لا يعارض قسمٌ من الجمهوريّين إرسال مساعدات عسكريّة إلى أوكرانيا فقط لأنّ الديموقراطيّين “لا يتعاونون” معهم بشأن الحدود أو لأنّهم لا يريدون إهداء فوز للرئيس جو بايدن في سنة انتخابيّة. كما أنّ الخوف من حرب عالميّة ثالثة ليس هو الآخر سبباً أساسيّاً للتردّد في دعم أوكرانيا. في أفضل الأحوال، تلعب هذه الأسباب دوراً معيّناً في قراراتهم الخارجيّة لكنّها لا تقدّم التفسير الكامل للصورة العامّة. وفي أسوئها، هي مجرّد غطاء للسبب الحقيقيّ.
مناكفات
يعتقد البعض أنّ هؤلاء الجمهوريّين يحبّون الرئيس الروسيّ “نكاية” برئيسهم الديموقراطيّ. الكاتب في صحيفة “فايننشال تايمز” إدوارد لوس من أصحاب هذه النظريّة. يقلّل الأخير من شأن الذرائع الأخرى التي يقدّمها معارضو دعم أوكرانيا مثل وجوب إنفاق الأموال المخصّصة لكييف في الداخل، على قاعدة أنّ كلّ الدعم المقدّم لا يتجاوز 1 في المئة من الموازنة الأميركيّة. كما تخضع آليّات الدعم لرقابة صارمة ممّا يخفّف من فرضيّة الهدر، بالإضافة إلى أنّ هذه الأموال تعود في نهاية المطاف إلى دعم الصناعة العسكريّة الأميركيّة وتوليد الوظائف.
لكنّ القضيّة لا تتعلّق بـ”النكايات السياسيّة” وحسب. يخوض الجمهوريّون “حرباً ثقافيّة” ضدّ اليسار الهويّاتيّ و”اليقظة الاجتماعيّة”، بالتالي، يجدون في الرئيس الروسيّ حليفاً طبيعيّاً لهم. إذاً ثمّة خلافات سياسيّة وثقافيّة تدفع جمهوريّين إلى اتّخاذ هذا الموقف. من هنا، حتى ولو شغل جمهوريّ البيت الأبيض، سيظلّ هذا القسم من الجمهوريّين يحمل نظرة الشكّ نفسها إلى أوكرانيا، أو بتعبير أكثر دقّة، نظرة الإعجاب نفسها إلى الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين. لكنّ ثمّة ما هو أعمق من الحرب الثقافيّة نفسها.
تحوُّل؟
يمكن أن يتساءل كثر عن سبب تحوّل الجمهوريّين من حزب رونالد ريغان الذي ساهم في إسقاط الاتّحاد السوفياتيّ إلى حزب دونالد ترامب الذي لا يسعى إلى إعاقة دفاع أوكرانيا عن نفسها وحسب بل إلى إسقاط أكبر حلف أسّسته الولايات المتّحدة. هناك أكثر من تفسير لهذا التحوّل التدريجيّ، إن كان يصحّ هذا التوصيف. فبحسب أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا والخبير في تاريخ السياسة الخارجيّة الأميركيّة جوناثان زاسلوف، لم يطرأ فعلاً ما يمكن تسميته بالتحوّل.
بالاستناد إلى أمثلة تاريخيّة متنوّعة، لفت زاسلوف إلى أنّ الجمهوريّين لم يكرهوا الاتّحاد السوفياتيّ لأنّ قادته كانوا يحكمون سكّانه بقبضة حديديّة. لم تكن لهؤلاء مشكلة مع الديكتاتوريّة بعينها. عوضاً عن ذلك، استاؤوا من “إلحاد” الحزب الشيوعيّ ومن إلغائه الملكيّة الفرديّة. وأضاف: “لكنّ بوتين أعاد الكنيسة الأرثوذكسيّة والرأسماليّة (على الأقلّ من النوع المحسوبيّ)، فما الذي لا يثير الإعجاب إذاً؟”.
انطلاقاً من هذا التحليل، تصبح “انعزاليّة” التيّار الترامبيّ انعزاليّة انتقائيّة إلى حدّ ما. هي “انعزاليّة” عن العالم الليبيراليّ بالتحديد لا عن العالم ككلّ. يصدف أنّ القسم الأكبر من هذا العالم موجود في أوروبا. طالما أنّ روسيا دولة محافظة، أو على الأقلّ تنجح في نشر هذا الانطباع بين المحافظين الأميركيّين، سيظلّ الترامبيّون مؤيّدين لروسيا على حساب أوروبا الغربيّة. بالمناسبة، ثمّة تعاطف جمهوريّ مع زعيم سياسيّ آخر في أوروبا على خلاف مع بروكسل: رئيس الوزراء المجريّ فيكتور أوربان. وتنتشر أنباء وتحليلات عن أنّ إحدى مؤسسّات الرأي المحافظة في الولايات المتّحدة، “ذا هيريتدج”، تنسّق مع أو تتلقى أموالاً من مقرّبين من أوربان. وتعدّ تلك المؤسّسة من أبرز أركان الدعم لحملة ترامب الانتخابيّة.
مقارنة مع الصين
يمكن ملاحظة الجانب الآخر من هذه القضيّة في نفور الجمهوريّين عموماً من الصين. يعدّد الجمهوريّون أسباباً خلافيّة كثيرة في إطار دفاعهم عن سياساتهم المتشدّدة تجاه بكين مثل “التلاعب بالعملة” و”سرقة الملكيّة الفكريّة” و”العلاقات التجاريّة غير المتوازنة” وغيرها. لكنّ سبب الخلاف الأساسيّ بحسب بعض التحليلات هو أنّ الصين، على عكس روسيا، ليست دولة مسيحيّة.
ذكر أستاذ الصحافة والعلوم السياسيّة في جامعة مدينة نيويورك بيتر بينارت أنّ السيناتور الجمهوريّ الأسبق روبرت تافت عارض انضمام واشنطن إلى الناتو سنة 1948 قائلاً إنّ “الشرق الأقصى… أكثر أهمّيّة حتى من أوروبا لسلامنا وأمننا في المستقبل”. لقد اهتمّ المحافظون في الأربعينات بالتبشير المسيحيّ في الصين التي جذبتهم بتعداد سكّانها الضخم، لكنّهم فقدوا الأمل بعد وصول الشيوعيّين إلى الحكم. أصبحت الصين تهديداً لـ”السلطة المسيحيّة البيضاء” بحسب تحليل بينارت لآرائهم في صحيفة “نيوروك تايمز” الصيف الماضي.
لا يعني ذلك أنّ كلّ الجمهوريّين ينظرون بإيجابيّة إلى روسيا. إذا كان يمكن للانتخابات التمهيديّة (أصوات المرشّحة نيكي هايلي) أن تمنح مؤشّراً، فهو أنّ نحو 20 في المئة من الجمهوريّين معارضون لروسيا. حتى مؤيّدو ترامب قد لا يفضّلون بطريقة آليّة التعامل مع الرئيس الروسيّ. ببساطة، ثمّة قسم تنبع تفضيلاته من الوضع الاقتصاديّ الذي كان سائداً في ولاية الرئيس السابق ومن مخاوف بشأن عمر بايدن. عموماً، هناك نحو 35 في المئة من الجمهوريّين الترامبيّين. يعني ذلك وجود نحو 45 في المئة من الجمهوريّين المتردّدين في دعمهم للرئيس السابق. ووجد استطلاع لمركز “بيو” في آذار 2023 أنّ 63 في المئة من الجمهوريّين يعتبرون روسيا عدوّاً، لكنّ استطلاعاً آخر لـ”غالوب” صدر في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 وجد أنّ 62 في المئة من الجمهوريّين يقولون إنّ بلادهم تقدّم الكثير من الدعم لأوكرانيا. بالتالي، إنّ من ينظرون بإيجابيّة إلى روسيا قد لا يمثّلون أكثريّة بين الجمهوريّين، لكنّهم مع ذلك أقلّيّة وازنة ومؤثّرة. فعند جمع نتيجتي الاستطلاعين، يبدو أنّ هناك قسماً جمهوريّاً يعتقد بأنّ روسيا عدوّ للولايات المتّحدة، إنّما ينبغي عدم المبالغة في دعم الأوكرانيّين.
عودة إلى المقابلة
في تحليله، لفت بينارت إلى أنّ الإعلاميّ تاكر كارلسون قال في وقت مضى إنّ صنّاع السياسة الأميركيّين يكرهون روسيا لأنّها “دولة مسيحيّة” مشدّداً على ضرورة تحالف أميركا معها لمواجهة الصين. أتت مقابلة كارلسون الأخيرة مع بوتين والتي لا تزال تشغل الرأي العام الأميركيّ لتؤكّد هذه النزعة لدى الجمهوريّين.
خلال المقابلة، نبّه الرئيس الروسيّ ضيفه إلى وجوب التعامل مع الصين بواقعيّة كقوّة صاعدة، وأوضح نيّته عدم فكّ الارتباط مع بكين وهو ما قد يحبط “الحلفاء المحافظين” في واشنطن. لكنّ ذلك لن يغيّر من واقع أنّهم يكنّون له إعجاباً كبيراً. في الساعات الأخيرة، اجتازت حزمة المساعدات العسكريّة لأوكرانيا (وتايوان وإسرائيل) غرفة مجلس الشيوخ بتأييد 70 سيناتوراً ومعارضة 29. من المتوقّع أن تفشل الحزمة في مجلس النوّاب، إذا صدق تعهّد رئيسه مايك جونسون. تحجّجَ جونسون بمشكلة الحدود. مجدّداً، قد تكون هذه التبريرات بمثابة قنبلة دخانيّة.