على مدار سنوات طويلة، امتدت من مطلع ستينات القرن الماضي، إلى يومنا هذا، وحلم توطين صناعة السيارات يراود المصريين، هذا الحلم المنشود بات حديث الساعة في مصر أخيراً، بعد موافقة البرلمان المصري على القانون الرقم 162 لسنة 2022 بإنشاء المجلس الأعلى لصناعة السيارات، وصندوق تمويل صناعة السيارات صديقة البيئة، ثم تصديق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على القانون، يوم الجمعة الفائت.
وبموجب القانون الجديد، يتشكل المجلس الأعلى للسيارات برئاسة رئيس مجلس الوزراء، وعضوية وزير الصناعة (نائباً لرئيس مجلس الوزراء)، والوزراء المعنيين بالتخطيط والنقل والمالية ووزير الدولة للإنتاج الحربي، وأربعة من ذوي الخبرة، يرشحهم وزير الصناعة لمدة أربع سنوات، قابلة للتجديد لمرة واحدة.
كما ينص القانون على إنشاء صندوق تمويل صناعة السيارات صديقة البيئة، وهي المركبات التي لا تنتج منها انبعاثات أو آثار سلبية على البيئة. ويهدف الصندوق إلى تنمية الموارد اللازمة لتمويل صناعة السيارات صديقة البيئة.
تاريخ الصّناعة في مصر
تأتي الخطوة الحكومية الأخيرة، استكمالاً لرحلة طويلة قطعتها القاهرة في هذا المضمار، إذ بدأت الشرارة الأولى في عام 1960، عندما احتفت الصحافة المصرية بتصنيع أول سيارة مصرية، عُرفت باسم “رمسيس”، وهي السيارة التي لم تتخطَ نسبة المكوّن المحلي فيها حاجز 30 في المئة، والسيارة ذاتها عبارة عن نسخة من السيارة الألمانية “برينز 1”.
السيارة رمسيس
لم تستطع السيارة رمسيس الاستمرار في المنافسة، فسرعان ما أنتجت شركة النصر سيارة ركوب جديدة، بالتعاون مع شركة فيات الإيطالية، فعمدت إلى تجميع عدد من طرز سيارات “فيات” في مصر، مع وضع علامة “نصر” عليها، وكان أول إنتاجها طرازي “فيات” 1100 و1300 عام 1962 تحت اسم نصر 1100 ونصر 1300.
استمر التعاون بين شركة النصر و”فيات” نحو نصف قرن، حتى تراجعت مستويات الإنتاج لدى شركة النصر في التسعينات، وبحلول عام 2009 كانت الشركة المصرية قد صُفّيت، لينتهي أهم معلم لصناعة السيارات في مصر، إلا أنّ محاولات جرت منذ عام 2013 لإعادة الروح للشركة، وفي الآونة الأخيرة يجري حديث عن محاولات شركة النصر لإنتاج سيارة كهربائية مصرية، لكن ثمة معوقات تمنع الخطوة.
ورغم المحاولات المتكررة خلال السنوات الطويلة الماضية لإحياء صناعة السيارات وتوطينها في مصر، إلا أنها لم تفضِ إلى نتيجة عملية. فبحسب المنظمة العالمية لصناعة السيارات، أنتجت مصر في عام 2021 حوالي 24 ألف سيارة فقط، فيما تنتج جنوب أفريقيا قرابة نصف مليون سيارة، وتُصنّع المملكة المغربية حوالي 400 ألف سيارة.
وفي ظل واقع صناعة السيارات المأزوم في مصر، بعث القانون الجديد بالأمل في نفوس كثيرين، لكنه لم يتوقف أيضاً عن إثارة التخوفات لدى البعض، ممن يخشون أنّ ينتهي المطاف بالتشريع إلى حال إجراءات ووعود سابقة، كانت بمثابة قفزات في الهواء، لم يأتِ منها سوى التصريحات الرنانة، فعلى سبيل المثال، خرجت جريدة “الأهرام” بمانشيت قبل أكثر من عشرين عاماً (عدد 17 مارس عام 1998) نقلاً عن وزير الصناعة آنذاك، المهندس سليمان رضا، يقول فيه: “إنتاج أول سيارة مصرية خالصة قريباً”!
تصريحات وزير الصناعة المصري الأسبق منشورة في “الأهرام” عام 1998
تخوّفات نيابيّة
في الجلسة العامة التي ناقش خلالها البرلمان المصري قانون المجلس الأعلى للسيارات، أبدى النائب ضياء الدين داود قلقه حيال القانون الجديد، إذ وافق على التشريع من حيث المبدأ، لكنه لم يمنحه الموافقة النهائية.
ويقول داود في كلمته تحت القبة إنّ “البرلمان بات متيقظاً لـ”شياطين الإنس والجن” ورجال الأعمال الذين تم تسكينهم في نصوص هذا القانون، وهم لا يرغبون سوى في الاستفادة من حوافز التشريع الجديد، من دون الإسهام الجاد في توطين صناعة السيارات”، مشدداً على أنّه أصبح “من غير المقبول حمل أي قانون جديد إلى غير مبتغاه، وأنّ البرلمان جاد في التدقيق والمحاسبة هذه المرة”.
وفي تصريحات خاصة لـ”النهار العربي”، تحدث النائب ضياء الدين داود عن المخاوف التي انتابته حيال هذا التشريع، فيقول: “ثمة مواطن ضعف في القانون الجديد، منها: استدعاء أطراف لا يعنيها توطين الصناعة في مصر، مثل موردي المكوّن المحلي في السيارات التي يتم تجميعها في مصر”.
ويوضح داود قائلاً: “قبل إقرار هذا القانون، كانت الدولة تشترط على الوكيل الأجنبي الذي يقوم بتصنيع السيارات في مصر، قبول نسبة 45 في المئة مكوّناً محلياً، والحقيقة أنّ نسبة المنتج الوطني الفعلية في نسبة الـ45 بالمئة لا تتعدى 20 بالمئة”.
ويتابع: “يمكن أن نوضح ذلك بمثال “شكمان” السيارة الذي يتكون من أربع قطع، واحدة منها فقط تُصنع في مصر، والبقية تُستورد من الخارج، لذا فموردو المنتج المحلي للوكيل الأجنبي ليسوا رجال صناعة، بقدر كونهم مستوردين في حقيقة الأمر، ولا يستهدفون توطين الصناعة بالأساس”.
وللحدّ من التحايل في مسألة تصنيع المكوّن المحلي بمنتجات مستوردة، يلفت داود إلى أنه اقترح في القانون الجديد مادة تنصّ على أن تكون نسبة المنتج الوطني داخل المكوّن المحلي 45 في المئة، تزيد خلال عامين إلى 55 بالمئة، وهو المقترح الذي لم يتم الموافقة عليه في نهاية المطاف.
ويقول البرلماني المصري بحسرة إنّ “هذا الإلزام برفع نسبة المنتج الوطني دخل المكوّن المحلي، كان من شأنه تعزيز منظومة الصناعة تعزيزاً شاملاً، من طريق إنشاء عدد ضخم من المصانع، التي تقوم بتصنيع عديد من مدخلات صناعة السيارات، كما هي الحال في المملكة المغربية، التي أسست مدينة متكاملة لصناعة السيارات”.
يستنكر داود أيضاً التوسع في تشكيل إنشاء مجلسي إدارة، أحدهما للمجلس الأعلى للسيارات، والآخر لصندوق تمويل صناعة السيارات صديقة البيئة، بدلاً من الاستعانة بمجلس إدارة واحد، توفيراً للنفقات، مع التوسع في الاستعانة بالخبراء.
كما أبدى تخوفه من المادة التي تنص على تعيين أربعة خبراء بترشيح من وزير التجارة والصناعة، من دون قيود ولمدة أربع سنوات، مشيراً إلى أنّه قدّم تعديلاً – لم يُقبل – ينص على ضمان تمثيل الخبراء لجميع أطراف الصناعة، وأن تجدد الثقة فيهم لثلاث سنوات بعد عام من تعيينهم، يكونون فيه محلّ اختبار.
وفي ختام حديثه، يقول داود إنّه رفض القانون في التصويت النهائي، بعدما استشعر المخاوف السالفة الذكر، متمنياً أن تذهب مخاوفه أدراج الرياح، وأن “تزدهر صناعة السيارات، وخاصة صديقة البيئة منها، التي لدينا فرص كبير للمنافسة في مجال تصنيعها”.
حوافز
في الجهة الأخرى، كان الأمين العام لرابطة مصنعي السيارات المهندس خالد سعد أكثر تفاؤلاً، إذ يرى أنّ “القانون الجديد يعكس حجم الاهتمام الذي تبديه الدولة حيال توطين صناعة السيارات في مصر، من حيث المستوى الرفيع لتشكيل المجلس الأعلى الذي يرأسه رئيس الوزراء”.
ويضيف سعد لـ”النهار العربي”: “التشريع قدّم حوافز عدة تتعلق بنسبة المكون المحلي، فالقانون يبني على الوضع القديم الذي ينص على وجود 45 بالمئة مكوّناً محلياً في السيارات التي تُصنّع في مصر، مع تقديم امتيازات لمن يتجاوز هذه النسبة”.
وعن ماهية الحوافز التي تقدّم للمصنعين، يقول الأمين العام لرابطة مصنعي السيارات: “الحوافز ستكون عبارة عن نقاط، تسهم في خفض قيمة الضرائب والجمارك المستحقة على الشركات، في حال زيادة نسبة المكوّن المحلي في السيارات المصنعة على الأراضي المصرية”.
ويستطرد: “القانون الجديد يرسم طريقاً لجميع مصنعي السيارات، بعدما كان هناك حالة من الفوضى تضرب الصناعة، وبات ثمة خريطة طريق تعطي الدافع للاستثمار في هذا المجال”.
ولدى سؤاله عن مدى اطمئنان المصنعين لجدوى القانون، وهل ثمة احتياجات أخرى تحتاجها الصناعة، قال سعد إنّ “الوضع الحالي مُرضٍ إلى حد كبير، لكن لا تزال ثمة حالة ترقب انتظاراً لصدور اللائحة التنفيذية بعد تصديق الرئيس على القانون، فقد تظهر الحاجة إلى بعض التعديلات”.
واتفق سعد مع النائب داود بشأن أهمية الاستثمار في السيارات الكهربائية، بقوله: “يجب الخروج من مجال صناعة السيارات التقليدية، والاتجاه إلى صناعة السيارات الكهربائية، فمن المتوقع أن تنعدم صناعة السيارات التقليدية في عام 2040”.
ورغم التباين في وجهات النظر حيال القانون، ثمة اتفاق على أهميته كضرورة ملحة لوضع إطار عام للصناعة، قد يسهم قريباً في إنهاء أزمة سوق السيارات في مصر، الذي بات يمثل ظاهرة مزعجة للمواطن المصري، مع ارتفاع الأسعار الجنوني، وشح قطع الغيار.