بلال وهاب و جاكسون دورينغ
في اتصال أجراه الرئيس ترامب في 24 تشرين الثاني نوفمبر بنظيره التركي رجب طيب أردوغان، أُفادت بعض التقارير بأن الرئيس الأمريكي تعهد بوقف تزويد الأسلحة لـ «وحدات حماية الشعب» السورية الكردية، وفقاً لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو. وقد أبدى المسؤولون الأمريكيون تحفّظهم بعض الشيء حول هذه التقارير مشيرين إلى أن وقف تزويد الأسلحة لن يكون فورياً وأن الحدّ من إرسال الأسلحة سيكون تدريجياً. لكن جاويش أوغلو أصرّ على أن الوعد كان واضحاً وصريحاً قائلاً إن أنقرة ترغب بـ”تطبيقه عملياً”.
وقد ساعدت الولايات المتحدة «وحدات حماية الشعب» منذ عام 2015 وتسلّح بشكل مباشر «قوات سوريا الديمقراطية» التي تقودها هذه «الوحدات» منذ أيار/مايو 2017. وفي المقابل، كانت «قوات سوريا الديمقراطية» أبرز شريك لواشنطن في المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا، حيث استولت على “عاصمة” الجماعة الإرهابية في الرقة بعد معركة دامت أربعة أشهر وانتهت في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ومنذ ذلك الحين، أشار مسؤولو الدفاع إلى أن الولايات المتحدة ستواصل انخراطها العسكري في سوريا، لكن تصريحات أخرى صدرت عن الإدارة الأمريكية تبدو وكأنها تشير إلى حدوث تراجع وشيك. وفي الأوّل من كانون الأول/ ديسمبر، أعلن وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس أنه سيتمّ سحب وحدة المدفعية التابعة للبحرية (“المارينز”) التي تساند «قوات سوريا الديمقراطية». كما وصف حقبة ما بعد الرقة بأنها عملية انتقال من “جهود بقيادة عسكرية” إلى “حل دبلوماسي”. وعلى نحو مماثل، أصدر الرئيس ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين بياناً مشتركاً الشهر الماضي أعادا فيه التأكيد على أن محادثات السلام الجارية في جنيف بوساطة الأمم المتحدة هي السبيل للمضي قدماً.
وإذا أوقفت واشنطن بالفعل تسليح «قوات سوريا الديمقراطية» – وفعلت ذلك بطريقة متسرعة أو غير حكيمة – فقد تواجه اتهامات بالتخلي عن حلفائها الأكراد مرة أخرى، لا سيما بعد بقائها على الحياد خلال أزمة استفتاء الأكراد العراقيين التي اندلعت في الآونة الأخيرة. كما أن التعامل مع مسألة «قوات سوريا الديمقراطية» بشكل خاطئ قد يسمح لإيران بتحقيق مكاسب كبيرة من التقاعس الدولي في مجال آخر. ويؤكّد التصوّران عدم موثوقية أمريكا كحليف في الشرق الأوسط.
ولتجنب هذه النتائج، سيتعين على المسؤولين الأمريكيين إدارة عدة مهام صعبة بحذر في آن واحد، وهي: إصلاح العلاقات مع أنقرة، والحفاظ على الانتصارات والتحالفات التي تحققت بشق الأنفس في سوريا، والسعي إلى التوصل إلى تسوية سياسية للحرب قابلة للتطبيق. يجب على الأكراد السوريين أن يضطلعوا بالدور المنوط بهم من خلال حكم منطقة “روج آفا” التي أعلنوا استقلالها الذاتي بطريقة أكثر شمولية وتجنب الإجراءات التي تهدد تركيا.
شراكة “مؤقتة”
في 17 أيار/مايو، وصف نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي جوناثان كوهين العلاقة مع «وحدات حماية الشعب» بأنها “مؤقتة وانتقالية وتكتيكية”، لافتاً إلى أننا “لم نقطع وعداً بأي شيء لـ «وحدات حماية الشعب»”. وعلى نحو مماثل، لا تعلّق هذه الجماعة آمالاً سياسية غير واقعية على الولايات المتحدة، لكنها تولي اهتماماً خاصاً للحفاظ على علاقات براغماتية مع جهات فاعلة قوية أخرى في سوريا، بما فيها نظام الأسد وروسيا.
ومنذ اندلاع الحرب واستيلاء تنظيم «الدولة الإسلامية» على مساحات شاسعة من العراق وسوريا، امتنعت واشنطن عن التدخل مباشرة، فعمدت عوضاً عن ذلك إلى تسليح شركائها المحليين وتدريبهم وتوفير الدعم الجوي لهم لتحقيق الهدف العسكري المحدد بدحر تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد باءت هذه الجهود بالفشل في البداية، بما في ذلك البرنامج الذي أطلقه البنتاغون بقيمة 500 مليون دولار الذي أسفر عن تشكيل قوات عربية صغيرة غير فعالة كانت عرضة للانشقاقات. وفي نهاية المطاف، ألغت إدارة أوباما هذا البرنامج وسعت إلى دعم قوات تتمتع بقدرات أكبر. وقد برز الأكراد في مطلع عام 2014 على أنهم على مستوى التحدي حيث دافعوا عن كوباني التي وضعها تنظيم «الدولة الإسلامية» تحت الحصار لمدة ستة أشهر.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2015، قامت «وحدات حماية الشعب» بتأسيس «قوات سوريا الديمقراطية»، وهي منظمة مظلة جديدة تقودها وحدات كردية وتضم جماعات عربية ومسيحية وآشورية. وسرعان ما بدأ قادة «قوات سوريا الديمقراطية» بتنسيق عملياتهم مع الجيش الأمريكي على نحو منتظم، وأثبت تسليح الجماعة أنه كان العامل الأهم لدحر تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي تُوّج بتحرير الرقة الشهر الماضي.
غير أنه في الوقت نفسه، كان للدعم الأمريكي لـ «وحدات حماية الشعب»/«قوات سوريا الديمقراطية» تداعيات شديدة الوطأة على العلاقات الثنائية مع تركيا، لا سيما بعد اتخاذ القوات الأمريكية تدابير لحماية وحدات «قوات سوريا الديمقراطية» من الهجوم التركي (على سبيل المثال، نقل عناصر هذه «القوات» بآليات ترفع العلم الأمريكي واستحداث منطقة عازلة بين الحدود التركية والأراضي الخاضعة لـ «قوات سوريا الديمقراطية»). وتعارض أنقرة بشدة تأسيس كيان سياسي كردي يخضع لسيطرة «وحدات حماية الشعب» في سوريا، معتبرةً أن هناك علاقات داخلية تربط هذه «الوحدات» بـ «حزب العمال الكردستاني»، وهي جماعة صنفتها الولايات المتحدة بالإرهابية وكانت قد شنّت حرباً متقطعة على الحكومة التركية لعقود من الزمن. كما تعارض أنقرة باستمرار منح الأكراد مقعداً على طاولة المفاوضات مع أطراف سورية أخرى. وعلى الرغم من أن المسؤولين الأمريكيين لا يعتبرون أن «وحدات حماية الشعب» شبيهة بـ «حزب العمال الكردستاني»، إلا أنهم يتوخون الحذر إزاء الأيديولوجية القومية الكردية لهذه الجماعة، مدركين أنها لن تلقى أبداً قبولاً في المناطق ذات الأغلبية العربية والمحافظة في سوريا.
وفي نهاية الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، نظمت السلطات الكردية انتخابات مجالس محلية في روج آفا في مسعى لدعم استقلالها الذاتي واكتسابها الشرعية وانتقالها من المواجهة إلى الحكم وكذلك تجنّب النزاعات العرقية مع العرب المحليين. ومن المفترض ان تتوج العملية الانتخابية المكونة من ثلاث مراحل بإقامة برلمان إقليمي في مطلع العام المقبل، غير أن الاقتراع أثار توترات مع تركيا ونظام الأسد.
إدارة عملية الانتقال
يوفر قرار إدارة ترامب الرامي إلى تنسيق حل دبلوماسي مع روسيا، وربما وقف تسليح «قوات سوريا الديمقراطية» فرصاً جديدة لإنهاء الحرب. وتلمّح واشنطن إلى أنها ستبقى منخرطة في الشأن السوري حتى بعد الهزيمة العسكرية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، رغم أن ذلك لن يكون بشكل مطلق. كما تشير الخطوات الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة تعيد التموضع مع كبار الحلفاء الوطنيين بدلاً من الجهات الفاعلة من غير الدول. وقد ذكر وزير الدفاع ماتيس أن وقف عمليات نقل الأسلحة إلى «قوات سوريا الديمقراطية» قد يسمح لواشنطن بإعادة تخصيص الأموال لبرامج تستهدف الاستقرار وإعادة الإعمار وتتطلب تعاون الدول المجاورة لسوريا. ومع ذلك، فإن أي انتقال من الدعم العسكري إلى الدعم السياسي يجب أن يُدار بحذر.
وعلى الرغم من أنه لا يتعيّن على الولايات المتحدة الاختيار بين تركيا و«قوات سوريا الديمقراطية»، فإن إقامة علاقات أفضل مع أنقرة ضرورية لتحقيق الاستقرار فى سوريا، لا سيما إذا اكتسبت تركيا مزيداً من النفوذ من خلال تعاونها مع روسيا. وكانت أنقرة قد نأت بنفسها مؤخراً من خلال اتخاذ مواقف متشددة حيال مستقبل أكراد سوريا، وبالتالي يمكن للإستراتيجية الأمريكية المقترحة لتحويل المساعدات العسكرية نحو دعم الاستقرار أن تساعد على تهدئة مخاوف أنقرة من الظهور العسكري القوي التأثير في روج آفا. غير أن هذا الأمر لن يكون سهلاً نظراً للتوترات الأمريكية – التركية حول قضايا أخرى تتخطى سوريا، بما في ذلك الأزمة الدبلوماسية بشأن المتهم بتدبير الانقلاب في تركيا فتح الله غولن.
أما بالنسبة إلى الأكراد، فسيشعرون حتماً بالغضب إزاء التخلي عنهم، خاصة إذا كانت تركيا قادرة على استهداف أجزاء من روج آفا بحرية. وسيكون سحب الدعم العسكري أكثر إيلاماً إذا تم سحب الدعم السياسي أيضاً. وهكذا، حتى ولو أوقف الجيش الأمريكي تسليح «قوات سوريا الديمقراطية»، فإنه يجب أن يظل منخرطاً في شمال شرق سوريا من أجل حماية عملية الانتقال – وهي من العناصر الضرورية ضمن أهداف واشنطن الرامية إلى منع بروز تنظيم «الدولة الإسلامية» من جديد.
إصلاح العلاقات القديمة والاستفادة من العلاقات الجديدة
على الرغم من انحسار الجهد العسكري ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، لا يزال احتمال نشوب صراعات أخرى في سوريا قائماً. ويشمل ذلك صراعات عرقية بين الأكراد والعرب، ومزيداً من الانتفاضات من قبل أولئك الذين هم في الغالبية العربية السنية الذين لا يزالون يشعرون بالغضب إزاء الأسد وداعميه الروس والإيرانيين. وبالتالي، لا بدّ من أن ينبثق أي حل دبلوماسي للحرب من تجنّب المواجهات بين مختلف الفصائل المسلحة والتوفيق بين مناطق النفوذ. وستلجأ كل من روسيا وإيران وتركيا إلى وكلائها من أجل التأثير على هذه العملية، ومن هنا تأتي أهمية الحفاظ على العلاقات الأمريكية مع الشركاء المحليين. وكانت طهران تستخدم «حزب الله» وغيره من الميليشيات الشيعية لدعم نظام الأسد وإنشاء جسر بري عبر جنوب سوريا، مهددةً الهدف الإقليمي للولايات المتحدة الرامي إلى احتواء الهيمنة الإيرانية. وتستمر السعودية من جهتها في دعم قوى المعارضة العربية السنّية المتمسكة بمواصلة القتال ضد الأسد. أما تركيا، فقد عملت مع بعض جماعات المتمردين من العرب والتركمان داخل سوريا، لذلك لا يمكن استبعاد المزيد من التدخلات.
ومن شأن وقف المساعدات إلى «قوات سوريا الديمقراطية» أن يقوّض فرص أمريكا في هذه المعركة من أجل ممارسة أي نفوذ في سوريا ما لم تكمّله إستراتيجية واضحة لحقبة ما بعد تنظيم «الدولة الإسلامية». ولا بدّ من توافر مساعي الحوكمة وفرض النظام وإعادة الإعمار المكلفة لمنع عودة الجهاديين. فضلاً عن ذلك، إذا أُرغمت «قوات سوريا الديمقراطية» على التراجع في ضوء انخفاض الدعم الأمريكي، فمن المرجح أن يملأ نظام الأسد و «حزب الله» الفراغ الناتج. وهذا الاحتمال لا يصبّ في مصالح واشنطن على المدى الطويل، أو حتى أنقرة. وبالتالي، سيكون توفير بعض المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية للأكراد ضرورياً في المستقبل المنظور.
إلا أن مثل هذه المساعدة يجب أن تكون مشروطة بالتزام «وحدات حماية الشعب»/«قوات سوريا الديمقراطية» بأن تحكم بطريقة ديمقراطية وشاملة وأن تعالج التهديدات المتنامية من وجهة نظر تركيا. وفي الحالة الأولى، يتوقّف الاستقرار على المدى الطويل في روج آفا والمناطق المتاخمة [لها] على شعور السكان غير الأكراد بالقوة والانتماء، وليس بأنهم واقعون تحت احتلال القوات الكردية. وفي الحالة الأخيرة، يجب على الأكراد السوريين أن ينأوا بأنفسهم عن «حزب العمال الكردستاني» إذا كانوا يأملون في المشاركة في محادثات السلام. وهذا يعني، من بين خطوات أخرى، تجنّب المزيد من الاستفزازات الرمزية، كما هو الحال عندما رفعت القوات الكردية بخطوة غير حكيمة صورة كبيرة لزعيم «حزب العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان في الرقة بعد تحرير المدينة. كما قد تشمل إصلاح العلاقات مع «المؤتمر الوطني الكردستاني»، وهو فصيل كردي سوري لطالما عارض «حزب العمال الكردستاني».