عاد الجنوب الليبي المنسي من الحكومات المتعاقبة على مدى عقود، والمستباح من قبل ميليشيات أفريقية تسعى إلى موطئ قدم مستغلة الفراغ الأمني والسياسي، إلى واجهة الأحداث في بلد يئن تحت وطأة صراعات السلطة والنفوذ رغم ثرواته الضخمة.
وأمس، أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط، حالة “القوة القاهرة” في حقل الشرارة النفطي بسبب احتجاجات.
وتسري حالة “القوة القاهرة” اعتباراً من أمس الأحد في الحقل الذي يمكنه إنتاج ما يصل إلى 300 ألف برميل يومياً من النفط.
وتبلغ مساحة المنطقة الجنوبية نحو مليون كلم من رقعة ليبيا، يحدها من الشمال الشرقي اقليم برقة، والغرب اقليم طرابلس، في حين تطل من الجنوب على الحدود مع النيجر وتشاد، ومن الشرق مصر والسودان، ومن الغرب الجزائر. الاحتجاجات وأسبابها
وبعد أيام من احتجاجات أطلقها الجنوبيون على غياب الخدمات المعيشية الأساسية، تجاهلتها الحكومتان المتنازعتان على الصلاحيات ومناطق النفوذ، لجأ المحتجون إلى التصعيد بإغلاق حقل الشرارة النفطي أحد أكبر الحقول الليبية، فسُمعت أصواتهم محلياً بل ودولياً. ووفقاً لبيانات المؤسسة الوطنية للنفط، يأتي حقل الشرارة الذي تم اكتشافه العام 1980، ويقع في صحراء مرزق جنوب غرب البلاد، على رأس خمسة حقول ليبية إذ يصل انتاجه نحو 300 ألف برميل يومياً بما يعادل 25 في المئة من انتاج البلاد من الخام، ولا يضاهيه في الأهمية سوى حقل الفيل الذي يقع في حوض مرزق أيضاً ويقترب انتاجه من معدلات حقل الشرارة، ما يعني أن نحو نصف الحصة اليومية لليبيا من الخام تخرج من الجنوب الليبي، مع ذلك فإن سكانه يعانون من شح في المحروقات وانقطاع شبه مستمر في الكهرباء.
ومن أمام مقر حقل الشرارة تلا محتجون، الأسبوع الماضي، بياناً أعلنوا فيه إغلاقه بعد انتهاء مهلة الاستجابة لمطالبهم المتمثلة في ضعف الخدمات وانقطاع الوقود والغاز، محملين المؤسسة الوطنية للنفط والحكومات المسؤولية الكاملة في حال عدم تحقيق مطالبهم.
اعتصام مفتوح حتى تحقيق المطالب
ورغم الوعود الحكومية بحل الأزمة، إلا أن المعتصمين يرفضون فك حصار فرضوه على الحقل بعدما نصبوا خيامهم، متمسكين بالاستمرار في الاعتصام الذي يدخل يومه السادس حتى تنفيذ المطالب.
الناشط في إقليم فزان أبو بكر أبو سته أكد لـ”النهار العربي” أن غلق حقل الشرارة “سيستمر حتى يحصل سكان المنطقة الفقراء والمهمشون على حقوقهم”، موضحاً أن المطالب الرئيسية للمحتجين هي توفير الوقود والغاز وزيادة حصة المنطقة من المحروقات بما يلبّي حاجة السكان، بالاضافة إلى تفعيل مصفاة الجنوب والعمل على تشغيلها في أسرع وقت، وتوظيف مئات العاطلين، مشيراً إلى أنه “رغم الاحتجاجات المستمرة لأيام، والمهلة التي حددت للحكومة قبل إغلاق حقل الشرارة، والتي انتهت الثلثاء الماضي، إلا أننا لم نلحظ أي تحسن في الوضع المعيشي يشي بالاستجابة إلى مطالبنا”.
نفي التسييس
ونفى أبو ستة المنخرط في الاحتجاجات أمام الحقل، بشدة ما تردد عن أن التحرك الاحتجاجي جاء بتشجيع من “الجيش الوطني” وقائده خليفة حفتر، الذي يسيطر على المنطقة، للضغط على حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة. وقال: “من تحرك هم الفقراء والمهمشون طيلة سنوات… يجب عدم تسييس هذا الحراك، وليس لنا علاقة بالصراعات على السلطة”.
وكان جهاز حرس المنشآت النفطية، التابع للجيش الوطني، اعتبر إغلاق حقل الشرارة “عملاً ضد المصلحة العامة للدولة والليبيين، في مرحلة حساسة وحرجة”، معلناً رفضه الكامل لأي محاولة ستؤثر تأثيراً مباشراً على الاقتصاد الوطني بوقف العمل بالمنشآت النفطية أو إيقاف إمدادات خطوط النفط والغاز أو التعدي عليها.
أما الباحث في الشأن السياسي إدريس حميد، وهو ابن المنطقة الجنوبية، فأكد أن أزمة شح مشتقات البنزين “إحدى المشاكل الرئيسية في المنطقة الجنوبية التي تتزود بالمحروقات من شركة البريقة ومقرها في مدينة مصراتة بالمنطقة الغربية. ثمة صعوبات وتأخير في وصول الحصة المقررة للجنوب وأحيانا تنقطع لفترة، في وقت تزايد عدد سكان الجنوب ناهيك عن زيادة أعداد المهاجرين القادمين من الحدود الجنوبية المفتوحة”.
ويرى حميد أن أزمة الجنوب هي مرآة تعكس الوضع في ليبيا عموماً في ظل تفشي الفوضى الأمنية والفساد. وقال لـ”النهار العربي”: “ما لم يكن لدينا استقرار وحكومة فاعلة ورشيدة ستظل الأزمات تراوح مكانها”، مطالباً بضرورة اعتماد اللامركزية في الإدارة، فالدولة الآن وإدارتها لم تعد كما كانت قبل العام 2011.
مطالب مشروعة… ولكن!
واتفق حميد مع أبو سته في الدعوة إلى عدم توظيف الحراك الشعبي لأغراض سياسية، فمن خرج للاحتجاج غير محسوب على معسكر سياسي وإنما خرج حتى تسمع السلطة معاناته.
من جانبه، وصف عميد بلدية سبها بلحاج علي مطالب المحتجين بـ”المشروعة”، لكنه لفت إلى أن من أهم مطالب سكان الجنوب “حل معضلة تفعيل الأرقام الإدارية (الأوراق الثبوتية) والمستمرة لسنوات، والتي ستمكنهم من الحصول على حقوقهم كمواطنين، على رأسها المنح الحكومية، والمشاركة في الاستحقاقات الدستورية”. وأكد أن حل هذه المعضلة “بيد النيابة العامة ومصلحة الأحوال المدنية، وهو ما قد يحتاج إلى وقت، ويقف حجر عثرة أمام فض الاعتصام”. كما لفت إلى “الحاجة الملحة في المدن الجنوبية إلى مستشفيات، بالإضافة إلى صيانة وإعادة تأهيل الطرق الرئيسية. كذلك ثمة مشكلة أسعار أسطوانات الغاز التي سجلت قفزات في السوق السوداء، حتى وصلت إلى ما يراوح بين 120 و180 ديناراً للأسطوانة الواحدة”.
بدوره، دعا ما يعرف بـ”المجلس الأعلى لقبائل ومدن فزان”، منظمي الاحتجاج إلى تشكيل لجنة قادرة على الحوار والتواصل مع الجهات ذات العلاقة، التي ترغب في تحقيق مطالب وحقوق أهل فزان، مؤكداً في بيان ضرورة إضافة وتضمين كل مطالب الإقليم وحقوقه.
في المقابل سعت حكومة الوحدة الوطنية إلى تطويق الأزمة، محذرة من تبعاتها. فأعلن وزير الحكم المحلي بدر الدين التومي التنسيق مع شركة البريقة لتسويق النفط، لزيادة كميات الوقود المتجهة إلى مستودع جنوب البلاد، وهو ما أكدته الشركة في بيان أعلنت عبره إرسال ست منصات تعبئة غاز الطهي الفورية لمستودع سبها النفطي، بالإضافة إلى تحويل مليونين ونصف المليون لتر بنزين من مستودع مصراتة (غرب ليبيا) إلى مستودع سبها (جنوب غرب ليبيا). وأضافت أن فرق العمل تعمل على تجهيز المواقع الخاصة بتنصيب ست منصات لتعبئة غاز الطهي الفورية في بلديات الجنوب الليبي.
وبالتزامن حذرت وزارة النفط والغاز من مخاطر إغلاق الحقول النفطية، منبهة إلى عواقب حدوث أزمة في إنتاج الطاقة الكهربائية، وأيضاً مغادرة الشركاء الأجانب السوق الليبية، والبحث عن بديل. وأضافت: “مثل تلك الحوادث يؤدي إلى فقدان الثقة في ديمومة تزويد السوق العالمية بالنفط الليبي، ليبقى من دون تسويق أو يقل الطلب عليه، واحتمالية فقدان المستوردين للنفط الليبي إلى غير رجعة لتخوفهم من عدم الاستقرار في الإمدادات، وعدم قدرتنا على الإيفاء بالعقود والاتفاقيات”.