تلاشت الآمال في تعافي الاقتصادات المتقدمة بقيادة الولايات المتحدة في 2023، ويبدو أن التعافي خلال العام الجديد غير مضمون بسبب التوترات الجيوسياسية التي يعاني منها العالم.وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرغ، يقول المحلل الاقتصادي كريس أنستي إن “الأمور في اللحظة الراهنة تبدو مبشرة، حيث يسيطر الجمود على الحرب الروسية ضد أوكرانيا، ولاتزال الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين محلية بدرجة كييرة، رغم أن الموقف يمكن أن يتغير في أي لحظة، كما أن الصراع بين الولايات المتحدة والصين، تراجع بعد القمة بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الصيني شي جين بينغ. لكن كل هذه الأوضاع الجيوسياسية يمكن أن تتغير إلى الأسوأ في العام الجديد، ما سيؤثر سلباً على العديد من قطاعات الاقتصاد العالمي”.
مخاطر جديدة
وعلى الصعيد الاقتصادي ينطوي 2024 على مخاطر جديدة. فرغم السعي الواسع للسيطرة على موجة التضخم بعد جائحة فيروس كورونا المستجد، فإن التأثير الكامل لحملة تشديد السياسات النقدية الصارمة لم تتبلور بصورة كاملة حتى الآن.
ويمكن القول إنه إذا لم تتحرك البنوك المركزية الكبرى لتخفيف السياسات النقدية وخفض أسعار الفائدة بوتيرة متسارعة، قد يتعثر التحسن الاقتصادي الذي طال انتظاره .
ويزيد غموض آفاق الاقتصاد العالمي في العام الجديد بسبب موجة الانتخابات التي ستشهدها أكثر من 50 دولة، وتمثل حوافز لصناع السياسات ومنافسيهم السياسيين.
وهناك انتخابات واحدة يمكن أن تؤثر بشكل جذري على الأوضاع الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، وهي انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
ويقول أنستي والذي عمل في واشنطن، ولندن، وطوكيو: “مع دخول العام الجديد اقتربت أسعار الأسهم في العالم من أعلى مستوياتها على الإطلاق، وتحقق الفوز في المعركة ضد التضخم تقريباً، ومع ذلك يحتاج الأمر للنظر إلى المشاكل المحتملة التي يمكن أن يحملها 2024”.
انهيار
إن انهيار الأوضاع العالمية خلال يناير (كانون الثاني) الجاري ليس مستحيلًا. فمخصصات المساعدات الأمريكية لأوكرانيا تتلاشى بسبب رفض الأغلبية الجمهورية في الكونغرس الموافقة على المساعدات الجديدة، قبل موافقة إدارة الرئيس بايدن على تشديد القيود على طالبي اللجوء، والمهاجرين إلى الولايات المتحدة.
كما أن الاتحاد الأوروبي يواجه صعوبة في مواصلة تقديم المساعدات لكييف بسبب الرئيس المجري فيكتور أوربان الذي يؤكد علاقته الحميمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وإذا انهارت الجبهة الأوكرانية يمكن أن تنهار الثقة في العالم. كما أن الثقة التي ستجنيها روسيا من مثل هذا الانتصار ستكون لها تداعيات لا يمكن توقعها، وربما تغري بوتين بحرب جديدة في أوروبا، مستغلاً انشغال أمريكا بمساعدة إسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين.
ورغم استمرار الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين في قطاع غزة منذ 3 شهور، ومقتل أكثر من 20 ألف فلسطيني، لا تزال الحرب داخل نطاق غزة وإسرائيل ولم تتحول إلى حرب إقليمية. ولكن الأمور قد تتغير في العام الجديد. فبعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية يطالبون بتوسيع نطاق الحرب ضد لبنان، وحزب الله اللبناني، المدعوم من إيران، والذي يتبادل القصف مع إسرائيل منذ بداية حرب غزة.
ومثل هذه الخطوة يمكن أن تشعل حرباً أوسع ضد حزب الله جيد التسليح، وربما تشترك فيها إيران بشكل مباشر، حسب تحليل لمركز أبحاث جافيكال في 18 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
ويقول توم هولاند ويانمي شي الباحثان في مركز جافيكال: “في حال أي هجوم إسرائيلي، ستكون طهران ملزمة بدعم حزب الله بصورة أكبر وأوضح مما تفعل مع حركة حماس الفلسطينية حالياً، وإلا فإنها ستفقد مصداقيتها لدى حلفائها الآخرين في المنطقة” مثل الفصائل المسلحة في العراق، وجماعة الحوثي في اليمن وغيرها.
كما يمكن أن تصب هجمات الحوثيين على السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل عبر باب المندب، ورد البحرية الأمريكية عليها، بالإضافة إلى اغتيال القيادي في الحرس الثوري الإيراني رضي موسوي في سوريا منذ أيام، المزيد من الزيت على النار في الشرق الأوسط.
ويمكن لهجمات الحوثيين نظرياً، أن تغلق مضيق باب المندب الممر البحري الاستراتيجي للاقتصاد العالمي، ما سيكبد العالم خسائر اقتصادية كبيرة.
ويأتي هذا التهديد في الوقت الذي تدرس فيه الولايات المتحدة الرد “بقوة” على الحوثيين. وتحاول وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون طمأنة شركات الملاحة البحرية على سلامة المرور في البحر الأحمر بفضل القوة البحرية متعددة الجنسيات التي تقودها واشنطن “حارس الازدهار” في المنطقة لتأمين الملاحة فيها.
لكن أغلب الشركات ترفض المرور في البحر الأحمر. وأعلنت شركة ميرسك الدنماركية العملاقة منذ أيام استئناف عبور سفنها في مضيق باب المندب، لكنها عادت وأعلنت تعليقه لمدة 48 ساعة، بعد تعرض إحدى سفنها لهجوم بصاروخ.
تكلفة
وفي تحليل مركز جافيكال يقول هولاند وشي: “الغرب سيتحمل تكلفة اضطراب 10% من تجارة العالم التي تمر عبر باب المندب، في طريقها من وإلى قناة السويس. الخطر هو أن وضع عدد كبير من العقبات أمام عجلات التجارة العالمية يمكن أن يكون نبأً سيئاً للنمو الاقتصادي وللكثير من الأسواق العالمية”.
ومع الانتقال إلى أقصى الشرق، سنجد تايوان على موعد من انتخابات رئاسية في 13 يناير (كانون الثاني) الجاري، وهي انتخابات تتابعها الصين باهتمام كبير.
وأعلنت بكين بوضوح معارضتها لنائب الرئيسة التايوانية لاي تشينغ تي، الذي يؤيد حزبه استمرار استقلال تايوان عن الصين. ويمكن أن يؤدي أي تحرك مستفز من الصين أو تايوان في حال فوز لاي تشينغ بالرئاسة إلى تصاعد التوتر في منطقة أخرى حيوية للتجارة العالمية.
وأخيراً، يمكن القول إن ما يزيد الطين بلة، هو أن بؤر التوترات الجيوسياسية الثلاث الرئيسية في العالم من حرب أوكرانيا إلى انتخابات تايوان مروراً بحرب إسرائيل ضد الفلسطينيين، يمكن أن تغذي كل منها الأخرى.
فأي انتصار روسي في أوكرانيا مع إغلاق عملاء إيران طريق التجارة الحيوي بين أوروبا، وآسيا عبر البحر الأحمر، يمكن أن يشجع الرئيس الصيني شي جين بينغ، على التحرك ضد تايوان بعد انتخاباتها الرئاسية، ليجد العالم نفسه في مستنقع فوضى سياسية واقتصادية غير مسبوقة في العام الجديد.