لم تخالف تركيا التوقّعات الاقتصادية لعام 2023، فيما جاءت بعض الأحداث السياسية والميدانية مغايرة للترجيحات أو بعيدة عن حسابات استطلاعات الرأي والتوقّعات كما الحال بالنسبة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية والزلزال المدمّر. يتوقّع المحللون عاماً تركياً أكثر استقراراً من الناحية السياسية فيما يبدو أن المشاكل الاقتصادية ستظل ترافق حكومة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان على الرغم من التعديلات الكبيرة التي طرأت على بنيتها ونهجها الاقتصادي. الزلزال المدمّراستهلّت تركيا عام 2023 بزلزالين مدمّرين في 6 شباط (فبراير) ضربا 10 ولايات مخلّفاً 50500 قتيل و107204 جرحى وفق البيانات الرسمية، التي كشفت عن تضرر 301000 مبنى في المناطق المنكوبة بشكل كلي أو جزئي، ما أجبر السلطات على إعلان حالة الطوارئ في الولايات العشرة لمدة 3 أشهر. وضرب زلزال ثالث ولاية “هاتاي” (لواء اسكندورن) أقل شدة، لتتوالى الهزّات الارتدادية، التي تجاوز عددها 35000 تراوحت شدتها بين المتوسطة والضعيفة، ليعشش الذعر في نفوس السكّان لفترة طويلة من الزمن. وعلى الرغم من انقضاء أكثر من 10 أشهر على الزلزالين المدمّرين، إلّا أن تداعياتهما لا تزال مستمرة لناحية عمليات الإغاثة ورفع الأنقاض، وخاصة في إقليم “هاتاي” الذي يشتكي سكّانه من إهمال وتجاهل “متعمّد” لمعاناتهم على حساب أعمال الاستملاك وخصخصة العقارات التي تشهدها مدينة انطاكية، قلب الولاية، بشكل خاص.
الانتخابات الرئاسية والبرلمانيةخلق الزلزال أجواء سلبية لدى الأتراك لناحية قدرة الحكومة على الاستجابة والتعامل مع الكوارث، لكن على عكس التوقّعات التي سادت بانتكاسة السلطة في الانتخابات البرلمانية، ومعاقبة الأتراك للرئيس التركي رجب طيب أردوغان على قراراته الاقتصادية وأداء حكومته في الاستجابة للزلزال وعواقبها، فقد تمكّن حزب “العدالة والتنمية” من حصد العدد الأكبر من مقاعد البرلمان، ونجح زعيمه في حسم الانتخابات الرئاسية لصالحه في الجولة الثانية، خلافاً للتكهّنات. فوز أردوغان بفترة رئاسية ثالثة أسفر أيضاً عن تشققات في بنية المعارضة، التي فشلت في الايفاء بوعودها بتحقيق انتصار ساحق في الانتخابات العامة، ليتلاشى “تحالف الأمة”، الذي تشكّل باتّفاق ستة أحزاب سياسية تحت مسمّى “الطاولة السداسية”، مهدّداً مصير المعارضة في الانتخابات المحلية المقرر تنظيمها في نهاية آذار (مارس) 2024. لم تقتصر نتائج فوز الرئيس التركي بالولاية الثالثة على إقصاء منافسه، زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو، عن السباق الرئاسي، بل امتددت ارتداداته إلى داخل حزبه، المعارضة الأم في البلاد، لتؤدي إلى إنهاء مسيرته السياسية، بعد الإطاحة به من رئاسة الحزب لصالح “تيّار التغيير” المناهض لسياساته “الأقرب إلى اليمين”، في الحزب الذي يعرّف عن نفسه كيساري اشتراكي. مساع مستمرة للتطبيعتبدي تركيا مساع مستمرة للتطبيع مع الدول التي اتسمت علاقاتها معها خلال العقد الماضي بالعديد من الشوائب والتوتّرات التي وصلت أحياناً إلى مستويات مقلقة، وقد نجحت على العديد من الوجهات، في الشرق والغرب على حد سواء، وذلك كأحد أهم مسارات الخروج من الأزمة الاقتصادية. وفي حين نجحت أشرعة أنقرة في الوصول إلى سواحل كل من مصر واليونان بأمان وسلام، إلا أن رياح التطوّرات في غزّة هبّت عكس أشرعتها في مياه التطبيع مع تل أبيب، لتجد نفسها أمام تصعيد سياسي اضطراري مقابل الحرص على مواصلة العلاقات الاقتصادية، وبشكل اضطراري أيضاً. في منتصف اذار (مارس) الماضي، التقى وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو بنظيره المصري سامح شكري في القاهرة، معلناً استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد انقطاع دام أكثر منذ 11 عاماً. كما وقّع أردوغان على بروتوكول انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) وأحاله إلى البرلمان التركي، في خطوة من المتوقّع أن تعيد مياه العلاقات التركية-الأميركية إلى مجاريها، خصوصاً مع وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض. استمرت التباينات في وجهات النظر بين أنقرة وواشنطن حول مختلف القضايا، لا سيما تلك الخاصة بالهجمات التركية على مناطق شمال وشرق سوريا، واستهدافاتها المتكررة لـ”قسد” التي تعتبرها الولايات المتّحدة شريكاً في حربها ضد “داعش” في سوريا. في المقابل، طالبت أنقرة بإلحاح تزويدها بمقاتلات أف-16 الأميركية للحفاظ على التوازن العسكري مع جارتها اليونان والدول الأخرى في المنطقة، وسط وعود من إدارة جو بايدن بمساعدتها في تخطي فيتو الكونغرس على تزويد تركيا بأحد أكثر المقاتلات تطوّراً على مستوى العالم. وبالمثل، فإن الزيارة التي قام بها أردوغان إلى أثينا، عاصمة الجارة اليونانية اللدودة لتركيا، في كانون الأول (ديسمبر) ورسائل الصداقة التي أرسلها قبل وصوله عبر الإعلام اليوناني متراجعاً عن التهديد باجتياح اليونان على حين غرة، وُصفت ببداية حقبة جديدة للعلاقة بين البلدين اللذان يشتركان بخاصية استثمار زعيميهما للتوتّرات المتبادلة في السياسة الداخلية والبقاء في السلطة. في المقابل، لم تتكلل جهود عودة العلاقات مع دمشق بالنجاح، كما أن حرب غزة حالت دون تطور العلاقات التركية -الإسرائيلية على المستوى السياسي، وإن استمرت بالازدهار في قطاعات التجارة والنقل والطاقة ذات الأهمية الاستراتيجية للاقتصاد التركي.
كان أحد البنود المهمة على جدول أعمال أيار (مايو) بالنسبة لأنقرة، الاجتماع الرباعي الذي احتضنته موسكو بين تركيا وروسيا وسوريا وإيران على مستوى وزراء الخارجية، والذي شهد لقاء وزيري خارجية أنقرة ودمشق للمرة الأولى بعد انقطاع لأكثر من 12 عاماً. حصلت أنقرة على الصورة المشتركة مع وزير خارجية دمشق قبيل أيام من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المصيرية، قبل أن يتراجع حماسها وتصريحاتها المركّزة على الرغبة في تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية، وذلك بعد ضمان أردوغان لولاية رئاسية جديدة حتى عام 2028، مقابل تعنت دمشق في شروط التطبيع المتمثّلة بخريطة طريق لانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، وإيقاف أنقرة دعمها للمسلحين في سوريا. أما في ما يخص العلاقات التركية-الإسرائيلية، فإن التصعيد المتبادل كان السمة الأبرز للتطبيع المستجد الذي لم يصمد طويلاً، حينما قامت تل أبيب بسحب سفيرها احتجاجاً على التصريحات التركية ضدها وموقفها من حماس خصوصاً وحرب غزّة بشكل عام. وتواصل الحكومة التركية مقاومة الضغوط الداخلية، الشعبية منها والصادرة عن أحزاب المعارضة، لقطع علاقاتها التجارية مع تل أبيب، وذلك لحاجتها إلى المزيد من الموارد التي قد تساهم في انتشال اقتصادها من الأزمة المتصاعدة، مع الأخذ بعين الاعتبار دنو موعد الانتخابات المحلية في البلاد.اعتقالات وأحكام قضائية مسيّسةمكّنت سياسات التطبيع وإعادة العلاقات، أنقرة من وضع يدها على ملف الحريات وحقوق الإنسان داخلياً، بعد تراجع الانتقادات والأصوات الخارجية المطالبة بضرورة احترام تركيا لمعايير الحريات الدولية، لتحوّل العالم الحالي إلى أحد أسوأ أعوام سلطة العدالة والتنمية لناحية استهداف الأصوات السياسية والإعلامية المعارضة. نجح البرلمان التركي من خلال أصوات حزب العدالة والتنمية وحليفه الحركة القومية من تمرير تعديلات تضمّنت مزيداً من القيود على حرية التعبير على الانترنت. كما واصلت السلطات التركية قمع التظاهرات التي دعت إلى المزيد من الحريات وحقوق الإنسان، وحقوق مجتمعات الميم خصوصاً.وواصلت الحكومة التركية فرض قيود صارمة على حرية التجمع السلمي والتظاهر. وفي حين رفض مجلس الدولة إلغاء قرار الانسحاب من اتفاقية اسطنبول لحقوق المرأة، الذي اتُّخذ في عام 2021، واصلت السلطات التركية تجاهل دعوات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وقرارات المحكمة الدستورية العليا بضرورة إطلاق سراح كل من المحامي جان أتالاي، المتهم في قضية غيزي، والذي انتخب عضواً في البرلمان عن حزب العمال التركي، والرئيس المشارك الأسبق لحزب “الشعوب الديموقراطي” صلاح الدين دميرتاش، ورجل الأعمال عثمان كافالا. توقّعات عام 2024 تركياًعام صعب مر على تركيا في ظلّ الصعوبات الاقتصادية والزلازل والكوارث الطبيعية والتطورات السياسية، لكن هذه الصعوبات تبدو مستمرة في العام المقبل، خصوصاً تلك المتعلّقة بالسياسة الداخلية والاقتصاد. من المتوقّع أن تشهد الفترة السابقة للانتخابات المحلية في نهاية آذار (مارس) المقبل تصاعداً في التوتّر بين السلطة والمعارضة، وسط تكهّنات بنجاح السلطة المكونة من تحالف العدالة والتنمية والحركة القومية والأحزاب اليمينية الأخرى في تحقيق نتائج أفضل على مستوى البلديات الكبرى في البلاد. في المقابل، فإن خسارة المعارضة لبلدية اسطنبول (في حال حصولها) ستفتح الباب أمام انخراط رئيسها الحالي أكرم إمام أوغلو، صاحب الحضور والتأثير السياسيين، أكثر في النشاط السياسي التركي، وصولاً ربما إلى الترشح لرئاسة الجمهورية في الانتخابات المقبلة. بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، تبدو إسطنبول أكثر أهمية من أنقرة، فمنها انطلق الرئيس الحالي إلى الحياة السياسية، كما أن مقدّراتها المالية والتجارية تشكّل مصدراً لا غنى عنه بالنسبة للسلطة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، لذلك فمن المتوقّع أن تشهد انتخابات اسطنبول “أم المعارك” الانتخابية، الأكثر سخونة وتوتّراً. ويواجه الرئيس أردوغان تحدّيات كبيرة في الساحة الدولية سياسياً، والداخلية اقتصادياً، وسط توقّعات بتوجهه نحو تعديلات جديدة للدستور التركي بعد فوزه بأهم البلديات الكبرى في البلاد. تبقى العلاقات التركية- الأميركية مرهونة بالسيد الجديد للبيت الأبيض، حيث يتوقّع أن تتراجع حدة التوتر بشكل عام، مدفوعة بالحاجة الغربية إلى موقع تركيا الجيوسياسي مع استمرار حرب أوكرانيا من جهة والتطوّرات الخاصة في الشرق الأوسط جراء حرب غزّة من جهة أخرى. وفي المقابل، فإن أردوغان سيسعى إلى تحويل هذه الحاجة إلى نقاط ومكاسب شخصية من خلال التفاوض للحصول على ضوء أخضر لشن المزيد من الهجمات على مناطق شمال وشرق سوريا وأداء أدوار أكثر فاعلية في الملفات الإقليمية بدءاً من سوريا ووصولاً إلى ليبيا. كما أن مسألة حصول تركيا على مقاتلات أف-16 ستكون على طاولة المفاوضات بين أنقرة وواشنطن في الأشهر المقبلة، وسط حظوظ تركية أوفر نتيجة المتغيّرات التي تشهدها المنطقة. أما على جبهة الاتحاد الأوروبي، فيستبعد حصول أي تطوّر لافت بما يخص انضمام تركيا إلى النادي الأوروبي في ظل تواصل ورود التقارير المقلقة حول ملفات الحريات وحقوق الإنسان في البلاد والسياسات الحكومية الهجومية إزاء القضايا التي تحظى بتوافق أوروبي شبه تام، كمال الحال بالنسبة للموقف من روسيا وحماس وغيرها.