شباب سوريا عالقون بين باب الجامعة وسوق العمل

5

جامعة حلب في شمال سوريا

وسط الظروف والحرب التي مرت على سوريا، لم تتوقف الجامعات السورية عن العمل والتعليم، على الرغم من تراجع تصنيفها العالمي لأسباب علمية وسياسية ولوجستية وأمنية.

بعض الجامعات شهدت حوادث متعددة كالتظاهرات في جامعة حلب، والمشاكل الأمنية في جامعة دمشق، وفقدان السيطرة الحكومية على جامعة إدلب، وتوقف جامعة الفرات، فيما ظلت جامعة البعث في حمص خارج الأحداث رغم أنّها تقع في واحدة من أكثر المدن التي شهدت معارك ضارية، ويرجع السبب في ذلك للنجاح في إحكام القبضة السياسية والأمنية على مفاصلها المتعددة بالتوازي مع استمرار العملية التعليمية داخلها، ما جعلها ملجأ لآلاف الطلبة الوافدين من الجامعات المتضررة الأخرى خلال الحرب، سواء من الجامعات الحكومية أم الخاصة.

الأحداث الأمنية وسواها كانت محطّ شغلٍ متواصل على المستوى الرسمي خلال الحرب لإمساك زمام الأمور في الجامعات ودمجها في المجتمع بصورة أكثر فاعلية على مستويين، الأول ضمان التحصيل والدور العلمي، والثاني تعزيز الترابط الذي يمثل الصورة الرسمية لمجريات الأمور من وجهة نظر الحكومة بين الطالب وأسرته، عبر ضمان بيئة آمنة له خلال دراسته، ما يجعل احتمالية انخراطه في أعمال مناوئة للحكومة شبه معدوم، ومن جهة أخرى الاستناد إلى رغبته في إتمام التحصيل العلمي كعامل إيجابي في وجه الهجرة الكيفية منها والقسرية.

ما هو أبعد من العلم

يكفي القول إنّ تعداد طلبة جامعة دمشق خلال عام 2017 تخطى 400 ألف، وفي حمص للعام ذاته أكثر من مئة ألف طالب، ومثلهم في حلب تقريباً. فالحديث هنا عن أكثر من نصف مليون شابة وشاب موجودين في الجامعات الحكومية فقط، والأرقام لا تتوقف عن النمو عاماً بعد آخر.

يمكن الاستقراء عبر الرقم أهمية عدم توقف العملية التعليمية، بل وبذل السلطة الكثير من الجهود في سبيل تأمين الجامعات بالقدر المستطاع الذي يضمن لها الدخول إلى منزل نصف مليون أسرة بطرق وأساليب متعددة، تمثل ضمانة في نقل الطلبة ما بين بداية تعليمهم وتخرجهم إلى البر الآمن الذي يحجبهم عن الانخراط في أعمال تشكل تهديداً.

رغم الحرب

“لم تكن شروط الدراسة سهلة. كان القصف يحيط بدمشق والقذائف تمطر أحياءها كل ساعة، كان التوجه من منطقتي التضامن التي تشهد توتراً إلى الجامعة في قلب العاصمة طريقاً محفوفاً بالمخاطر، كانت سنوات عجافاً”، هكذا تقول نور إسماعيل الجامعية التي تخرجت من كلية الآداب بدرجة امتياز خلال حديثها مع “النهار العربي”.

وتكمل: “ذقت مرارة التهجير مرةً، وفقدت عمي وابن عمي في الحرب، وكثير من المصائب نزلت فوق رؤوسنا، ولكنّ جنوحي للعلم جعل كل ذلك لا يقف عائقاً في وجهي، ولا أنكر أنّ الجامعة وقفت معي غير مرة لكوني طالبة متفوقة وذللت كثيراً من المصاعب التي اعترضتني”.

نور، التي تحصلت على عملٍ في شركة خاصة عقب تخرجها بعام ونيف، تعتقد أنّ المكان الذي تشغله الآن هو خيارٌ مرحلي ممتاز في ظل تردي سوق العمل والتزايد المتنامي في معدل البطالة. خصوصاً أنّها حصلت على تكريمات عدة من إدارتها العامة، ومثلت شركتها في محافل دولية عدة تمكنت خلالها من إبراز صورة مشرقة عن بلدها الذي تقول إنّ العالم كلّه كان يعتقد أنّه مدمر بالكامل.

من سوريا إلى العراق

سامح عبد الغفور الذي هُجِرَ مع عائلته مع بداية الحرب من مدينة دوما في ريف دمشق إلى العاصمة دمشق، أكمل تعليمه الثانوي هناك ودخل كلية الهندسة في جامعة دمشق ليتخرج منها متفوقاً أيضاً.

يقول: “لم يكن مشوار الدراسة سهلاً أبداً، ولم تكن الطريق أمامي معبدةً بالورود، على العكس، فقد كان القلق طاغياً ومهيمناً على مجمل سنواتي تلك، فيكفي التفكير أنني مهجر، وبأنّ بقية أسرتنا ظلّت هناك، ورفاق الطفولة والحي وغيرهم… ولكن في لحظة ما فإنّ الاندماج في شكل المجتمع الجديد سيطغى عاجلاً أم آجلاً”.

ويضيف: “بالطبع المناهج الدراسية الجامعية في سوريا معقدة للغاية، ومن وجهة نظري – رغم ذلك – فإنّها تخدم في الحياة المهنية العلمية، ولكن يعاب عليها كثيراً ضخامتها غير المبررة، ومزاجية مدرسيها، وخضوعهم لإملاءات تتعلق بطلبة بأعينهم، أو جنوح آخرين لفتح باب الرشوة، وهو ما كان يؤثر على الدفعة بأكملها، فكان لدينا زملاء لا يحضرون، ولا يعرفون شيئاً عن المنهج، ولكنهم كانوا ينجحون بدرجات عالية”.

مؤخراً حصل عبد الغفور على عقود إنشاء أبنية نموذجية في العراق، وكان ذلك بعد اختياره من بين مهندسين كثر. وجاء اختياره بسبب تميزه وقدرته على الإنجاز وامتلاكه معرض أعمال يقول عنه: “ليس من السهل أن تبني سيرةً وظيفية في سوريا وتنطلق بها إلى الخارج، ولكن ما أعرفه جيداً أنني حصلت على هذا الامتياز من بين مئات المهندسين المقترحين، وهذا لم يأت من العدم، بل هو نتاج دراسة حقيقية مكثفة أدين بها لجامعتي أولاً، وأهديها لبلدي ثانياً”.

المجتمع المصغّر

وفي حمص، مثلت جامعتها انفراداً حقيقياً في لمّ الشمل، فهناك كان يلتقي طلاب من مختلف أحياء المدينة، الأحياء التي فقدت الحكومة السيطرة على أكثر من ثلثيها في عام الحرب الثالث، فجمعت الكليات طلبة يمثلون توجهات أيديولوجية ممعنةً في التباين والشدّ والجذب واختلاف الرؤى، وإن كان ذلك غالباً ما تتم مواربته من قبل طلبة كثر على سبيل “التقيّة”.

محمد نصّور، واحد من أولئك الطلبة الذي كان يمضي من حيّه الزهراء إلى الجامعة في حي عكرمة تحت وابل من القنص والرصاص والقذائف والمفخخات. مرّت عليه – بحسب ما يذكر – أيامٌ كان يودع فيها أهله في طريقه للجامعة، التي لم تتوقف يوماً عن العمل.

يقول: “كان حيي محاصراً من كل الاتجاهات باستثناء منفذ وحيدٍ عبر حي فيروزة، وكان المرور فيه والالتفاف حول المدينة للوصول إلى الجامعة يحتم علينا المرور تحت القنص والقصف وكل المخاطر المتعلقة باحتمالية الخطف، ولكن حدث أنّ الناس كلهم شاؤوا التحدي، فلا أذكر أنّ الجامعة عموماً كانت خاليةً من الطلبة”.

ويضيف: “كانت الجامعة مجتمعاً أسرياً متكاملاً، ورغم كل أصوات القصف ومخاطر الطريق، لكنّ العملية العلمية استمرت، وتباعاً صار الحي تلو الآخر آمناً والطريق إلى الجامعة سالكاً. وبالتزامن لم تتوقف المنافسة في الكليات بين الطلبة، كانت الدراسة تفرض نفسها بقوة، فنغيب عن واقعنا ضائعين بين كمّ المحاضرات والتحضير للامتحانات. نعم، لم يكن الوضع مثالياً، ولكنّه كان كفيلاً بألّا تضيع سنوات من عمرنا دون دراسة، تخيل لو أغلقت الجامعات أبوابها! لكنّا الآن أمام واقع مختلف”.

بعدما أنهى نصور دراسته سافر إلى ألمانيا، هناك حيث يتجهز للمشاركة قريباً في مؤتمر بحثي علمي يشارك فيه أفضل الكفاءات بحسب المجال، بعدما تمكن نصور من تقديم أبحاث جامعية نموذجية عدة نالت استحسان المجتمع العلمي ولفتت نظرهم حيث هو الآن وعادت على بلده بالثناء.

حافز الإنجاز

رغم كل ما شاب العملية التعليمية من تقهقر ومشاكل وصعود أشخاص على أكتاف آخرين وتفشي الفساد في مفاصل كثيرة، وفوق ذلك عدم تمكن السوق السورية من احتواء الكفاءات ودفعهم للهجرة في مرات كثيرة، إلا أنّ البلاد التي تشهد حرباً ضروساً ما زالت قادرة على تخريج أجيال تباهي بها حول العالم، فإنجازات السوريين في الخارج تكاد تكون كثيرةً للغاية، كثيرة لدرجة يصعب حصرها وإيجازها.

ما تداركته السلطة لأسباب متعددة في الشأن التعليمي لم تتمكن من إكماله في تعزيز شروط العمل داخل سوريا لاحتواء المتخرجين الذين يحتاجون دفعاً مادياً ومعنوياً ومكانياً لإخراج طاقاتهم التي تظلّ في مرات كثيرة حبيسة منازل عُلِقَ على جدرانها شهادات تؤهل حامليها لتقديم أفضل الإبداعات والخوض حتى تحقيق أهم المنجزات.

ولكن يسأل الكثيرون: أين الدافع في عملٍ متوسط مرتبه عشرة دولارات؟ ما يجعل الحالة النفسية لهؤلاء المتخرجين ليست بأفضل حال، دافعةً إياهم للسفر وخوض تجارب جديدة تحفظ قيمتهم العلمية. ورغم ذلك، فهذا لا يعني بالمطلق أنّ الجميع سواسية، فلبعض السوريين في الداخل إنجازاتهم أيضاً، في المجال التعليمي نفسه، والطبي، والهندسي، وغيره.

التعليقات معطلة.