سمير عطا اللهكاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
في الصحافة الغربية وظيفتان أساسيتان لم تعرفهما الصحافة العربية وقد لا تعرفهما أبداً. الأولى وظيفة المحامي، الذي تُعرض عليه المواضيع الدقيقة التي قد تُحيل الصحيفة إلى المحاكمة. كلمته، وليست كلمة رئيس التحرير، هي الفاصلة في النشر.
الوظيفة الأخرى هي «مدقق الحقائق»، بعكس المحامي الذي تُحال إليه مواضيع معينة. تُحال إلى المدقق جميع المواضيع دون استثناء. وفي بعض الصحف والمجلات العريقة عراقة لا مثيل لها، يكون التدقيق أحياناً حالة شبه مرضية. أشهر حوادث التدقيق مرّت في مجلة «نيويوركر»، التي يعدّها البعض أهم وأجمل مجلة أسبوعية عرفها العالم. وأنا من هذا البعض منذ ستة عقود، أتمتع كل أسبوع برسومها الكاريكاتورية الساحرة، وتحقيقاتها المطوّلة، التي قد يستغرق إعدادها في بعض الأحيان نحو نصف سنة. لا مشكلة في الأمر. فهي تدفع لصاحبها أجراً يتجاوز خمسين ألف دولار، أو راتب نصف عام.
كان فلاديمير نابوكوف أشهر كاتب روسي باللغة الإنجليزية. وهو صاحب رواية «لوليتا» التي جعلت شهرته تطير في أنحاء العالم في الخمسينات. غير أن أهميته الأدبية كانت في عمله الأكاديمي وأبحاثه المرجعية وتحليله للأدب الروسي، الذي كان هو جزءاً مهماً منها. الشهرة التي نالها جعلته متشاوفاً وعلى عندٍ شديد. ولطالما أدّى ذلك إلى خلافاتٍ ونزاعات مع ناشريه. غير أن طبيعة عمل المدقق تقضي بأن تكون له الكلمة الأخيرة إذا ما حدث خلافٌ ما. وإلا فلا معنى لوظيفته بالأساس. وقعت إحدى أشهر معارك التدقيق بين نابوكوف وشابٌّ من قسم التصحيح في مجلة «نيويوركر». وقد يكون ذلك أمراً متوقعاً وعادياً لأن حجم الكاتب لا يعفيه من الخطأ مثل أي إنسانٍ آخر. الذي لم يكن مألوفاً هو موضوع الخلاف. فقد أرسل الكاتب الروسي إلى المجلة قطعة أدبية يصفُ فيها مرفأً في مدينة جنيف ويُشير إلى جدارٍ عريض أزرق اللون. غير أن المدقق قال إن الجدار رمادي فاتحٌ وليس أزرق على الإطلاق. رفض نابوكوف التصحيح وأصرّ على زُرقة اللون قائلاً: إنه يعيش في سويسرا ويعرف المكان أكثر من أي شخصٍ آخر. وأصرّ المدقق على موقفه وقال إنه ذهب بنفسه للتأكد من الأمر. حاول رئيس التحرير الوصول إلى حلٍّ وسط بين الأكاديمي العجوز والمصحح الشاب. عبثاً حاول. نابوكوف رأى في المسألة إهانة شخصية لهالته وسمعته، والفتى العنيد رأى في موقف الروائي الشهير خروجاً على قواعد الصواب وأصرّ على كرامة وظيفته. وفي النهاية، حُلت المسألة بأن سحب نابوكوف المقال، وفاز الشاب بالنقاط.