انطلاقة 2024 كانت سيّئة بالنسبة إلى الإدارة الأميركيّة. دخل وزير الدفاع الأميركيّ لويد أوستن المستشفى بسبب ما قال البنتاغون إنّها “مضاعفات بعد إجراء طبّيّ اختياريّ في الآونة الأخيرة”. تبيّن لاحقاً أنّ أوستن أجرى عمليّة في 22 كانون الأوّل (ديسمبر) وخرج من المستشفى في اليوم التالي، وقيل إنّه كان يعمل من المنزل. ثمّ شعر بآلام شديدة ليلة 1 كانون الثاني (يناير) استدعت نقله إلى وحدة العناية المركّزة في مستشفى مركز والتر ريد الطبّيّ العسكريّ الوطنيّ في اليوم نفسه. ولم يعلم البيت الأبيض بذلك إلّا في ساعات متأخّرة من صباح 4 كانون الثاني. أخيراً، أعلن البنتاغون الثلاثاء أنّ أوستن يخضع للعلاج بسبب سرطان البروستات.
“هوسبيتال غيت”
72 ساعة تقريباً من غياب التواصل في أعلى الهرم القياديّ هي بالتأكيد فترة طويلة بالنسبة إلى قوّة عظمى تعتمد على الشفافيّة كما على قدرة إطلاق استجابة سريعة لأيّ طارئ. ومن شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط، ثمّة أكثر من برميل بارود ينتظر شرارة الاشتعال. ولم يُحط كبار المسؤولين في البنتاغون والكونغرس ومجلس الأمن القوميّ بأوضاع أوستن إلا يومي الخميس والجمعة. وتشير التقارير إلى أنّ نائبة وزير الدفاع كاثلين هيكس كانت تقضي إجازة في بورتوريكو لكنّ أجهزة الاتّصالات المشفّرة كانت بحوزتها وبدأت تمارس بعض مهامّ أوستن يوم الثلثاء، إنّما من دون أن تعلم السبب إلّا يوم الخميس. ولم تعد إلى العاصمة بعدما استعاد أوستن زمام الأمور يوم الجمعة من داخل المستشفى. ويبقى وقت مغادرته إيّاه غير واضح أيضاً.
بمجرّد أن استعدّ جو بايدن للعودة إلى الحملة الانتخابيّة رافعاً شعار الهدوء على حساب الفوضى حتى انتشر خبر إخفاء أوستن مكانه ووضعه الصحّيّ عن كبار القادة في واشنطن. لم تعد الفوضى على ما يبدو حكراً على حزب دون آخر. بسبب هذه الحادثة التي وصفتها بـ”هوسبيتال غيت” تيمّناً بفضيحة “ووترغيت”، شكّكت إنغريد جاك من صحيفة “يو أس إي توداي” في أنّ بايدن هو فعلاً “الراشد في الغرفة” كما وعد الرئيس الأميركيّين في بداية عهده.
مشكلة قديمة
قارن الإعلام الأميركيّ بين ما حصل مع أوستن وطريقة تعامل وزير الدفاع الأسبق في عهد جورج بوش الابن دونالد رامسفيلد مع جراحة في كتفه لمدّة ساعتين تحت بنج موضعيّ. حينها، لم يجد رامسفيلد حرجاً من تفويض صلاحيّاته لنائبه من أجل إسقاط طائرة معادية محتملة يمكن أن تخرق الأجواء الأميركيّة، قبل أن يستعيدها عقب انتهاء الإجراء. كان يجب أن يمثّل ذلك نموذجاً يحتذى للاضطرابات المستقبليّة المحتملة في سلسلة القيادة، وفق مجلّة “تايم”. بحسب البنتاغون، خضع أوستن لبنج عامّ في 22 كانون الأول فقط.
اللافت بحسب البعض أنّ ما حصل مع أوستن يمثّل مشكلة أوسع وأقدم داخل الإدارة. بحسب الكاتبة في موقع “أنهيرد” بيثاني إليوت، فشلت واشنطن في تنسيق رسالة واحدة إلى الأوكرانيّين حول الطريقة المثلى للهجوم، إلى جانب أنّ التصوّرات الأميركيّة نفسها كانت مختلفة: تفاءل البنتاغون بالهجوم المضاد بينما أعطت وكالة “سي آي إي” أوكرانيا فرصة نجاح تساوي 50 في المئة حداً أقصى. والفوضى نفسها سادت الإدارة مع استقالات لبعض مسؤوليها بسبب اعتراضهم على دعم واشنطن غير المشروط لإسرائيل. (أوستن والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي – أب)
وتساءل كثر عمّن وجّه الغارة الأميركيّة على القائد في الحشد الشعبيّ العراقيّ مشتاق طالب السعيدي يوم الرابع من كانون الثاني قبل أن يشير البنتاغون إلى أنّ أوستن أعطى موافقته على العمليّة الشهر الماضي.
“انهار النظام”
بحسب ما قاله أربعة مسؤولين لمجلّة “بوليتيكو”، ليس بايدن في وارد إقالة أوستن. أبعد من ذلك، ذكر أحدهم أنّ الرئيس ليس حتى في وارد قبول الاستقالة إذا تقدّم بها وزير الدفاع، علماً أنّ الأخير لم يفكّر بذلك على ما قاله الناطق باسم البنتاغون اللواء في القوّات الجوّيّة باتريك رايدر.
في مقابلة مع شبكة “أم أس أن بي سي”، قال المدير السابق لوكالة “سي آي إي” جون برينان إنّه “من الواضح أنّ النظام قد انهار”، مشيراً إلى وجوب تأسيس بروتوكولات راسخة لإرسال إخطارات فوريّة إذا تكرّر الأمر مع كبار المسؤولين الأميركيّين ولإمكانيّة تفويض الصلاحيّات سريعاً (أعلن البنتاغون عن مراجعة بهذا الخصوص ليل الاثنين). أمّا لجهة قضيّة الخصوصيّة، فقد لفت الجنرال المتقاعد من مشاة البحريّة أرنولد بوناريو في حديث إلى “وول ستريت جورنال” إلى أنّ أوستن يفقد الحقّ بالخصوصيّة بما أنّ الرئيس الأميركيّ عيّنه ونال مصادقة الكونغرس. (الرئيس الأميركي جو بايدن إلى جانبه نائبته كامالا هاريس ووزير الدفاع لويد أوستن – أب)
بصرف النظر عن الأسباب التي دعت أوستن إلى هذا التكتّم الشديد، كان مجرّد عدم التواصل بين الرئيس ووزير دفاعه أمراً لافتاً لأنّ على المسؤولَين أن يظلّا على تنسيق مستمرّ وسط الظروف المتقلّبة التي تواجهها الولايات المتحدة. يؤشّر غياب التواصل هذا إلى أنّ موقع أوستن في صناعة القرار غير أساسيّ بحسب الكاتب في موقع “سلايت” فْرَد كابلان.
أزمة خريف 1979
بالنظر إلى خطورة ما حصل مطلع هذه السنة، استعاد الكاتب في مجلّة “أتلانتيك” توم نيكولز منذ نحو 45 عاماً بالاستناد إلى ما كتبه في مذكّراته مستشار الرئيس جيمي كارتر لشؤون الأمن القوميّ زبيغنيو بريجينسكي: عند الساعة الثالثة من صباح 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1979، أيقظ اللواء وليام أودوم بريجينسكي من نومه. كانت قيادة الدفاع الجوفضائيّة في أميركا الشماليّة قد رصدت إطلاق هجوم نوويّ شامل (أكثر من ألفي صاروخ) ضدّ الولايات المتّحدة. بينما همّ بريجينسكي للاتّصال بالرئيس، اتّصلت القيادة مجدّداً معلنة أنّ الإنذار خاطئ. لو مضت واشنطن في قرار الردّ النوويّ لكان توجّب أن يتّصل الرئيس بوزير دفاعه ليؤكّد الأمر وينقله إلى القادة العسكريّين.
يوم السبت، أعلن أوستن أنّه يتحمّل “المسؤوليّة الكاملة” عن إخفاء حالته الطبّيّة. لم ينتج من قرار أوستن ضرر مادّيّ للولايات المتّحدة. من حسن حظّ واشنطن أنّها لا تعيش في عالم 1979. لكنّها لا تعيش في التسعينات كذلك.