لم يلبث أن تخلص اليمنيون من الشبح الذي كان يطفو على مياه البحر الأحمر، والمتمثل في سفينة “صافر” بحمولتها التي تبلغ 1.2 مليون برميل من النفط الخام، والتي كانت تحتجزها جماعة الحوثي وتستخدمها لابتزاز المجتمع الدولي، حتى حدثت كارثة بيئية أخرى عندما استهدف الحوثيون سفينة “روبيمار” في المياه الإقليمية اليمنية، وغرقت بعد مرور 12 يوماً من إصابتها، محملة بنحو 21 ألف طن من كبريتات وأكاسيد الأمونيوم.
ووفق خبراء لن تتوقف الكارثة البيئية الناتجة من غرق السفينة “روبيمار” عند اليمن، بل ستشمل كل دول البحر الأحمر، بسبب التغيير في نظامه الإيكولوجي. وفي هذا السياق دعت منظمة “غرينبيس” إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للحدّ من الكارثة البيئية التي تلوح، لما يمكن أن تشكله من تهديد مباشر للنظم البيئية البحرية الهشة في المنطقة.
“مزايدات حوثية على حساب اليمنيين”
ويقول عضو خلية الأزمة المكلفة من الحكومة اليمنية أحمد الشرعبي، إنه “على رغم غرق السفينة روبيمار بالكامل وحدوث تسرب للمواد إلى البحر، إلا أنه لا تزال ثمة فرصة ضئيلة لتلافي الكارثة، وذلك لأن السفينة لا تزال في وضع عمودي، ما يعني أنها لم تنشطر بعد”، محذراً من أن انشطارها قد يتسبب في تسرب المواد النفطية والأسمدة في البحر بالكامل. ويضيف: “بدورنا في الحكومة اليمنية تواصلنا خلال الأيام الأخيرة مع شركات إنقاذ متخصصة لتعويم السفينة وتفريغ المياه المتسربة إليها، حتى نستطيع قطرها إلى أحد الموانئ، إلا أن تهديدات الميليشيا بعدم السماح بإنقاذ السفينة جعل شركات الإنقاذ تتراجع، خصوصاً بعد استهداف الحوثيين لصيادين اقتربوا من السفينة، ما أدى لمقتل اثنين منهم”.
ونشر القيادي في جماعة الحوثي محمد علي الحوثي تدوينة له في وقت سابق على موقع “إكس”، يقول فيها إنهم سيسمحون بسحب السفينة روبيمار مقابل إدخال المساعدات الإغاثية إلى غزة، وهو ما علّق عليه كثيرون بأن الجماعة تزايد بمعاناة الفلسطينيين، ولا تبالي باليمنيين ولا تريد تحمّل أي مسؤولية.
وبعد مرور ساعات قليلة من الإعلان الحكومي عن غرق السفينة، وسط تحذيرات من المنظمات الدولية، ترد جماعة الحوثي عبر نائب وزير خارجيتها حسين العزي عبر تدوينة له على “إكس”، قائلاً “سنواصل إغراق المزيد من السفن البريطانية وأي تداعيات أو أضرار أخرى سيتم إضافتها لفاتورة بريطانيا باعتبارها دولة مارقة تعتدي على اليمن وتشارك أميركا في رعاية الجريمة المستمرة بحق المدنيين في غزة”، ليردّ عليه معلّقون بأن هذا دليل على عدم اكتراث الجماعة بالمصالح اليمنية.

وهذا الأمر يؤكده علي البخيتي، الناطق السياسي السابق باسم الجماعة، بقوله إن “الحوثي لا يكترث للخسائر البشرية، ويعد أتباعه بالجنة، فكيف لنا أن نستطيع إقناعه بالكارثة البيئية التي تسبب بها، وهل يمكن أن يتفهم المخاطر على الأسماك والأحياء البحرية، وعلى اليمنيين بشكل عام؟”.
ويتفق الكاتب والسياسي اليمني همدان العلي في ذلك مع البخيتي، ويقول لـ”النهار العربي” إن الحوثيين “لا يهتمون لأمر اليمنيين، لأنهم لا يشعرون بالانتماء لليمن”، مشيراً إلى أنه “لا يوجد أي طرف وطني أينما كان يصر على الإضرار بوطنه (…) لا توجد أي جماعة أو نظام أو حزب أو قبيلة يمنية لديه / لديها استعداد لإشعال مثل هذه الحرب الطويلة والكارثية من أجل الحكم، ولا يوجد مكوّن يمني يزرع في باطن الأرض وفي سواحل اليمن حوالي مليوني لغم وقطعة متفجرة رغم معرفته بكارثية هذه الجريمة على اليمنيين لعقود طويلة”.
آثار كارثية تمتد لعقود
بحسب الخبراء البيئيين في منظمة غرينبيس، فإن غرق السفينة يسرب الزيوت النفطية والأسمدة في البحر الأحمر، ما سيؤدي إلى اختلالٍ في توازن النُّظم البيئية البحرية، وبالتالي ظهور المزيد من التداعيات المتعاقبة، التي تؤثّر بدورها على السلسلة الغذائية. ومن المحتمل أن ينتج عن هذا الاضطراب عواقب بعيدة المدى، ما يؤثر على الأنواع المختلفة التي تعتمد على هذه النظم البيئية، وبالتالي، من المحتمل أيضاً أن يخلّف ذلك أثراً على سبل عيش المجتمعات الساحلية نفسها.
وبحسب الأستاذ المشارك في علم الأوبئة والصحة العامة في جامعة ستانفورد ديفيد ريكوبف، في حديث لـ”النهار العربي”، فإن التأثيرات لن تقتصر على الحياة البحرية فحسب، بل ستمتد إلى ملايين المواطنين والقاطنين على سواحل البحر الأحمر حيث يعتمد حوالي 4 ملايين مواطن يمني على الصيد بشكل أساسي، ولكن الأكثر تضرراً هي المملكة العربية السعودية، والتي تعتمد بنسبة كبيرة على تحلية مياه البحر، بالإضافة إلى كل من مصر والسودان وأرتيريا وجيبوتي، وهذا قد يؤدي إلى حالات تسمم ووفاة ومن الممكن أن يؤدي التلوث إلى أوبئة جديدة.

تجدر الإشارة إلى أن الأسمدة الموجودة في السفينة هي من فئة IMDG 5.1، وهي مواد كيميائية تحتوي على نسب عالية من المركبات النيتروجينية، مثل النترات والأمونيا، والتي تستخدم عادة كأسمدة زراعية لتحسين نمو النباتات وإنتاجها، إلا أنها تُعتبر من المواد الخطرة جداً. وعندما يحدث تسرب كبير للأسمدة من هذه الفئة إلى البحر، يمكن أن يكون له تأثيرات بيئية خطيرة على الحياة البحرية. فالنترات والأمونيا قد تؤدي إلى زيادة تركيز النيتروجين في المياه، متسببة بظاهرة تسمم المياه بالنيتروجين، وهو ما يؤدي بدوره إلى نمو الطحالب بشكل مفرط في البحار والمحيطات، وبالتالي يعرقل توازن النظام البيئي البحري.
هذا النمو المفرط للطحالب يؤدي إلى ظاهرة تسمى “الإزهار الطحلبي”، إذ تتكاثر الطحالب بشكل كبير وسريع، مما يؤدي إلى انخفاض مستوى الأكسجين في المياه بعد موت الطحالب وتحللها، وهذا يؤدي في النهاية إلى ظهور مناطق بحرية خالية من الأوكسجين تُعرف بالمناطق الميتة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يتسبب تسرب الأسمدة الكيميائية إلى المياه في تغيرات في توازن الحموضة، مما يؤثر على الكائنات البحرية التي تعتمد على البيئة البحرية المتوازنة للبقاء على قيد الحياة.
مؤامرة لإغراق السفينة؟!
من جانبه، يرى الاستشاري في التغيرات المناخية والتقييم البيئي الدكتور عبد القادر الخراز أن إغراق السفينة لم يكن عفوياً، بل ثمة مؤشرات تدل على أن استهدافها كان مُخططاً له لإغراق نفايات كيميائية في البحر الأحمر. ويقول: “حمولة الباخرة تبلغ 41 الف طن، وقد أعلن سابقاً أنها تحمل 20 ألف طن من الأسمدة الكيميائية الخطرة من دون توضيح نوعية باقي نصف الحمولة للباخرة، مع العلم أن هذه الأسمدة تتكون من فوسفات الأمونيا وفيها أيضاً مواد كيميائية أخرى، والمؤشر الآخر هو أن الباخرة مخصصة لنقل البضائع مثل الحبوب، فكيف تم تحميلها بمواد كيميائية خطرة وأيضاً تعتبر سائبة أي أنها غير معبأة بأكياس، وهذا يؤكد أن هناك تفاهمات بين ميليشيا الحوثي ومافيات دولية لدفن نفايات خطرة عن طريق ذريعة ضرب السفن العابرة والمرتبطة بإسرائيل نصرة لغزة”.
وبحسب البيانات فإن السفينة روبيمار تعتبر من السفن القديمة حيث بدأت التشغيل في 1997، أي أنها تعتبر نفايات في ذاتها، إذ تنص المقاييس الدولية على أن العمر الافتراضي لسفن النقل التجارية يجب أن لا يتعدى 20 عاماً. وما يُثير الشك بشكل أكبر هو عدم تجاوب الشركة المشغلة للسفينة مع الفرق الحكومية.
البحر الأحمر ورقة ابتزاز
لم تبدأ حوادث استهداف جماعة الحوثيين للسفن التجارية في البحار اليمنية للمرة الأولى بسبب حرب غزة كما يزعم الحوثيون، فقد سبق أن قامت الجماعة بعمليات استهداف لسفن تجارية في فترات سابقة، ففي 25 يوليو 2018 استهدف الحوثيون سفينة النفط “أرسان” والتي كانت قد غادرت الموانئ السعودية محملة بمليوني برميل من النفط إلى مصر، بالرغم من معرفتهم بحمولتها التي كادت أن تكون كارثة بيئية على جميع المستويات.
وقد حاولت جماعة الحوثي على مر 8 سنوات أن تعمل على “عسكرة البحر الأحمر خدمة للنظام الإيراني” وفق ما يرى مراقبون، إذ أعلن الحرس الثوري الإيراني في وقت سابق بأن البحر الأحمر أصبح تحت السيطرة الإيرانية، في ظل عدم اكتراث جماعة الحوثي للآثار المترتبة على استهداف السفن التجارية والنفطية على بيئة البحر الأحمر والسواحل اليمنية، وقد تكررت الهجمات منذ آذار (مارس) 2015 وحتى اليوم.
ويلفت مراقبون إلى أن جماعة الحوثي قد حولت البحرين الأحمر والعربي إلى أوراق ابتزاز للحكومة اليمنية والمجتمع الدولي، بدءاً من نشر الألغام البحرية، مروراً بسفينة “صافر”، التي قال عنها فريق لجنة الخبراء بأن الحوثيين يستخدمونها كوسيلة للمساومة السياسية وضغط المجتمع الدولي، وكذلك قصف السفن والمنشآت النفطية اليمنية، وصولاً إلى استهداف السفن التجارية وإغراقها في هذه المرحلة.