“الجنّة ليست حكراً على المسلمين” و”وارد ربّنا يلغي النار”… جدالات الشيخ علي جمعة لا تهدأ

1

الشيخ علي جمعة

“ما الذي يمكن أن يجعل إنساناً يشتاط غضباً لمجرد أنه سمع بأن شخصاً آخر لا يعرفه قد يدخل الجنة؟!”، “إنهم يدعون لمقاطعة برنامجه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… التسامح منكر بالنسبة لهم”، “اللهم إنا نعوذ بك من التدين السطحي، وتوهّم الالتزام، والظن بأننا مُهتدون”، كانت هذه بعض التعليقات التي رصدناها ممن استمع إليهم “النهار العربي” أو رأيناها مكتوبة على مواقع التواصل الاجتماعي، تعقيباً على حالة الغضب التي تفشت على مدار الأيام الماضية، بعد فتوى لمفتي الديار المصرية السابق الشيخ علي جمعة، بشأن دخول غير المسلمين الجنة.

وكان جمعة، وهو عضو بهيئة كبار العلماء في الأزهر، أجاب في برنامجه التلفزيوني الرمضاني “نور الدين” الذي تبثه القناة الأولى بالتلفزيون المصري، عن سؤال لطفلة عن السبب في دخول المسلمين دون غيرهم الجنة، واعتبر المفتي السابق هذه المعلومة الشائعة بمصر “مغلوطة”، واستشهد بالآية القرآنية 62 من سورة البقرة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ثم قال: “إن الدين عند الله الإسلام، وجميع الأديان تسمى إسلاماً، الآية واضحة جداً، إن الدين عند الله الإسلام، كله اسمه إسلام عندنا”. وفي حلقة لاحقة أمس قال: “جماهير المسلمين يعتقدون أن الوعد والوعيد لا بدّ أن ينفّذا. ربنا أنبأنا أن ثمة جنّة وناراً. في يوم من الأيام لو أن الله ألغى النار، نقول له لا؟ فليلغها، ويُدخل كل الناس الجنة. هو فعّال لما يريد. هل هذا وارد؟ علماء مسلمون كثر قالوا نعم وارد. هو وعد بالجنة فهذا كرم وعطاء، لكن عندما وعد بالنار فليس بالضرورة أن يفعلها. هي عُملت لنا حتى لا نؤذي غيرنا، نخاف ربنا… يجب أن تكون العلاقة بيننا وبين ربنا مبناها الحب والأمل والتفاؤل والرحمة”. 

وبات من المعتاد في مصر، خلال العقود الأخيرة، أن تثير أي فتوى غير تقليدية ردود فعل رافضة، حتى وإن ثبت أنها صحيحة وتستند إلى أدلة من القرآن وآراء الفقهاء المعتبرين عند المسلمين. لكن اللافت هذه المرة أن الأصوات المؤيدة لفتوى الشيخ جمعة كانت حاضرة بقوة، وكان ثمة رفض واضح للتشدد الديني، خصوصاً أن جمعة من كبار رجال الدين الإسلامي في مصر، ويحظى بشعبية واسعة واحترام في أوساط المصريين.

أخطر من عداء سياسي

يقول أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة مونستر الألمانية الدكتور عاصم حفني لـ”النهار العربي”: “إن البرنامج الذي يقدمه الدكتور علي جمعة، وحديثه مع الأطفال والشباب الصغار في أمور دينهم، هو أمر جيد جداً، من زاوية أن شخصية لها ثقلها الديني، غزيرة العلم، حفيظتها حاضرة، تتحدث للأجيال الجديدة، ومن زاوية أخرى فإن حضور هؤلاء الشباب يعني أن لديهم اهتماماً بالأمور الدينية”.

الدكتور عاصم حفني

لكن حفني الذي عمل أستاذاً بجامعة الأزهر، بالرغم من ثنائه على البرنامج التلفزيوني، وما يقدمه من فتاوى “تحرك المياه الراكدة”، وكذلك تعليقه الإيجابي على شخص المفتي السابق، إلا أنه يرى أن الهجوم الذي حدث ضد جمعة كان “منطقياً” و”متوقعاً”، ويقول: “الشيخ علي جمعة موضوع في قائمة ألد الأعداء لدى غالبية تيارات الإسلام السياسي بمصر”.

وفسر أستاذ الدراسات الإسلامية سبب ذلك بأنه “في أعقاب ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، وما تلاها من أحداث، كانت هناك حالة تحزب، وكان من الطبيعي أن يختار رجل الدين إما أن يكون مع النظام أو ضده أو مع أحد تيارات الإسلام السياسي، ولهذا كل من اختار أن يكون مناهضاً لـ”الإخوان المسلمين” على سبيل المثال، وضع في خانة العداء لديهم، والشيخ جمعة ليس في خانة الأعداء السياسيين فحسب، بل إنه في مكان أخطر، لأنه يقاتل هذه التيارات – “الإخوان” والسلفيين وغيرهم – بسلاحها، وهو الخطاب الديني الذي يبرع فيه، لهذا فكل ما يقوله، يعتبرونه خطأ، حتى وإن اتفق مع ما يتبنونه، وحتى لو كان صحيحاً، لأنه رأي يخرج من عدوهم”.

وأشار حفني إلى فتاوى أخرى صدرت عبر البرنامج عن الحب والعلاقة بين الشباب والفتيات في الجامعة، وقال: “الصداقة بين الجنسين هي قضية حديثة، وليس لها سابقة في التراث الإسلامي، والحقيقة فإن الشيخ جمعة ينظر إلى روح الإسلام، وينظر إلى الأمور واقعياً، فالفتاة لم تعد تمكث في البيت وتخرج فقط للضرورات كما كان في الماضي، ولكنها في العصر الحديث تذهب للمدرسة، والجامعة، والعمل، وهي كلها مجالات يصعب فيها الفصل بين الجنسين، وقد وضع المفتي السابق احترازات كي لا تتحول هذه العلاقة من صداقة إلى أمور أخرى غير مقبولة، وبالرغم من هذا بدلاً من الثناء على رأيه واجتهاده، هاجمته تلك التيارات، وركزت على الجانب السلبي وضخمته، ليس لأن هذا هو رأيها بالضرورة، لكن لأنه رأي صادر من عدوها”. 

ويلفت أستاذ الدراسات أيضاً إلى أنه على رغم قوة تأثير هذا السبب في تحريك الهجوم، لكن من ناحية أخرى فإن “هناك صراعاً على سلطة تفسير النص الديني، وسحب البساط من تحت أقدام أسماء ظلت مسيطرة – لفترات طويلة – على ما يمكن أن نسميه – إذا جاز التعبير – سوق تفسير النصوص الدينية، ولهذا مكاسبه الاقتصادية والسياسية بالنسبة لتلك التيارات، والشيخ علي جمعة يشكل منافساً قوياً من ناحية غزارة العلم، وكذلك التأثير الجماهيري”.

الفتوى ليست جديدة

وبشأن الفتوى التي أثارت ضجة، يقول أستاذ الدراسات الإسلامية إن “الرأي الذي ذهب إليه الشيخ علي جمعة ليس جديداً، وليس رأياً إصلاحياً حديثاً، بل هو رأي موجود في التراث الإسلامي منذ قرون، وقد قال به الإمام محمد الغزالي (توفي عام 1111 ميلادياً)، وكذلك قال به شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت في كتابه “الإسلام عقيدة وشريعة”، وكذلك قال به فضيلة الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الحالي”.

وتطرق حفني إلى أن “البعض – من أصحاب هذه الآراء – يوسع مفهوم الإسلام ويسقطه على كل من يؤمن بنبي، وليس من يؤمن بالنبي محمد (ص) فحسب، بل إن الشيخ شلتوت تجاوز هذا المفهوم إلى تعريف الكفر وإخراج كل من هو غير مسلم في الوقت الحالي من دائرة الكفر، لأنه اعتبر أن الأقوام الحاليين ممن لم يصلهم الإسلام بشكل عقلاني ومقنع، مثل أهل الفطرة الذين يأتون بعد زوال أثر نبي وقبل وصول نبي آخر. لذا فإن ما قاله الشيخ علي جمعة وأحدث ضجة ليس جديداً، ومن الجديد أن يعاد ويكرر حتى يترسخ في الأذهان”.

جوانب نفسية

ثمة جانب من حالة الغضب يرتبط بالجماهير التي لا تنتمي للتيارات الإسلامية، بل ومنهم مناهضون لها، لكنهم رغم ذلك رفضوا تقبل هذا الرأي غير الشائع.

وعن هؤلاء تقول استشارية الصحة والإرشاد النفسي الدكتورة منى حمدي لـ”النهار العربي”: “أعتقد أن الأشخاص الذين يميلون للتشدد في رفض قبول أي فكرة جديدة دون التأكد من صحتها، يكون أفقهم محدوداً، وتمت تربيتهم بطريقة صارمة، لا مجال فيها للنقاش وتفتيح الأفكار، وتالياً يميلون عادة لعدم إعمال عقولهم، ويفضلون الموروث من الأفكار القديمة، لأنها تكون قد تغلغلت في منظوماتهم الفكرية والعقائدية”.

الدكتورة منى حمدي

وتضيف: “التشدد في الدين وربطه بالتدين يكون موجوداً في الشخصيات التي تعانى نقصاً أو خللاً ما في الشخصية أو في الشكل أو الإشباع النفسي والعاطفي في الطفولة، لذا يقومون بتعويض هذا بالتسامي، وهذه حيلة من حيل الدفاع النفسي التي يلجأ إليها الإنسان بشكل غير واع لرفع قيمة الذات، والتسامي عوضاً عن الشعور بالنقص في شيء ما”.

وتفسر أخصائية الصحة النفسية ميل هؤلاء الأشخاص لدعاة أو رجال أقل علماً وأكثر تشدداً، وتركهم للأكثر علماً وتسامحاً، بأن “تأييد الأقل علماً أو الذي  بلا علم على الإطلاق سببه هو أن الإنسان بطبيعته يميل  لكل ما يؤيد معتقده وفكره، بغض النظر عن مصدره، وهذا في علم النفس نسميه الانحياز التأكيدي (confirmation bias)،  وهذه طبيعة من طبائع العقل البشري، الانتقاء والانحياز لما يؤيد فكره بغض النظر عن عقلانيته أو علميته”.

سجالات مفيدة

ويرى الكاتب الصحافي محمد بربر أن “هذا الجدل مفيد؛ إذ يفتح مساحات نقاش وتنوير ويطرح أسئلة جديدة، لو أن هناك شخصاً واحداً سعى إلى الإجابة عنها لقلت إنه حالة مثمرة”.

الكاتب والصحافي محمد بربر

ويقول بربر لـ”النهار العربي” إن “المشهد ليس جديداً، بل عشناه منذ الثمانينات، وشهدنا محاولات اغتيال مادية ومعنوية لأدباء ومفكرين، ثم عشناه مع أحداث 2011 وما شهدته من زخم في المسألة العقائدية، خصوصاً بعدما ظهرت تيارات الإسلام السياسي على الساحة بوضوح”.

الكاتب والصحافي الذي ألف كتاباً تحت عنوان “دقن وجلابية”، يقول: “التقيت قبل أسابيع أحد علماء المملكة العربية السعودية، وكان قد قدم خطبة مهمة وملهمة عن التوحد ونبذ الفرقة، قلت له: إننا في مصر دفعنا الثمن غالياً من هؤلاء الذين وفدوا إلينا من بعض الدول بكثير من الغلو، وبعضهم لم يكن يحمل حتى شهادة تعليمية عادية، هذه الحقبة خلقت كثيراً من التغييرات في فئات المجتمع المصري”.

ويعتقد بربر أننا الآن أمام معادلة “التنوير أم توريث التراث المستورد”، “الدين يقوم على قيم الحق والخير والعدل والجمال، والدين في أصله يحث على حسن المعاملة، بعيداً عن التكفير والسب والقذف، غير أنه حين يتصدر للحديث فيه من لا يحمل علماً، وقد استقى فهمه من أحد العوام الذين تركوا لفترات طويلة ينشرون الجهل في أوساط البسطاء، فنحن في أزمة”.

التعليقات معطلة.