
عقد الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والإيراني إبراهيم رئيسي، في نهاية الاجتماع الثامن لمجلس التعاون التركي- الإيراني الرفيع المستوى، مؤتمراً صحافيا مشتركاً، وذلك بعد توقيع 10 اتفاقيّات جديدة بين البلدين في قطاعات الطاقة والمناطق الحرة والتعاون الإعلامي والنقل والصناعة والتكنولوجيا وأكاديميات الشرطة، وكذلك الاعتراف المتبادل برخص القيادة للبلدين وتعيين حراس أمن طيران مسلحين من قبل الحكومتين. وعلى الرغم من تركيز الطرفين على الملف الفلسطيني وشجب الحرب الإسرائيلية على غزة، إلّا أن الاختلاف في رؤى وتصوّرات البلدين في الملف الفلسطيني كان واضحاً في لغة وسقف خطاب الرئيسين. طهران وأنقرة اتفقتا على دعم غزّة لكن بخطابين مختلفين، فقد اتّسمت كلمة الرئيس أردوغان بالحرص وضبط الكلمات فيما وصفه الإعلام التركي بـ”اللهجة المحسوبة” خلال تعرّضه إلى إسرائيل وحلفائها، بينما حافظ ضيفه إبراهيم رئيسي على النبرة المعتادة في الخطاب الإيراني ضد “الكيان الصهيوني”. بدا أردوغان حريصاً أكثر من أي وقت على إظهار التفاوت في الموقف بين بلاده التي كانت أول دولة إسلامية تعترف باسرائيل وبين إيران التي لا تزال ترفض وجود دولة إسرائيل على الخريطة. على الرغم من الاتّهامات القاسية التي اعتاد الرئيس أردوغان وكبار مسؤوليه الحكوميين والحزبيين توجيهها إلى إسرائيل، إلا أن سهامهم بقيت مركّزة على بنيامين نتنياهو وحكومته وسياساتها اليمينية المتطرّفة في اختلاف واضح عن حجم ووجهة الانتقادات الإيرانية التي تطال إسرائيل ككل بغض النظر عن اسم رئيس وزرائها أو حزبه أو حتى سياساتها القريبة. خلال المؤتمر الصحافي الذي خلا من أسئلة الصحافيين، قال أردوغان: “ناقشنا ضرورة إنهاء الهجمات الإسرائيلية غير الإنسانية على غزة في أقرب وقت ممكن واتّخاذ خطوات عاجلة نحو إقامة سلام عادل ودائم”، مضيفاً أنهما أكّدا مجدداً “دعمهما للقضية العادلة لفلسطين” وقررا مواصلة التعاون بشأن هذه القضية. في المقابل، استمرّت العلاقة التجارية بين أنقرة وتل أبيب، بل وارتفعت وتيرتها بعد انفجار حرب غزّة، مدفوعة بميّزات الأمان والاستقرار الذي يسود الطريق البحري بين البلدين مقارنة مع الوجهات الآسيوية الأخرى، في ظل تصاعد هجمات الحوثيين المدعومين من إيران في البحر الأحمر.

التباينات في الموقفين التركي والإيرانيويلخّص الخبير التركي المتخصص في شؤون إيران وروسيا والقوقاز، د. سيركان كيجيجي، في حوار مع “النهار العربي” التباينات في الموقفين الإيراني والتركي من إسرائيل شارحاً أنه “في نهاية الاجتماع الذي عقد في أنقرة قبل حوالى شهرين بين وزير الخارجية الإيراني أمير عبداللهيان ونظيره التركي هاكان فيدان، شدد الأول على أن العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة يجب أن تتوقف وطلب وقفاً فورياً لإطلاق النار، لكنه طالب أيضاً بفرض حظر تجاري على إسرائيل. وردّاً على ذلك، ذكر فيدان أن ذلك مرتبط بحجم الضحايا المدنيين”. ويرى الباحث التاريخي والسياسي كيجيجي أن “زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي التقى آخر مرة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في طشقند، عاصمة أوزبكستان، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تكتسب أهميّتها من كونها أول زيارة رسمية له في العام 2024”. ويضيف: “بما أن عدد الضحايا المدنيين في غزّة شهد ارتفاعاً كبيراً منذ ذلك الحين، يستمر رئيسي في طرح الحظر التجاري الذي تم طلبه على مستوى وزراء الخارجية في الاجتماع السابق”. في كلمته في المؤتمر الصحافي شدّد رئيسي على ضرورة اتّخاذ موقف رادع ضد “النظام الصهيوني”، قائلاً إن “قطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع النظام الصهيوني سيكون فعّالاً في وضع حدّ للقمع والقتل الذي يمارسه هذا النظام”. وأضاف رئيسي أن “الموقف الرادع من جانب الدول التي لها علاقة مع النظام الصهيوني سيكون فعّالاً في وضع حد لجرائم القتل”، في إشارة إلى المطلب الإيراني الواضح من أنقرة، والمعزز بعدم إقامة طهران لأي نوع من العلاقات مع تل أبيب. ويشير كيجيجي إلى أن التجارة البحرية لا تزال مستمرة بين إسرائيل وتركيا و”يتم نقل النفط الأذربيجاني إلى إسرائيل عبر الموانئ التركية، ومن المعروف أن بعض المواد الخام الإستراتيجية التي تحتاجها إسرائيل مثل الفولاذ يتم توفيرها أيضاً من خلال الخط البحري بينهما”. يقول كيجيجي إن “التحرّك المباشر الإيراني في غزّة قد يجبر الحكومة في تركيا على اتخاذ بعض القرارات الصارمة”. ويضيف: “ستجري انتخابات محلّية في تركيا في 31 آذار (مارس) 2024، و”خطاب غزة” فعّال للغاية في هذه العملية، خاصة بالنسبة لقاعدة حزب العدالة والتنمية الحاكم”. قد تكون حساسية القضية الفلسطينية بالنسبة لليمين الديني في تركيا إحدى الأسباب التي دفعت الرئيس التركي إلى استخدام خطاب مشابه للخطاب الإيراني في ما يتعلق بـ”حماس” حينما رفض إطلاق صفة الإرهاب على الحركة الإسلامية واصفاً عناصرها بـ”المجاهدين”. لكن، مع ذلك، يحرص أردوغان على عدم الظهور في الصورة نفسها مع إيران في نظر الغرب، خاصة مع إشارات تعافي العلاقات التركية- الأميركية بعد موافقته على عضوية السويد في حلف الأطلسي، وتزايد آماله وتطلّعاته بوصول الرئيس السابق دونالد ترامب إلى الحكم. أولوية تركيا جذب الاستثماراتتكتسب العلاقات التركية – الإيرانية كمثيلتها التركية – الروسية بعداً تاريخياً تأسس على قاعدة “لا عداء ولا تحالف”، وقد شهدت تطوّراً مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، بعد عقود من التضارب في السياسات وحتى الإيديولوجيات خلال فترة الوصاية العسكرية في تركيا. نجح الطرفان في إيجاد مساحة مشتركة في السياسات ليصبحا قادرين على التنسيق في ما بينهما في العديد من الملفّات، بينما حافظا على البعد الطائفي، الذي برز كعامل مساعد في اختراق العديد من الساحات الجغرافية بالنسبة للقوّتين الإقليميّتين. ووفق كيجيجي “تتطور العلاقات بين تركيا وإيران في العديد من المجالات، وليس فقط في سياق غزة- فلسطين. وبينما يبدو أن تركيا وإيران أقرب إلى التعاون في بعض المجالات، فإنهما يتنافسان بشكل واضح في معظم المجالات الأخرى”. ويشرح كيجيجي أنه “في المسألة السورية، وعلى عكس مواقفهما في غزة، تقف تركيا وإيران على جبهات متنافسة. وبالنظر إلى نفوذها وهيبتها على الميليشيات السورية، يمكن ملاحظة أن إيران تحاول تعزيز موقعها السياسي والعسكري في سوريا منذ بداية الصراع من خلال محاولة إنشاء ممر أمني خاص بها”. ويضيف: “علاوة على ذلك، تهدف إلى الضغط على السعودية، التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة، من خلال نفوذها على الحوثيين في اليمن”. في المقابل، يقول كيجيجي أنه “ليس من المستغرب أن نقول إن العلاقات بين تركيا وقطر تطوّرت وستتطور في الغالب في المجالين العسكري والتجاري، لأن الوضع الاقتصادي في تركيا يشجّع رجال الأعمال القطريين على الاستثمار في تركيا، خاصة قبل الانتخابات المحلية، ولا ننسى أنه تم افتتاح مقر قيادة القوات المشتركة التركية وسمي هذا المقر بثكنة خالد بن وليد”. وأضاف: “باتت العلاقات بين تركيا والإمارات العربية المتحدة وبسبب الظروف السياسية المتغيرة والتوازنات الاقتصادية، تسير نحو الأمام. وتم إبرام اتفاقيات جديدة في المجالين الاقتصادي والأمني، وقد اكتسبت المفاوضات بين الإمارات العربية المتحدة وتركيا زخماً مؤخّراً، وجرت مفاوضات على المستوى القيادي بينهما”. ويعتبر كيجيجي أن “الدافع الأهم وراء جهود تركيا لإقامة علاقات جيدة مع كل دول الخليج هو الرغبة في جذب رؤوس الأموال الخليجية ذات التوجّه الاستثماري إلى تركيا، بعد ذلك يأتي الأمن والمجالات الأخرى”. هذه الرغبة تفسّر تركيز الرئيس التركي بشكل أكبر ولوقت أطول على العناوين الاقتصادية وحجم التجارة مع إيران في كلمته خلال المؤتمر الصحافي. إيران تخشى من تبعات “ممر زانكيزور”وعلى عكس تركيا، التي حصرت تأثيرها على المجتمعات السنّية في المنطقة، فإن طهران، إلى جانب اعتمادها على المجتمعات الشيعية في العراق ولبنان واليمن بشكل خاص، نجحت نسبياً في تخطّي العامل الطائفي في كل من ملفي سوريا وفلسطين. وبينما اصطدمت أنقرة بردّ فعل “سنّي” في المنطقة، بسبب سياسات “العثمانية الجديدة” التي اتّبعتها مع انطلاق الربيع العربي، اتّسمت السياسات الإيرانية بالاستمرارية والثبات ما أكسبها قدرة أكبر على التأثير وإحداث اختراقات في العديد من الملفّات الحسّاسة في المنطقة. وعلى الرغم من نظام حكمها الثيوقراطي فإن البراغماتية والواقعية السياسية التي اتّسمت بها السياسة الإيرانية منحتها ميزة المرونة التي ساعدتها في تخطي العديد من العقبات، ولعل موقف إيران الأقرب إلى يريفان “المسيحية” من باكو “الشيعية” في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان أحد أبرز أمثلة المرونة المذكورة. وتنبع سياسات طهران تجاه أذربيجان والتقرّب من أرمينيا من دوافع ترتبط بالسياسة الداخلية. يشكّل الأذريين أكبر أقلّية في البلاد، وهم لا يخفون قربهم وميولهم من أذربيجان، وقد زادت المشاعر القومية لدى تلك الأقلّية قوة بعد انتصار باكو في كراباخ حيث أصبحت أذربيجان قوية وقادرة على انتهاج سياسة توسعية. تخشى إيران من طغيان الناحية القومية الأذرية على الناحية الدينية الشيعية لدى هذه الأقلّية، ما دفعها إلى اتّخاذ مواقف بناء على الواقعية السياسية في الصراع بين باكو ويريفان. ويشرح كيجيجي أن “القوقاز قضية جديدة نسبياً تخلق ديناميكيتها الخاصة مقارنة بالعديد من القضايا الأخرى. جذب الدعم بالمعدات العسكرية الذي قدمته تركيا وإسرائيل لأذربيجان الكثير من الاهتمام. لا يمكن إنكار أن التأثير المضاعف للطائرات من دون طيار كان حاسماً في هذه الحرب، كما تم الحديث عن وجود بعض المعسكرات الإسرائيلية في جنوب أذربيجان، وقيل أيضاً أن الجيش الأذربيجاني تلقّى تدريبات في بعض المجالات التقنية على يد خبراء وضباط إسرائيليين”. ويقول كيجيجي، “من وجهة نظر إيران، فإن إسرائيل التي أصبحت حاضرة في شمال نهر آراس (الحدود الإيرانية – الأذربيجانية) تشكّل خطراً جدياً عليها، وخاصة في ما يتعلق بالقضايا العرقية”. يصرّ الرئيس أردوغان على إنشاء “ممر زانكيزور”، الذي سيربط تركيا بأذربيجان من خلال جمهورية ناختشيفان الأذرية المتمتّعة بالحكم الذاتي، فيما تعارض إيران المشروع وتعتبره “تهديداً للأمن القومي لدول المنطقة” وبأنّه “سيمهد الطريق لوجود الناتو في المنطقة”. ويرى كيجيجي أن “الممر سيوفّر ميزة لتركيا في العديد من النواحي، ولكن، وكما أكدت إيران مراراً، فإنه وتحت تأثير هذا الممر قد يندلع صراع عرقي في المناطق الشمالية من إيران، قد تطور إلى موجة من الهجرة باتجاه الغرب في حال تحوّل الصراع إلى حرب أهلية.

