من دون أيّ مفاجآت، خسرت المرشّحة نيكي هايلي الانتخابات التمهيديّة الجمهوريّة في ساوث كارولاينا بفارق كبير. بعد انتخابات نيوهامبشير أواخر كانون الثاني (يناير) الماضي، كتبت صحيفة “وول ستريت جورنال” أنّ المراقبين جلبوا معهم المعاول لـ”دفن” حملة هايلي، لكنّهم اضطرّوا إلى تأجيل عملهم بعدما كان أداؤها أفضل نسبيّاً من المتوقّع بالرغم من أنّها خسرت بفارق 11 نقطة مئويّة تقريباً عن الرئيس السابق دونالد ترامب. الآن، وبعد الخسارة في ولايتها، هل سيكون بإمكانهم حمل معاولهم مجدّداً؟
هايلي تعاند
هي ماضية قدماً في خوض السباق الانتخابيّ في 21 ولاية خلال الأيام العشرة المقبلة، من ضمنها يوم الثلاثاء الكبير (5 آذار). في الغالبيّة الساحقة من تلك الولايات، تتأخّر هايلي عن ترامب بهوامش فلكيّة تتجاوز أحياناً 50 في المئة. على سبيل المثال، في ميشيغان التي تنظّم انتخاباتها يوم غد الثلاثاء، يتقدّم ترامب وفق استطلاع أجري أوائل شباط بنحو 60 نقطة. إذاً، لماذا تعرّض هايلي نفسها لخطر الإحراج وربّما تدمير مستقبلها السياسيّ في الحزب؟
يعتقد كثر أنّ هايلي تنتظر أن يتمّ توجيه إدانة لترامب بإحدى لوائح الاتّهام الموجّهة إليه بحيث تمنعه من الترشّح. عندها، ستقدّم نفسها كبديل جدّيّ عنه. لهذا الاعتقاد ما يدعمه. لكنّه بعيد من أن يجسّد خيارها الوحيد. أساساً، حتى في حال توجيه هكذا إدانة، ما من إجماع على أنّها قادرة على منع ترامب من الترشّح إلى الانتخابات. يوجين دبس خاض حملته من السجن قبل أكثر من 100 عام. بعبارة أخرى، تحاول هايلي توسيع هامش خياراتها.
بالنسبة إلى الديبلوماسيّة السابقة، ثمّة أسباب معيّنة تتعلّق بمسيرتها السياسيّة على المدى البعيد. هي قالت أوّلاً إنّها “ترفض تقبيل الخاتم” و”تتويج” ترامب على اعتبار الولايات المتحدة جمهوريّة لا ملكيّة. وأوضحت بعد خسارتها السبت أنّها لا تريد انتخاباً على النمط السوفياتيّ بل تسعى إلى منح رافضي ترامب خياراً آخر. في زاوية معيّنة، هي تقول لهؤلاء الناخبين تحديداً إنّها أملهم الوحيد إذا أرادوا إعادة الحزب إلى “حالته الطبيعيّة” بعد رحيل ترامب عن المسرح السياسيّ. هي تدرك أنّ الترامبيّة ستستمرّ بعد ترامب بأسماء وصيغ مختلفة، وتريد الاستعداد بدءاً من اليوم لقيادة خطّ المواجهة ضدّ هذا التيّار. كلّما استمرّت في المعركة أمكنها القول إنّها لم تخضع لـ”الضغوط والترهيب” وبالتالي هي الأكفأ لتمثيل مستقبل الجناح المناهض لترامب.
ويمكن فهم رهان هايلي
من جهة، أرقام هايلي ليست سيئة إلى هذا الحدّ. صحيح أنّها خسرت بفارق كبير في ولايتها، لكنّ الصحيح أيضاً أنّها تخوض سباقاً ضدّ “شاغل منصب” إلى حدّ بعيد. كما في أيوا ونيوهامبشير، حقّقت هايلي أداء أفضل من توقّعات معدّلات استطلاع الرأي بنسب مختلفة. في أيوا، كان أداؤها أفضل بنحو نصف نقطة مئوية، في نيوهامبشير بنحو 7، وفي ساوث كارولاينا بنحو 5 نقاط (المقارنة مع معدّلات فايف ثيرتي أيت). في نيوهامشير، حقّقت هايلي المفاجأة باجتيازها عتبة 40 في المئة (43.1) وفي ساوث كارولاينا بالاقتراب جداً منها (39.5). وبينما كان معدّل استطلاعات نفسه يضع الفارق بينها وبين ترامب عند 27 في المئة، بالكاد تجاوز الرئيس السابق فارق 20 نقطة في ولايتها. تدرك هايلي معنى تلك الأرقام: “أنا محاسِبة. أعرف أنّ 40 في المئة لا تعني 50 في المئة. لكنّني أعرف أيضاً أنّ 40 في المئة ليست مجموعة صغيرة ما”.
تحذّر هايلي الجمهوريّين من أنّهم سيخسرون الانتخابات الرئاسيّة في حال اختاروا ترامب لتمثيلهم. تبدو استطلاعات الرأي حاليّاً مواتية لترامب في مواجهة الرئيس جو بايدن. لكنّ الوقت لا يزال بعيداً من أجل استعادة بايدن بعض الشعبيّة. في مثل هذه الفترة من رئاسته، كانت الأرقام سيئة جداً بالنسبة إلى باراك أوباما قبل استعادة تعافيها. طبعاً بايدن ليس أوباما ولم يواجه الأخير مشاكل تتعلّق بتقدّمه في السنّ أو عالَماً مضطرباً كما هي الحال مع الرئيس الحاليّ. لكن ما يمكن استنتاجه من هذا المثَل أنّ الوقت لا يزال متاحاً امام بايدن لتحسين أرقامه خصوصاً أنّه يواجه مرشّحاً غير شعبيّ هو الآخر. من جهة ثانية، غالباً ما تكون نتائج الديموقراطيّين في الانتخابات أفضل من المتوقّع، وهو ما حدث في السنوات وفي الأسابيع القليلة الماضية (الانتخابات الخاصّة في نيويورك).
بالحديث عن بايدن وساوث كارولاينا، قارن البعض بين أرقام الرئيسين: فاز ترامب بنحو 60 في المئة من الأصوات الجمهوريّة السبت، بينما فاز بايدن بنحو 96 في المئة من الأصوات الديموقراطيّة أوائل الشهر الحاليّ. هنا يتوضّح حجم التعبئة الحزبيّة الخاصّة بكلا المرشّحين. مع مواصلة هايلي وضع نفسها تحت الأضواء الإعلاميّة، ومع مواصلة إرسال تحذيراتها إلى الناخبين، ستكون قد كسبت الجدل إذا فاز بايدن بإعادة الانتخاب. حتى لو فاز ترامب، من المحتمل جدّاً أن يخسر الجمهوريّون مجلسي النواب والشيوخ ممّا يترك الرئيس مكبّل الأيدي. ببساطة، قد تحين لحظة “لقد قلتُ لكم ذلك” في 6 تشرين الثاني (نوفمبر)، وهي لحظة ستخدم “تبصّر” هايلي ورؤيتها لاتّجاه ومستقبل الحزب الجمهوريّ.
ألا تستطيع مواصلة التحذير بعد الانسحاب؟
سيكون ذلك صعباً نسبيّاً بعد غيابها عن الأخبار. في حال قرّرت الانسحاب وإعلان تأييد ترامب، سينتهي بها الأمر عند “تقبيل الخاتم” كما فعل معظم المرشّحين الآخرين، بمن فيهم حليفها السابق السيناتور عن الولاية نفسها تيم سكوت الذي انسحب وأعلن دعمه لترامب (هايلي دعمت سكوت في ترشّحه كمشرّع عن الولاية). وفي أفضل الأحوال، ستكون هايلي أقرب إلى موقف نائب الرئيس السابق مايك بنس الذي انسحب من السباق لكنّه لم يعلن تأييد أحد خوفاً من إغضاب مناصري ترامب. وقد تنتهي في وضع أقرب إلى موقف كريس كريستي الذي حذّر الجمهوريّين من ضعف ترامب في الانتخابات العامّة لكنّه بات الآن بعيداً نسبيّاً من الأضواء.
في الواقع، يلاحظ مراقبون أنّ هايلي بدأت تميل أكثر لأن تشبه المرشّح السابق كريس كريستي الذي لم يخشَ انتقاد ترامب بشدّة. لكنّ كريستي استنزف نفسه في تخصيص الوقت لمهاجمة ترامب (الغائب عن مسرح المناظرات)، بينما اعتمدت هايلي استراتيجيّة تدريجيّة في ضرب الرئيس السابق من دون أن تبدو “مهووسة” به أو “خائفة” منه. وفي نهاية المطاف، حتى كريستي لم يعلن دعمه لهايلي بعد انسحابه. في مواجهة جميع هذه الاحتمالات، فضّلت هايلي طريقاً صعباً لبناء مستقبلها: مواصلة الحملة مع التعرّض لانتقادات ترامب وتيّاره، وفي الوقت نفسه، ضمان ألّا تصبح في طيّ النسيان لو قرّرت الخروج باكراً.
ورقة أخرى
تحتفظ هايلي بورقة أخرى تحميها (جزئيّاً) من الاتّهامات بأنّها تخدم الديموقراطيّين عبر الامتناع عن دعم ترامب في وقت مبكر، وهي تعهّدها خلال المناظرات بالتصويت لترامب في حال كان هو الفائز بالانتخابات التمهيديّة. ليس واضحاً ما إذا كانت ستظلّ على تعهّدها، خصوصاً بعدما أهان ترامب زوجها خلال الحملة الانتخابيّة، لكن سيمكنها التذرّع – وهي أساساً فعلت ذلك سابقاً – بقضيّة أنّ ترامب، بالرغم من جميع مساوئه، أفضل من رئاسة كامالا هاريس، في حال لم يتمكّن بايدن من مواصلة مهامّه بفعل تقدّمه في السنّ.
لكنّ هذه الطريق لن تكون سهلة أيضاً بما أنّ ترامب ارتكب “أخطاء” كثيرة بحسب تصريحات هايلي نفسها مثل التهديد بالانسحاب من “الناتو” وعدم إدانة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين لـ”قتله” المعارض الروسيّ أليكسي نافالني. بصرف النظر عن وعورة الطريق أمامها في هذا الجانب، تبقى الصورة العامّة أنّ هايلي تراهن على الوقت الذي تكتسب فيه كلّ تحذيراتها شرعيّة واضحة، بشرط المحافظة على تكرار اسمها في الصحف والعناوين الإخباريّة بمقدار ما أمكن حتى يحين ذلك الموعد.
يبقى اللغز الأخير
هل تريد هايلي نيابة الرئاسة. هي كرّرت مراراً نفيها لهذا الطموح. وردّ ترامب مؤخّراً بأنّه أسقط هذه الفكرة منذ ثلاثة أشهر. لكنّ استراتيجيّة هايلي تمنحها هذا الباب حتى ولو لم تكن تصبو إلى دخوله. بقاؤها في الانتخابات يعني أنّها ستستنزف ترامب بما أنّه بات غير مسيطر على أعصابه وأحياناً على تركيزه. من قضيّة انتقاد ملابسها بعد فوزه في نيوهامبشير، إلى انتقاد زوجها الجنديّ مايكل هايلي، وليس انتهاء بالخلط بينها وبين رئيسة مجلس النوّاب نانسي بيلوسي، يُنزل ترامب بنفسه إصابات مجّانيّة خطيرة قد تكلّفه الرئاسة. ليس الأمر نظريّاً. تستخدم حملة بايدن بعض مقاطع الفيديو لهايلي المنتقدة لترامب على وسائل التواصل الاجتماعيّ الخاصّة بالرئيس.
سنة 2016، انسحب السيناتور اليساريّ بيرني ساندرز من الانتخابات بعدما وجّه ضربات قاسية للمرشّحة هيلاري كلينتون، حيث أمكن أن تكون بضع نقاط كافية لخسارتها الانتخابات الرئاسيّة (بالرغم من دعمه لها لاحقاً). ويمكن العودة حتى إلى سنة 1992، حين ساهمت انتقادات المرشّح الجمهوريّ بات بوكانان بخسارة الرئيس الأسبق جورج بوش الأب الانتخابات الرئاسيّة. واللافت أنّ أرقام هايلي وبوش الأب في نيوهامبشير وساوث كارولاينا أفضل من أرقام بوكانان وترامب.
بالتالي، كلّما وجّهت هايلي سهامها ضدّ ترامب اضطرّ الأخير للردّ عليها مع احتمالات متزايدة بارتكاب الهفوات. وفي استطلاعات الخروج لـ”فوكس نيوز”، قال القسم الأكبر من ناخبي هايلي (59) إنّهم لن يصوّتوا لترامب إذا أصبح هو المرشّح النهائيّ. بحسب “أسوشيتد برس”، ينخفض الرقم إلى 20 في المئة. في كلتا الحالتين، تعدّ هذه النسبة كبيرة. وهذا من دون ذكر الجمهوريّين الذين قالوا إنّهم لن يصوّتوا لترامب في حال صدور إدانة بحقّه.
قد يكون الثمن الذي تريد هايلي الحصول عليه مقابل خروجها من المنافسة منصب نيابة الرئاسة بالرغم من نفيها ذلك. لكن ألم يكن بإمكانها التفاوض معه خلف الكواليس من دون هذه الضجّة؟ ربّما. لكن هناك عوائق أخرى أهمّها أنّ الجناح الترامبيّ المتشدّد لا يريدها بأيّ ثمن. وقد خاض معركة إعلاميّة كبيرة، كان الإعلاميّ تاكر كارلسون أبرز قادتها، من أجل الضغط على ترامب لعدم التفكير بهذه المسألة حتى. الآن، تملك هايلي نفوذاً أكبر تجاه ترامب. رسالتها الضمنيّة له قد تكون إمّا عدم الإصغاء لمطلب جناحه المتشدّد (والذي سيبقى خلفه على أيّ حال) ومنحها منصب نيابة الرئاسة، وبالتالي زيادة حظوظه الرئاسيّة، وإمّا استبعادها كرمى لعيون مناصريه المتشدّدين مقابل التضحية بآفاقه الرئاسيّة. طبعاً، يرتبط جزء كبير من خطّة هايلي المحتملة برغبة المانحين في مواصلة دعمهم لها، وقد تكون هناك بعض الأنباء السيّئة بالنسبة إليها إذا تبيّن فعلاً أنّ شبكة “كوخ” المانحة قد تتوقف عن دعمها كما ذكرت مجلّة “بوليتيكو” ليل الأحد.
في جميع الأحوال، بصرف النظر عمّا إذا كان المرشّحان راغبين أو غير راغبين بخوض الحملة الرئاسيّة العامّة معاً، تبقى خيارات هايلي للمرحلتين القريبة والبعيدة متنوّعة. ربّما يُضطرّ حَمَلة المعاول إلى تأجيل عملهم مجدّداً. أو أسوأ، قد تكون هايلي هي التي ستساهم بدفن حمْلة ترامب في الخريف.