فاتنة الدجاني
ا شترينا، نحن الفلسطينيين، الأوهام. نمنا على حرير الوعود، وصدقنا أن السلام آت، وأننا سنصبح «سنغافورة الشرق». ذهبنا في عملية سلام مديدة مع احتلال جانحٍ بقوة نحو أقصى التطرّف، وراعٍ أميركي شديد الانحياز ولا يرانا. تأمّلْنا العدل، حتى صحونا على جريمة القرن: سرقوا قدسنا… مدينتي، زهرة المدائن.
المصاب أليم، ووقع الصدمة ما زال مدوياً، صدمة الاعتراف الأميركي بالقدس «عاصمة لإسرائيل». لم نتوقع أن يفعلها ترامب. الصدمة مباغتة. كنّا ننتظر مبادرة السلام الأميركية، فإذا بنا نتلقى طعنة في القلب. كنّا ننتظر قليلاً من العدل وقليلاً من حقنا، فأُخذنا غدراً. صحيح أن الاحتلال ما زال احتلالاً، وأن ترامب سيبقى معزولاً ويُعرف كأغبى رئيس ابتُليت به أميركا قبلنا ويبتلى به العالم، ولكن بالنسبة إلينا، تغيّر كل شيء. لم نعد نؤمن بالأوهام.
انتظرنا البيان الرئاسي الفلسطيني، فكان باهتاً ووهِناً مثل صورتنا. الرئيس محمود عباس أخذته الصدمة. نسي أن يعلن فشل مشروعه السلمي، واكتفى بالاحتجاج على الرعاية الأميركية المنحازة للسلام. ثم تَشجّع بالموقف الدولي الأوروبي والإسلامي والعربي، فدعا إلى «قرارات جريئة» ضد إعلان ترامب، وحشد من أجل اصطفاف عربي، وطالب بعملية سلام ذات معنى من دون الراعي الأميركي، وقاطع نائب الرئيس مايك بنس الذي يزور المنطقة قريباً. فهل تكون هذه هي حدود المواجهة المقبلة؟
راهن الأميركيون والإسرائيليون على ضعف السلطة والعرب، وتوقعوا انحسار التظاهرات سريعاً. في التقدير الأولي، هذا ما حصل. رد الفعل الشعبي الفلسطيني بدا متعباً ومخذولاً ولا يحس بجدوى حراكه. لكن ضآلة الرد لا تعني اللامبالاة وغياب الغضب الذي يعتمل في صدور الفلسطينيين والعرب والعالم، فحذار، ما من أحد يعلم متى ينفجر هذا الغضب وكيف. تكفي قراءة ما يُكتب على مواقع التواصل الاجتماعي لاستقراء ما يحس به الفلسطيني. لكن الأكيد أن الانتفاضة ليست «كبسة زر»، بل فعل شعبي تعلو وتائره أو تهبط. لكنها لم تتوقف أساساً بما هي شكل الوجود السياسي للفلسطينيين تحت الاحتلال. واكتمالها هو التحدي، ولا يكون إلا باستعادة عناصر القوة الفلسطينية، وعلى رأسها الصمود، والمصالحة الحقة، وتفعيل خيار التدويل إن كانت منه جدوى، والكفاح الشعبي والمقاومة تحت الأرض وفوقها، فلا محتل سلّم المفاتيح بسبب الحق وحده.
يُقدِّر الأميركيون والإسرائيليون و «تضحك الأقدار». وما كانوا ينتظرونه من الشرق جاءهم من الغرب… موقف أوروبي موحد، في غالبيته، قلَبَ الموازين. فالقدس إسلامية بمقدار ما هي مسيحية، وجنون ترامب أصاب أصدقاءه وحلفاءه في معتقدهم، كما في كبريائهم. تنتفض أوروبا، عبر بوابة القدس، ثأراً لتهميشها. تنتفض لها وليس لنا. يجب ألا نشتري الأوهام مجدداً. في الموقف الأوروبي القوي إزاء القدس محاولة لاحتواء غضبنا، وإعادتنا إلى بيت الطاعة، إلى «عملية السلام». ألم يتحوّل مطلب إنهاء الاحتلال، على يد الرئيس إيمانويل ماكرون، إلى مطالبة نتانياهو بمبادرات شجاعة مثل تجميد الاستيطان؟ لو كان تضامن أوروبا مع الفلسطينيين حقيقياً، لكان الأولى بها إصدار قرار موازٍ لقرار ترامب يعترف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين. غيرُ هذا خداع وشراء للوقت حتى نستوعب الصدمة.
ويدافع الأميركيون عن قرارهم بمزيد من الخداع. يقول شُرّاح إعلان ترامب إن ثمة «مقاربة أميركية جديدة» للسلام. فماذا تبقى للتفاوض عليه؟ وفق التسريبات الكثيرة المتقاربة، فإن الحل الآتي يقضي بإقامة دويلة فلسطينية منزوعة السلاح في غزة ونصف الضفة الغربية، ومن دون القدس أو عودة اللاجئين، وتوفير تمويل ضخم لبناء مؤسسات هذه الدويلة، وإقامة مطار وميناء. إنه الحل الإسرائيلي الذي لا يمكن أي فلسطيني أن يقبل به.
لتسقط الأوهام، ولتسقط عملية السلام. فالشعب الفلسطيني بحاجة إلى استراحة محارب، والزمن لنا، والحق معنا، وأميركا معزولة بعد انكفاء. ونؤمن بأن سُلطتنا، مُمثلتنا، لن تقبل بأقل من الثوابت الوطنية، وبأنها تناور لكنها لا تتنازل، وهي وكلٌ منا يدرك أن لا حل من دون الفلسطيني، ولو وافق عليه العالم بأجمعه، فالكلمة للفلسطيني، وهو يقولها عالياً: الحل الإسرائيلي المفروض هو السلام المرفوض.