مع اقتراب شهر رمضان، يعود حديث العائلات الجزائرية عن القدرة الشرائية وضعف الرواتب وغلاء الأسعاء ومصاريف الشهر. غير أن الشكوى من غلاء المعيشة يقابلها إسراف منقطع النظير، وتهافت على الأسواق. وأطلقت وزارة التجارة وترقية الصادرات في الجزائر حملة وطنية للحد من التبذير الغذائي بعنوان “لنتجند جميعاً من أجل محاربة التبذير والاقتصاد في الاستهلاك”.
وتسعى المبادرة إلى التنبيه بأهمية مكافحة كل أنواع التبذير، مع العمل على تغيير ثقافة الاستهلاك خلال شهر رمضان الذي يشهد إفراطاً في شراء المواد الغذائية وتبذير جزء كبير منها، رغم الضائقة المالية التي تعانيها العائلات الجزائرية. ويعني شهر رمضان للبعض موائد ملأى بالأطعمة المنوعة والحلويات، من مغرب الشمس إلى شروقها، بل ويتنافس معظمهم على شراء ما يلزم وما لا يلزم من حلويات وغيرها، وبأسعار باهظة قبل رمضان، وهو ما يتناقض مع الشكاوى من ضعف الرواتب وغلاء الأسعار. 700 دولار موازنة عائلة من 6 أفراد يوم السبت، سوق الرويبة شرق الجزائر العاصمة، مكتظ عن آخره، قد يبدو الأمر عادياً ما دام اليوم هو يوم عطلة أسبوعية، غير أن الأعداد الغفيرة من المتسوقين مع مشترياتهم الكثيرة، بخاصة من الأواني ولوازم الطبخ والتوابل وغيرها، توحي بتسوق خاص برمضان. على باب أحد المحال، وجدنا عمي قويدر متكئاً ينتظر دوره مكتئباً، يقول: “اقترب شهر رمضان وحالتي حالة، أنا محتار كيف أقضي أيامه هذا العام”؛ لماذا؟ يجيب: “أنا رب عائلة من أربعة أطفال، أكبرهم في الـ18 من العمر، ودخلي الشهري لا يتعدى 30 ألف دينار (223 دولاراً)، فكيف لا أكتئب؟”. في الجزائر ما يقرب من 3 ملايين عائلة محدودة الدخل، لذا عمدت الحكومة إلى منحها إعانات مالية قيمتها 75 دولاراً لكل عائلة، بهدف مساعدتها على مجابهة متطلبات شهر الصيام، من خلال ما يعرف بـ”قفة رمضان”، التي كانت توزع عبر البلديات في كل التراب الجزائري على شكل مواد غذائية، إلا أنه تم إلغاء القفة واستبدالها بمبلغ مالي يصب في حسابات العائلات الفقيرة. ورغم هذه الإعانة يبقى وضع الكثير من العائلات صعباً خلال هذا الشهر، وهو ما يؤكده الخبير الاقتصادي جلول قادري لـ”النهار العربي”، بقوله إن “عادات الجزائريين الاستهلاكية خلال رمضان، تدفعهم إلى أزمة مالية أسرية قبل حتى انقضاء الشهر”، مشيراً إلى أن الرواتب الزهيدة التي يتقاضاها العمال في بعض القطاعات لا تكفي لسد رمق العيش خلال شهور السنة، فكيف الحال خلال رمضان المعروف في الجزائر بمصاريفه الزائدة عن الحدود؟ وعن تقديره لموازنة رمضان لعائلة من 6 أفراد، يقدّر قادري أن “مبلغ 700 دولار يبدو كفيلاً بقضاء رمضان في أريحية مالية لأسرة بهذا العدد، إذا قارناها بالاستهلاك الكبير خلال هذا الشهر والغلاء الذي تعرفه الأسواق، بخاصة خلال الأسبوع الأول منه”، مشيراً إلى أن أي مبلغ آخر تحت هذا الرقم قد يضع العائلة في حرج. غياب التّخطيط الماليمن المتعارف عليه لدى الجزائريين عدم تفويت المناسبات الدينية للتسوق والتبضع وتحضير المأكولات بكميات تدخل أحايين كثيرة في خانة الإسراف، وهو ما ينطبق على الخبز مثلاً (13 مليون خبزة رمي بها في النفايات خلال رمضان 2023).

ويلفت الإعلامي المتابع للشأن الاجتماعي رياض بلقاسم إلى غياب التخطيط المالي لدى الأسر الجزائرية، ما يجعلها في شكوى وحيرة دائمين، ويقول: “صحيح أن رمضان بالنسبة إلى الجزائريين مناسبة دينية مقدسة، غير أن مصاريفه الكثيرة تدخل في باب الإسراف والتبذير الذي لا جدوى منه إطلاقاً؛ والملاحظ دوماً خلال هذا الشهر هو التهافت على كل شيء، فقد تجد رب أسرة محدود الدخل لا يتوانى عن شراء الكماليات من الحلويات مع كل أنواع الخبز، لترمى بعد ذلك في المزابل وليضرب خديه بكفيه حسرة على التهامه كل راتبه قبل انقضاء الأسبوع الأول من الشهر”. وينصح بلقاسم أرباب العائلات الجزائرية، بخاصة منهم ذوي الرواتب المحدودة، بعدم الإكثار من المصاريف في رمضان، داعياً إلى تخطيط مالي “يجنبنا التبذير ويجعلنا في أريحية من أمرنا”، ويقول: “صحيح أن الكثير من العائلات مدخولها ضعيف وقد لا يكفيها حتى نهاية الشهر، ولكن رمضان كارثة بالنسبة إلى هؤلاء فقط لأنهم يسرفون ويتنافسون على شراء ما لا حاجة له”. ويضيف أن “التركيز على الأساسيات في المأكل خلال رمضان يعد ضرورة قصوى إذا أردنا قضاء الشهر في طمأنينة مالية، مع الاستغناء عن بعض العادات الغذائية التي لا تسمن ولا تغني، بل تفرغ الجيب وتهلك الصحة”. وعن ضعف الرواتب وتراجع القدرة الشرائية، يؤكد بلقاسم لـ”النهار العربي” أن الأمر “لا يتوقف فقط على ضعف الراتب بل يتعلق أيضاً بالعوامل الاجتماعية والثقافية والدينية التي تؤثر على سلوكيات الناس في هذا الشهر الفضيل. فمن جهة، يعتبر رمضان فرصة للتقرب من الله والتمتع بالأجواء الروحانية والاجتماعية التي تميزه عن غيره، ولكن في بعض الأحيان، ننجرف وراء عادات وسلوكيات استهلاكية غير سوية تتنافى مع روح الشهر وتؤدي إلى الإسراف والتبذير والتكاليف الزائدة”.

“نريد أجراً يساوي أجر رئيس” وبعيداً من أجواء رمضان الروحانية، فإنه يعد موعداً سنوياً لارتفاع منسوب التذمر لدى غالبية الجزائريين من غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وضعف الأجور؛ وإن كان كل ذلك واقعاً معيشاً غير أنه لا حديث عن التبذير والإسراف الذي تعيشه الجزائر في هذا الشهر، وهو ما ذهبت إليه الصحافية حليمة مزهود التي تقول: “ما يميز العائلات الجزائرية خلال رمضان ذاك التفنن والتنويع في طبخ أشهى الأطباق إلى حد التبذير أحياناً”. وتشير إلى أن انخفاض قيمة الدينار الجزائري خلال السنوات الفائتة وارتفاع الأسعار، دفعا الجزائريين إلى التذمر الدائم والشكوى من تدني الأجور، بخاصة قبل رمضان، مع إغفال جانب الإسراف في ما هو غير ضروري وحصري لهذا الشهر “وكأن شهور السنة الأخرى لا أكل فيها”، تقول مزهود في اتصال مع “النهار العربي”. وتلفت إلى أن الحديث عن الأجور الزهيدة يتكرر في كل مناسبة، بخاصة الدينية منها. وتقول: “وصلت إلى قناعة بأننا كجزائريين نريد أجراً يساوي أجر مسؤول برتبة رئيس جمهورية، فلا أجر يرضينا، وكلما زاد الأجر ازدادت مصاريفنا وذهبت أدراج الكماليات أكثر من الضروريات”.