انقلاب في السياسة الأميركية وليس مجرد نقل سفارة

1

 
 
بقلم: د. إبراهيم أبراش
 
قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل اليهودية وإن كان ينسجم مع شخصيته الخارجة عن المألوف إلا أن الأمر لا يتعلق بالرئيس ترامب فقط، فكل ما فعله ترامب أنه صادق على قرار سابق اتخذه الكونغرس الأميركي أي الشعب الأميركي عام 1995 واعتراف بأمر واقع فرضته إسرائيل منذ عام 1980 وآنذاك أصدر مجلس الأمن القرار رقم 478 بأغلبية ساحقة 14 صوتا وامتناع واشنطن عن التصويت، وبالتالي فالمشكلة ليست في ترامب بل في الولايات المتحدة وسياساتها المعادية للشعب الفلسطيني وللأمتين العربية والإسلامية، والتركيز على شخص ترامب قد يكون الهدف منه تبرئة الدولة الأميركية من المسؤولية.
 
القرار الأميركي فيه انقلاب على تاريخ المنطقة ولطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي وانقلاب على توافقات وقرارات دولية، كلها تُجمِع بأن مدينة القدس وبسبب خصوصيتها الدينية يجب أن لا تخضع لسيادة دولة بعينها إلا في إطار اتفاق كل أطراف الصراع وفي إطار دولي.
 
القرار الأميركي يشكل انقلابا في السياسة الأميركية للأسباب التالية:
 
1- انقلب على تاريخ الصراع في المنطقة حيث لم يحدث عبر التاريخ أن كانت القدس عاصمة لإسرائيل، بل إن إسرائيل لم تظهر للوجود إلا مع قرار التقسيم 1947 وهو القرار الذي اعتبر القدس منطقة دولية مفتوحة للجميع.
 
2- حسم القرار بأن الصراع إسرائيلي فلسطيني وتجاهل بعده العربي والإسلامي وهو بذلك يهين الأمتين العربية والإسلامية ويحتقر حلفائه من الأنظمة العربية والإسلامية.
 
3- لم يقتصر على اعتبار القدس عاصمة سياسية لإسرائيل بل اعتبرها عاصمة لليهود وهو اعتراف بيهودية القدس ويهودية دولة إسرائيل.
 
4- انقلب على كل القرارات الدولية حول القدس بما فيها قرارات صادرة عن أعلى هيئة في الأمم المتحدة – مجلس الأمن – وهو بذلك يُحَقِر المنتظم الدولي بكامله.
 
5- انقلب على عملية التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين – اتفاقية أوسلو – والتي تعتبر القدس من قضايا الحل النهائي وهو بذلك يعلن نهاية هذه الاتفاقية وكل ما ترتب عليها.
 
6- انقلب على المبادرة العربية للسلام والتي تعتبر الصراع صراعا عربيا إسرائيليا وأن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية.
 
7- أسقط أهلية واشنطن لتكون شريكا أو وسيطا في أية عملية تسوية سياسية جديدة.
 
8- كشف حقيقة ما يسمى ‘صفقة العصر’ أو ‘الصفقة الكبرى’، فالتوقيع على القرار أثناء الإعداد للصفقة يعني أن القدس ستكون خارج التسوية.
 
9- كان بمثابة رسالة بأن الإدارات الأميركية لا تحترم قراراتها ولا يمكن الركون إليها في أي علاقة أو تحالف.
 
10- يُسقط صفة الاحتلال عن دولة الكيان الصهيوني وسيشجعها على ضم مزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
 
11- سيشجع دولا خاضعة للنفوذ الأميركي على نقل سفارتها للقدس.
 
12- سيضع القيادة والشعب الفلسطيني في موقف حرج، فإما أن يتساوقوا مع الأمر الواقع وصفقة القرن أو العودة لمرحلة التحرر الوطني في ظروف غير مواتية.
 
كل هذه الأسباب تفسر حالة الغضب والتنديد ليس فقط من الفلسطينيين بل من الأغلبية الساحقة لدول وشعوب العالم. ولكن ولأنه قرار خطير يحتاج لتفكير هادئ وعقلاني في كيفية التصرف للرد على القرار ومواجهة تداعياته، لأنه لا يمس الفلسطينيين وحدهم بل يشكل تحديا وإهانة للأمم المتحدة وللعالمين العربي والإسلامي.
 
أولا: على المستوى الدولي.
 
المطلوب من الأمم المتحدة ومنظماتها أن تتحرك لإدانة واشنطن حيث إن ميثاق الأمم المتحدة الذي وقعت عليه واشنطن وكل دول العالم ينص بوضوح بعدم جواز أن تصدر الدول تشريعات وقوانين تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها المُلزِمة.
 
ولكن، ولأن واشنطن لا تُعير احتراما للمنتظم الدولي ولا للأمم المتحدة بل ستكون أكثر عدوانية تجاههما فيما يخص القضية الفلسطينية، ولأن كل القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة سواء الجمعية العامة أو مجلس الأمن قرارات غير ملزمة أو توصيات، فعلينا التفكير جيدا في جدوى المراهنة على قرارات دولية تُجبِر واشنطن على التراجع عن قرارها أو تجبر إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة أو تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وقد رأينا كيف أن مئات القرارات الدولية حول فلسطين بقيت حبرا على ورق، وبعضها تم اتخاذه في زمان كان يوجد معسكر اشتراكي ودول عدم الانحياز تقف إلى جانب الفلسطينيين.
 
هذا لا يعني عدم تحرك الفلسطينيين دوليا حيث إن ردود الفعل الأوروبية والدولية الرافضة للقرار تشجع على المزيد من التفاعل مع الرأي العام الأوروبي وإبقاء القضية حية ومتفاعلة في كل المنظمات الدولية، والأهم من ذلك البحث عن وسيط دولي نزيه لعملية تسوية سياسية عادلة أو لتشكيل حماية دولية للشعب الفلسطيني.
 
ثانيا: على المستوى العربي والإسلامي
 
قرار نقل السفارة تم اتخاذه من الكونغرس الأميركي منذ عام 1995 وأكد ترامب خلال حملته الانتخابية وما بعدها أنه سيوقِع عليه، ومع ذلك لم تتحرك لا الأنظمة ولا الشعوب العربية والإسلامية لثني الكونغرس للتراجع عن قراره أو ثني ترامب للتراجع، بل في عهد ترامب وهو يعلن مواقفه المعادية لفلسطين توطدت علاقة الأنظمة العربية وخصوصا الخليجية بإدارة ترامب ودخلوا معه في اتفاقات اقتصادية وفي تحالفات أمنية وعسكرية غير مسبوقة، فكيف يمكن المراهنة على هذه الأنظمة لمواجهة الإدارة الاميركية وسياساتها؟
 
ليس هذا فحسب بل إن ترامب ما كان يجرؤ على قراره إلا بعد أن أطمأن من عدم وجود ردود فعل عربية أو إسلامية ضد المصالح الأميركية أو ضد إسرائيل، والمُهين لهذه الأنظمة وخصوصا العربية السعودية أنها تشارك ترامب في تحركه للتهيئة للصفقة الكبرى وهناك مبادرة عربية للسلام تعتبر أن القدس عاصمة للدولة الفلسطينية.
 
إن أقصى ما يمكن أن تقوم به الدول العربية والإسلامية في ظل أوضاعها الراهنة أن تعقد مؤتمرات في إطار جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي، وتصدر بيانات جماعية منددة وشاجبة وستقول بأنها ستدرس اتخاذ مزيد من الإجراءات إن لم يتراجع ترامب عن قراره وهي تعرف أنه لن يتراجع، وبعض الأنظمة قد تتصرف منفردة فتستدعي سفيرها من واشنطن وقد تقطع علاقاتها لفترة محدودة مع إسرائيل وليس مع واشنطن، كما هو الشأن بالنسبة لتركيا. بل لا نستبعد أن ترامب أخذ الضوء الأخضر بشكل مباشر أو غير مباشر من بعض الأنظمة العربية.
 
أما بالنسبة للشعوب العربية والإسلامية المؤيدة والمتعاطفة مع القدس وفلسطين فحالها ينطبق عليه المثل ‘العين بصيرة واليد قصيرة’. نعم ستخرج مسيرات ومظاهرات مندِدة وقد تحدث صدامات مع أجهزة الأمن، ولكن لن يكون بيدها أكثر من ذلك وخصوصا أن معظم الدول العربية منشغلة بمشاكلها الداخلية الناتجة عما يسمى الربيع العربي، ويبدو أن واشنطن صنعت هذه الربيع للوصول إلى هذه المرحلة لتصفية القضية الفلسطينية.
 
ولا نستبعد في هذا السياق أن يؤدي القرار إلى منح بعض الجماعات الإسلامية المبرر والشرعية لتقوم بأعمال عنف في الولايات المتحدة وفي دول أوروبية تحت عنوان الدفاع عن القدس والمقدسات.
 
وفي الختام نقول بأن الوسيلة الوحيدة التي تُغير من السياسة الأميركية وقد يجبرها على سحب أو تجميد قرارها في المستوى التشريعي والتنفيذي هو الإضرار مباشرة بمصالحها الاقتصادية وأمنها القومي، فالشعب الأميركي حساس جدا تجاه مصالحه الاقتصادية وأمنه القومي، وتستطيع الأنظمة العربية استعمال أوراق قوة كثيرة في هذا السياق ولكنها لن تستعملها إلا إذا تحركت الشعوب العربية والإسلامية، كما أن المنتظم ادولي لن يتحرك بفعالية إلا إذا شعر أن الأمن والسلم العالمي يتدهور بسبب هذا القرار. سقف التحرك العربي والدولي مرتهن بالقرار الفلسطيني الرسمي والشعبي على وجه الخصوص، هل سيصمت الفلسطينيون على ما يجري أم يقلبون الطاولة؟

التعليقات معطلة.