديموقراطية”.