عامٌ جديد مضى يُضاف إلى عدّاد سنوات الأزمة الليبية التي لا تزال تراوح مكانها من دون حل، فيما معاناة المواطن تتفاقم، ولم يعد الأمر يقتصر على الفراغ الأمني والسياسي بل بلغت الأزمة مداها مع انهيار قدرة الليبيين على تأمين قوت يومهم، إضافة إلى ما تركه إعصار “دانيال” من مأساة مدمّرة (تقرير خاص عنه في مكان آخر). تجربة أممية جديدة مع باثيليفي عام 2023 تولّى موفد أممي جديد المسؤولية، هو الدبلوماسي السنغالي عبدالله باثيلي، الذي عمد إلى فتح كل الملفات الشائكة، لكن على ما يبدو أنّ العقدة الليبية وتشابكها مع صراعات دولية كانت أكبر من قدرته على إنجاز الحل. بدأ باثيلي عامه الأول بجولات استكشافية على الأطراف المحلية والدولية النافذة… سعى إلى اتباع سياسة العصا والجزرة مع المتحكّمين في المشهد شرقاً وغرباً، فتارةً يحضّهم على تجنّب الخلافات والتوصل إلى حلول توافقية، وتارةً أخرى يسعى إلى تقليص أدوارهم عبر استدعاء القوى السياسية والمجتمعية والناشطين إلى المشهد، بل والتلويح بفرض الحل، فأُخذ عليه عدم تماسك مواقفه في مواجهة مراوغات الفرقاء.
ظاهرياً حقّقت ليبيا اختراقاً في ملف إنجاز الاستحقاقات السياسية، بعدما أعلنت لجنة قانونية مشتركة شكّلها مجلسا النواب والأعلى للدولة في أيار (مايو) الماضي وتضمّ 12 ممثلاً بالمناصفة، التوافق على القوانين المنظّمة للانتخابات الرئاسية والتشريعية، عقب سلسلة من الاجتماعات توّجتها باجتماع في مدينة بوزنيقة المغاربية. لكن على أرض الواقع، فإنّ مشاريع القوانين التي أقرّتها ما أُطلق عليها “لجنة 6+6” لم تُرض جميع الأطراف، خصوصاً مع ربط تطبيقها بتشكيل حكومة موحّدة تُنهي نزاع حكومتي الشرق والغرب المستمر منذ آذار (مارس) العام 2022، وتُشرف على العملية الانتخابية، فيما أنهت انتخابات داخلية أجراها المجلس الأعلى للدولة في آب (أغسطس) الماضي، شهور العسل بين رئيسه السابق خالد المشري، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، بعدما أطاحت الغالبية بالمشري وجاءت بمحمد تكالة الذي يُعرف بأنّه رجل رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة الذي يسيطر على العاصمة ومحيطها. منافسات إقليمية ودوليةدولياً، ألقى الصراع المحتدم بين روسيا والولايات المتحدة بظلاله على الصراع الليبي وكبّل قدرة مجلس الأمن إصدار قرارات تُساهم في حلحلته، فيما سُجّلت منافسة محمومة بين موسكو وأنقرة على توسيع نفوذهما على الأراضي الليبية. فالأولى لم تكتف بعلاقتها المتينة مع الشرق خصوصاً الجيش الوطني وقائده خليفة حفتر، بل فعّلت قنواتها الدبلوماسية تجاه الغرب وقادته المعروفين بعلاقتهم الوثيقة بواشنطن، في حين أظهرت تركيا انفتاحاً على شرق ليبيا وقادته، خصوصاً رئيس مجلس النواب، بعد سنوات من العداء، مع تمسّكها بنفوذها الضارب في الغرب. الطاولة الخماسيةوأمام هذا المشهد أبى الموفد الأممي أن ينتهي العام 2023 من دون أن يتدخّل، فدعا إلى طاولة حوار خماسية تجمع رؤساء المجلس الرئاسي محمد المنفي وحكومة الوحدة الوطنية والمجلس الأعلى للدولة كممثلين عن غرب البلاد، إضافة إلى صالح وحفتر عن شرقها، بعدما ظلّ يشدّد طيلة النصف الثاني من العام على أنّ تمرير القوانين الانتخابية غير كافٍ لتنفيذ الاستحقاقات السياسية، وأنّ ثمة ملفات عالقة تحتاج إلى التوافق، لكن الانقسام الليبي راوح مكانه، لينتهي العام كما بدأ، وسط آمال بأن يأتي العام الجديد ويضع حداً لحالة الانسداد السياسي ويدفع الأطراف المتصارعة إلى تقديم تنازلات تؤدي إلى توافق تترقبه الأوساط المحلية والدولية. تراجع العنفوبينما تسود حالة من الإجماع في الأوساط الليبية بأنّ الأطراف المتحكّمة في المشهد ستفعل أي شيء للحفاظ على مقاعدها ومناطق نفوذها، لكن في المقابل يُحسب لها تنحيتها للعام الثالث على التوالي لغة السلاح وتمسكها باتفاق وقف إطلاق النار الموقّع في مدينة جنيف أواخر العام 2020، كما سُجّل انخفاض في وتيرة العنف وأعداد ضحاياه، خصوصاً في العاصمة طرابلس، بعدما شدّد الدبيبة من قبضته الأمنية عليها، فيما جاءت غالبية الصدامات المسلحة داخل المدن المتاخمة للعاصمة، عندما سعى رئيس حكومة الوحدة الوطنية لتوسيع مناطق نفوذه والاشتباك مع الميليشيات المناوئة له. وجاءت أبرز المواجهات تلك التي وقعت داخل مدينة الزاوية مطلع حزيران (يونيو) الماضي واستمرّت لنحو أسبوعين واستُخدم فيها الطيران المسيّر، ما عزته حكومة الوحدة الوطنية إلى مواجهة عصابات التهريب والجريمة، لكن سكان المدينة أكّدوا استهداف معسكرات مسلّحين مناوئين.
وإذ نجح باثيلي في إعادة اللجنة العسكرية المشتركة التي تضمّ 5 ممثلين عن الجيش الوطني ومثلهم عن قوات الغرب، إلى طاولة الاجتماعات في حزيران الماضي، بعد فترة من التوقف وانسحاب جنرالات الشرق الليبي، لكن دخول الميليشيات المشرعنة طرفاً في معادلة القوات النظامية أثار تساؤلات. فقد كان لافتاً حضور قائدي جهازي “دعم الاستقرار” عبد الغني الككلي المعروف بـ”غنيوة”، و”الردع ومكافحة الإرهاب” عبد الرؤوف كارة، في مفاوضات عسكرية أممية عُقدت في تونس وداخل ليبيا، للبحث في حلحلة معضلة الميليشيات الليبية، وفلتان السلاح، ما يمنح تلك المجموعات المسلحة الموالية للدبيبة الطابع الرسمي، ويثير شكوكاً حيال نجاح لجنة 5+5 في إنجاز الملفات الشائكة التي شُكّلت أصلاً لإنجازها وعلى رأسها توحيد المؤسستين العسكرية والأمنية وإجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة. وتلقّت جهود اللجنة ضربة في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عندما مرّر البرلمان التركي قراراً يقضي بتمديد مهمّة الجيش التركي في ليبيا 24 شهراً تنتهي في كانون الثاني (يناير) العام 2026. انفجار اجتماعي في 2024؟تعقيدات الملفين السياسي والأمني وتشابكهما زادت من تدهور الوضع الاقتصادي وفاقمت المعاناة الحياتية لليبيين، فرغم الاستقرار النسبي في انتاج النفط الذي يعتمد عليه بشكل أساسي الاقتصاد الليبي ليراوح هذا العام بين 1.1 و1.2 مليون برميل يومياً، إلاّ أنّ الأسواق المحلية تعاني شحاً في المحروقات لأسباب عدة، على رأسها انتعاش التهريب، ما دفع السلطات الرسمية إلى بحث مسألة إلغاء الدعم على الوقود وتحريك أسعاره تدريجياً. ورغم انخفاض معدّل التضخم خلال الربع الثاني من العام 2023 في ليبيا إلى 2.4 في المئة من 3.1 في المئة خلال الربع الأول وفقاً للبيانات الرسمية، إلاّ أنّه على أرض الواقع واصلت أسعار السلع الأساسية ارتفاعها مدفوعة على ما يبدو بقفزات قياسية لأسعار صرف العملة الأجنبية في السوق السوداء التي يعتمد عليها غالبية التجار والمستوردين، حيث تستورد ليبيا 80 في المئة من احتياجاتها من الخارج، وسط توقعات بموجة تضخمية جديدة خلال الأشهر المقبلة، مع اتجاه السلطات إلى تخفيض قيمة العملة المحلية الدينار، خصوصاً في حال استمرّ الضغط عليها في ظل انخفاض أسعار النفط في السوق الدولية. استمرار الوضع الضاغط على المواطن الليبي سياسياً وأمنياً واقتصادياً قد يدفع الجموع الغاضبة للنزول إلى الشارع، وهو ما ظهرت بوادره خلال العام المنصرم بتظاهرات مطلبية شملت فئات مجتمعية عدة، خصوصاً من قطاعات الطبقة المتوسطة. فهل يدفع استمرار الأزمة الليبية بل وتفاقمها على الأصعدة كافة إلى مواجهة متوقعة بين الشارع والطبقة الحاكمة؟