يصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى القاهرة في 14 شباط (فبراير) الجاري، في زيارة تُعدّ نقطة تحوّل جديدة في علاقات البلدين، كأول لقاء على المستوى الرئاسي بعد الأزمة الدبلوماسية التي نشبت منذ عام 2013، إضافة إلى رمزية توقيتها المتزامن مع “عيد الحب” عالمياً. اعتُبرت مصافحة الرئيس أردوغان لنظيره المصري عبد الفتاح السيسي في قطر أواخر عام 2022، ولقاء “نيودلهي” بعده على هامش اجتماعات قمّة العشرين في خريف 2023، ثم لقاء الرياض في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 على هامش القمة المشتركة الاستثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، مؤشراً لتحوّل إيجابي في العلاقات بين أنقرة والقاهرة، وأتاحت هذه المصافحة والاجتماعات التاريخية فرصةً لتنشيط الديبلوماسية بينهما، سعياً لتطوير رؤية مشتركة للقضايا الإقليمية والمصالح الاقتصادية. حرص تركي على “إبقاء الإخوان تحت السيطرة”يهدف الرئيس أردوغان من خلال اللقاء الأول مع نظيره المصري في القاهرة، إلى فتح صفحة جديدة وتعزيز التعاون الإقليمي بين البلدين. على الرغم من موجة التطبيع التي انطلقت عام 2021، إلاّ أنّها لم تحقق زخماً إيجابيا كاملاً، ما كشف الحاجة إلى إرساء صيغة تفاهم في العديد من القضايا، بينها ملفّات خلافية، كما الحال بالنسبة لليبيا والسودان والصومال وإثيوبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى الملفات الساخنة في غزة وسوريا وغيرها. حرصت أنقرة خلال مسار التطبيع وفترة التمهيد للزيارة على إرسال إشارات إيجابية ومطمئنة إلى الجانب المصري، تُرجمت على شكل خطوات عملية لناحية إغلاق بعض القنوات الإعلامية التابعة لجماعة “الإخوان المسلمين” المصرية في تركيا، والتي تتهمّها القاهرة بممارسة التحريض الإعلامي ضدّها. كما تداولت وسائل إعلام عربية وتركية بشكل واسع أنباء منع العديد من الشخصيات الإعلامية “الإخوانية” الشهيرة عن القيام بأي نشاط إعلامي يستهدف القيادة المصرية على الأراضي التركية، ما دفع ببعضهم إلى مغادرة البلاد في اتجاه عواصم أوروبية.
وتؤكّد الصحافية التركية المتخصّصة في ملف الشرق الأوسط، هدية ليفينت، في حديث لـ”النهار العربي” أنّ “أنقرة اتّخذت بعض الخطوات ضدّ جماعة “الإخوان المسلمين”، وتمّ إسكات صوت إعلام التنظيم في تركيا، وخرج بعض أعضاء التنظيم من البلاد”. لكنها تستبعد أن “تزداد الضغوط أكثر، مع حرص تركيا على ابقاء جماعة “الإخوان المسلمين” تحت السيطرة”. وترى ليفينت، أنّه “اعتماداً على العلاقات التركية- المصرية، فإنّ هذه الضغوط قد تزيد أو تنقص قليلاً، لكن التنظيم لن يعود حراً في تركيا كما كان قبل بضع سنوات”. وتبدو الأولوية بالنسبة لأنقرة اليوم تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين، والتركيز على المصالح المشتركة كعملية الحل في ليبيا، وليس على المشاكل السياسية العالقة. ليبيا وشرق المتوسطمن المتوقّع أن تنجح أنقرة والقاهرة في تحقيق تقارب في ما يتعلق بالملف الليبي، فيما تبدو “الخطوات المصرية الايجابية لصالح تركيا” في شرق البحر الأبيض المتوسط بحاجة إلى مسار أطول من عملية بناء الثقة بين الجانبين. وإلى جانب العامل الاقتصادي، ترى أنقرة في علاقاتها الدبلوماسية مع مصر حاجة ملّحة في ما يتعلق بسياستها الأمنية. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، وقّعت تركيا اتفاقية مناطق الولاية البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط مع حكومة الوفاق الوطني الليبية بحدود 29.3 كيلومتراً. وهو ما ردّت عليه اليونان بتوقيع اتّفاق مماثل مع مصر في آب (أغسطس) 2020. وكشف الصراع على الولايات القضائية البحرية بين اليونان وتركيا قصوراً في النظرة المستقبلية لأنقرة، التي تأخّرت في توقيع اتّفاق مماثل مع مصر، بخاصة بعد تصريحات دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بما في ذلك إدارة دونالد ترامب السابقة، الداعمة لليونان والإدارة القبرصية اليونانية في جنوب قبرص، كاشفةً عن خسائر سياسية وأمنية واقتصادية كبيرة لتركيا على خلفية علاقاتها المتوترة مع مصر. بالنظر إلى مكانة مفهوم “الوطن الأزرق” القائم على السيادة البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط كأولوية في السياسة الخارجية التركية، وعلى الرغم من التفوّق التركي الميداني بقوّاتها البحرية والعسكرية مقارنة مع اليونان، إلاّ أنّ مشاكلها مع دول المنطقة وضع أنقرة في موقف معزول ضدّ أثينا من الناحيتين الدبلوماسية والسياسية. رأت تركيا في التدخّل السياسي والعسكري في ليبيا أداةً لكسر عزلتها من جهة، وباباً للتفاوض مع القوى الإقليمية وممراً تجارياً وسياسياً إلى إفريقيا من جهة أخرى. وقفت مصر وتركيا على طرفي نقيض في هذا الصراع، حيث دعمت أنقرة حكومة طرابلس غرب البلاد سياسياً وعسكرياً، بينما كانت القاهرة إحدى القوى التي وقفت خلف مجلس النواب المركزي في طبرق وقوات حفتر شرقاً، ليصبح البلدان القوتين الأجنبيتين الأكثر تأثيراً في الملف. لكن، مع تطور المسار السياسي في ليبيا، أصبح تعاون الفاعلين حتمياً من أجل التوصل إلى حل للصراع، وهو ما ألزم الأجهزة الاستخباراتية في كلا البلدين على التواصل في ذروة الخلاف الدبلوماسي. بمعنى آخر، كما كان الوجود التركي في ليبيا مرتبطاً بملفات أخرى في سياستها الخارجية، فإنّ الحاجة إلى التنسيق مع مصر في الملف الليبي وملف شرق البحر المتوسط أصبحت ضرورة لا غنى عنها بالنسبة لأنقرة وذلك لسببين: أولاً: تشتيت الجبهة المناهضة لتركيا التي تشكّلت في شرق البحر الأبيض المتوسط، نتيجة سياساتها العدائية السابقة مع دول مصر واليونان وقبرص وإسرائيل وحتى دول شمال المتوسط في الاتحاد الأوروبي. ثانياً: الإنسجام مع المسار الدبلوماسي الذي تقوده الأمم المتّحدة في ليبيا للحفاظ على مكاسبها في هذا البلد، وهو ما يفسّر زيارة وزير الخارجية التركي، رجل المخابرات السابق هاكان فيدان إلى ليبيا، قبل أقل من اسبوع من زيارة أردوغان للقاهرة. القاهرة أيضاً غيّرت من سياساتها الليبية. فقد أسّست علاقات مع الحكومة الليبية في الغرب، والتي تدعمها تركيا عسكرياً ودبلوماسياً، لتنتقل من موقع الداعم لحفتر ضدّ حكومة طرابلس المدعومة تركياً، إلى وسيط بين الطرفين، للوصول إلى حل نهائي للأزمة الليبية الطويلة والمعقّدة. من جهة أخرى، خفّضت تركيا التوتّر مع اليونان في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط، وذلك كشرط لموافقة الكونغرس على صفقة بيعها طائرات إف-16، مع تعهّدها بعدم استخدامها ضدّ أية دولة أطلسية. ومن المعروف أنّ اليونان هي العدو الأطلسي الوحيد لأنقرة. اليوم، ترى تركيا في توقيع اتفاقية مع مصر -مماثلة لتلك التي وقّعتها مع ليبيا- حلّاً شاملاً لخطر عزلتها في شرق البحر الأبيض المتوسط، من جهة، وأداةً للضغط على أثينا دبلوماسياً، بعد أن تعهّدت الابتعاد عن التلويح بالقوّة ضدّها، وهذا التعهّد يحتّم عليها التحرّك مع حلفاء أثينا في شرق المتوسط وعلى رأسهم مصر. وترى ليفينت، الكاتبة في عدد من الصحف والمواقع الإخبارية التركية، أنّ “كلا البلدين يريدان على الأقل الحدّ الأدنى من المصالحة بين الأطراف المتحاربة في ليبيا. وفي مصر هناك أيضاً مناخ يوحي بإمكان اتخاذ الخيارات التي كان ينبغي اتخاذها قبل بضع سنوات. وسيكون للعلاقات الجيدة بين تركيا ومصر تأثيراً مهدئاً للصراع في ليبيا”. الاقتصاديعاني البلدان من أزمة اقتصادية تتشابه في مخرجاتها، وإن اختلفت أسبابها، وذلك لناحية ارتفاع التضخّم وتراجع قيمة العملة المحلية، والحاجة إلى جذب أكبر قدر ممكن من الاستثمارات والمحفظات الأجنبية للدول والمنظمات المالية العالمية. وبعد تحسنّ العلاقات الثنائية “نسبيا” ولو على المستوى الاقتصادي، أصبحت الشركات التركية، خصوصاً تلك المهروسة تحت وطأة التضخم الذي تجاوز 60% في البلاد، تفضّل مصر كوجهة إنتاج بديلة عن تركيا، ما دفع بالعديد من العلامات التجارية التركية في مختلف القطاعات إلى نقل إنتاجها إلى مصر، التي تجاوز حجم الاستثمارات التركية فيها 3 مليارات دولار، وذلك بسبب توفير مصر فرصاً أكبر للإنتاج والتصدير مقارنة بتركيا، وفق تأكيدات الصناعيين الأتراك. ويعود تاريخ الاستثمار المباشر للشركات التركية في مصر إلى عام 2007، عندما دخلت اتفاقية التجارة الحرّة (FTA) حيز التنفيذ بين البلدين، حيث حرصت الشركات التركية على الاستفادة من اتفاقية “التجارة الحرّة” بين الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر عبر نقل عملية الإنتاج إلى المناطق الصناعية المصرية المؤهّلة. وأنشأت العديد من الشركات الكبرى، خصوصاً في قطاع النسيج وصناعة الألبسة والصناعات الغذائية (البسكويت بشكل خاص)، مصانع لها في مصر، واستمرت هذه الاستثمارات في الزيادة رغم الاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد بين عامي 2010 و2011. وعلى الرغم من الأزمة السياسية بين البلدين، والتي تفجّرت في أعقاب الإطاحة بحكومة “الإخوان المسلمين” والرئيس “الإخواني” محمد مرسي عام 2013، وما تبعها من تأكيد أردوغان بأنّه “لن يلتقي بالسيسي أبداً”، وتخفيض أنقرة لعلاقاتها الدبلوماسية إلى مستوى القائم بالأعمال، إلاّ أنّ العلاقات الاقتصادية استمرت بين البلدين رغم فقدانها لزخمها السابق. بلغ حجم التجارة الخارجية بين تركيا ومصر 5 مليارات دولار في نهاية عام 2013، ووصل إلى 7 مليارات دولار في نهاية عام 2022، كما حقّقت ما يقرب من 35 شركة صناعية تركية عائدات سنوية قدرها 1.5 مليار دولار في مصر، وتوظّف هذه الشركات بشكل مباشر 70 ألف عامل مصري، وتصنّع ثلث إجمالي صادرات مصر من المنسوجات والملابس، وفق بيانات مجلس الأعمال التركي- المصري في مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي. ومع إعلان القاهرة عن إلغاء تأشيرة الدخول للمواطنين الأتراك في نيسان (أبريل) 2023، ازداد عدد رجال الأعمال الأتراك المهتمّين بخفض تكاليف الإنتاج البالغة في تركيا حوالى 500 دولار للعامل شهرياً مقابل حوالى 150 دولاراً في مصر، إضافة إلى تكاليف الكهرباء والغاز الطبيعي المنخفضة جداًّ في مصر مقارنة بتركيا، والاستفادة من ميزة توقيع مصر على اتفاقيات تجارية لإعفاء منتجاتها من الرسوم الجمركية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أميركا الجنوبية وإفريقيا. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قام وزير التجارة التركي عمر بولات بزيارة رسمية إلى مصر بهدف زيادة حجم التجارة مع بوابة المنتجات التركية إلى إفريقيا إلى 15 مليار دولار خلال 5 سنوات. وعلم “النهار العربي” من مصدر إعلامي في وزارة الصناعة التركية، فضّل عدم الكشف عن اسمه، أنّ بولات طلب من المسؤولين المصريين المساعدة في حلّ مشكلة صعوبة تحصيل الشركات التركية التي تبيع بضائعها في السوق المحلية المصرية لأموالها، نتيجة أزمة النقد الأجنبي، من خلال تفعيل الحكومة المصرية التمييز الإيجابي تجاه الشركات التركية”. وأضاف المصدر: “سيكون إجراء التبادل التجاري بين البلدين بالعملات المحلّية على جدول أعمال زيارة الرئيس التركي إلى القاهرة، ما سيؤدي إلى التغلّب على هذه المشكلة”. الصناعات العسكريةبعد إعلان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال لقاء تلفزيوني الإسبوع الماضي عن اتفاق لتزويد مصر بطائرات تركية من دون طيار في إطار تطبيع العلاقات بين البلدين، عقد رئيس الصناعات الدفاعية التركي هالوك جورجون اجتماعاً مع وزير الدولة المسؤول عن الإنتاج الحربي المصري محمد صلاح الدين مصطفى، على هامش معرض الدفاع العالمي الذي أُقيم في المملكة العربية السعودية. وتسعى مصر إلى تأسيس تعاون في مجال الصناعة الدفاعية مع تركيا، وقد ركّزت القوات المسلحة المصرية، التي كان لديها في السابق مخزون من المنتجات السوفياتية والروسية، مؤخّراً على استيراد المعدّات العسكرية المتوافقة مع معايير حلف شمال الأطلسي، لتصبح كل من الولايات المتحدة وفرنسا من بين أهم مورّدي الأسلحة إلى مصر. وفي هذا السياق زار وفد مصري مسؤول عن الإنتاج الحربي 3 شركات تركية في قطاع الصناعات العسكرية في كانون الأول (ديسمبر) 2023. وسيسمح التعاون الأوسع في قطّاع الصناعات العسكرية لأنقرة بالتواجد بشكل أكبر في السوق الإفريقية للأسلحة والمعدّات الدفاعية من جهة، وتستفيد من علاقات مصر مع العديد من العواصم العربية من جهة أخرى، ما يمكن أن يكون مدخلاً لتعاون سياسي واقتصادي استراتيجي بين البلدين، لكنّه يظلّ رهناً لإمكان إعادة بناء الثقة المفقودة بينهما.