لا تدخر الحكومة السورية، ممثلة بأجهزة وزارات متعددة، على رأسها التجارة الداخلية (التموين) والمالية، جهداً لفرض ضرائب يمكن وصفها بالخيالية على المهن التجارية والغذائية والصحية، وكل ما يمكن التعويل عليه من قبل السوريين للاستمرار بالعمل داخل بلدهم بعد إنشائهم مشاريع صغرى أو متناهية الصغر، في محاولة تبدو أخيرة لئلا يصبحوا لاجئين في وقت قريب أسوةً بمن سبقهم.
الحاج أبو أحمد يملك مطعماً صغيراً للوجبات الجاهزة في مدينة حمص وسط البلاد، فوجئ قبل مدّة بتكليفه ضريبياً عن عام 2023 بقيمة مالية إجمالية بلغت مليار ليرة سورية (حوالي 70 ألف دولار)، مبدياً استغراباً لما وصفه بالأمر غير المفهوم أو المبرر أو المنطقي.
أرقام فلكية
يقول أبو أحمد في حديثه لـ”النهار العربي”: “بأيّ منطق في الكون يتم تكليفي بمليار ليرة سوريّة، هل تعي الأجهزة الضريبية أنّي منذ افتتحت مطعمي الصغير لم أجنِ نصف هذا الرقم، وفوقها لم يأخذوا بعين الاعتبار أني اشغل أربعين عاملاً، أي أعيل أربعين أسرة. هذا الرقم الفلكي قضى عليّ، أحاول الآن بكل الطرق الاعتراض والشكوى، ولكنّي بالتأكيد سأغلق المطعم”.
ويضيف: “هذا النوع من الضرائب ما هو إلا تطفيش للناس وإجبارهم على ترك مصالحهم وإغلاقها والبدء بالتفكير بحلول أخرى كما فعل زميلٌ لنا قبل عامين، إذ استسلم أمام أول تكليف ضريبي وسافر إلى دبي وافتتح هناك مطعماً صغيراً كلّفه أقلّ من قيمة الضريبة التي تكلف بها هنا، أليس هذا من العجب؟ والطامة الآن أنّه لا تخالفك مديريات تلك الأجهزة في مدينتك، بل تداهمك على حين غرّة لجانٌ قادمة من دمشق، وهذا بحدّ ذاته أغرب”.
الجمارك حاضرة
يوماً بعد آخر يتضح أنّ المصالح المهنية والتجارية في سوريا تنهار، ليس فقط للأسباب الضريبية التي ذكرها الحاج أبو أحمد، بل لأسباب موضعية أخرى تتعلق بالحال العامة وما يمكن قراءته في الاقتصاد المرتبط بالحرب، والذي أفضت إليه جملة شروط تضافرت فيها كل الموجبات التي جعلت من إمكانية العمل في سوريا خارج القطاع الحكومي أمراً بالغ التعقيد والمخاطرة. ومن المعلوم أنّ أجور العمل الحكومي لا تكفي قوت موظفيها.
عدا كلّ ذلك، يعاني أصحاب المصالح ضربات متتالية غالباً ما تكون قاضيةً من قبل أجهزة الجمارك. الضربات التي تنتهي بتوقيف صاحب المحل ومصادرة بضائعه وتغريمه بثلاثة أضعاف قيمتها، وهذا أيضاً سبب جوهري آخر لتنامي مخاوف الناس من العمل الحر في الأسواق.
العمل الحرّ هنا ليس عملاً في الممنوع والخطير الذي يضرب اقتصاد دولة حتى الصميم، بل إنّ المصادرة تبدأ من المحال التي تبيع شاشات الهواتف المحمولة، وصولاً إلى المحال التي تبيع مستحضرات الاستحمام والعناية بالبشرة وغيرها، مروراً بالدخان، وكلّ ما يمكن أن يخضع لمخالفة في سياق ميزان صادرات وواردات ليس مفهوماً المسموح منها والممنوع.
يقول أحد أصحاب محال بيع التقنيات إنّه تعرض قبل مدّة لمداهمة من قبل دوريات الجمارك التي صادرت من محله عدداً من مضخمات الصوت (صغيرة الحجم)، مغرمةً إياه بمبلغ تجاوز 300 مليون ليرة سورية (حوالي 20 ألف دولار).
صاحب المحل الذي طلب عدم الكشف عن اسمه على اعتبار أنّ قضيته ما زالت أمام القضاء قال لـ”النهار العربي”: “البضاعة التي صودرت من محلي لا تعادل قيمتها ربع قيمة الغرامة، ولكن هذا هو العرف الجمركي. أنا لا أفهم وما زلت كيف يمكن أن تضر مضخمات الصوت تلك باقتصاد البلد؟ ولماذا عليّ أن أكون مجرماً وأن يذهب جنى عمري سدى؟ وبالمناسبة يتم دفع الغرامة والبضاعة كلّها تتم مصادرتها، وأحياناً تتم مصادرة أشياء لا يمكن التوقع أساساً أنّها مخالفة”.
المحال تهزم البيوت
كذلك، ارتفعت أسعار إيجار البيوت لحدود خيالية أرهقت السكان ودفعتهم لمغادرة المدن نحو ضواحيها وقراها، كذلك لحق الأمر بالمحال التجارية، التي تفوقت في قيمتها الإيجارية على المنازل نفسها، مسجلةً أرقاماً يكاد يخشى السوريّ من لفظها سراً حتى، إذا بلغ إيجار بعض المحال آلاف الدولارات شهرياً في العاصمة، وليس أقلّ بكثير في مدن أخرى، ما يجعل من أي مهنة مغامرةً لناحية ما ستتمكن من كسبه لسداد الإيجار وتحقيق الأرباح مع استثناء حالات قليلة ترتبط باستثمارات صممت لتكون ملاذاً للأثرياء.
وإذا كانت العاصمة كلّها تعيش جنوناً غير مقبول في الأسعار، فإنّ ذلك يمكن تبريره بكلمة “تظلّ العاصمة”، ولكن ما حال مدن أخرى لطالما كانت على هامش التنمية والتجارة؟. فمجدداً إلى حمص المدمرة بنصفها إثر الحرب، وإلى شوارعها التي صار متوسط أسعار إيجار المحل فيها نحو ألف دولار، وهي التي طالما عُرفت في التاريخ باسم “أمّ الفقير”.
التسعير بالدولار الممنوع
وسط كلّ ذلك ثمّة معادلة مجنونة في موضوع التسعير، فرغم أنّ السلطات السورية وفق مراسيم رئاسية متعددة مصحوبةً بقانون العقوبات تجرم التعامل بالدولار والذهب في التبادلات التجارية بين الأفراد، إلا أنّ كلّ تلك الإيجارات يتم تثبيت قيمتها بين المؤجر والمستأجر بالدولار لدواعٍ تتعلق بانهيار العملة المحلية.
موفق الخاني كان مستأجراً سابقاً لمحل تجاري في شارع الحضارة في مدينة حمص بقيمة 800 دولار شهرياً، لم يتمكن من الصمود إلا بضعة أشهر قبل أن يدرك فداحة الخسارة التي ستترتب عليه لضعف المبيعات، مفضلاً ترك المحل والاستغناء عن تجارته في اللحوم.
ويقول: “ستجد في النهاية أنّك تعمل شهرك بأكمله لتسدّ الإيجار فقط، قد لا يبدو رقم 800 دولار مهولاً، ولكنّ الحصول عليه هو المهول، عليك أن تبيع كل ثانية دون توقف لتتمكن من توفيره، وإن كان الخيار البديل هو في الأحياء الشعبية فإنّ الناس هناك فقراء والمبيعات ستنهار وتنعدم الأرباح، لذا تداركت نفسي وهربت من خسارة محتملة كنت أراها بوضوح أمامي مع مرور الوقت”.
من السوق إلى السوشيل ميديا
لقاء كل ذلك، اتجه الكثير من السوريين، وربما هم أعداد أكبر من أن تحصى، للاستغناء عن البيع المباشر في المحال، ناقلين نشاطهم التجاري إلى صفحات التواصل الاجتماعي، هناك حيث لا ضرائب ولا جمارك ولا إيجارات باهظة ولا قوانين تقيدهم أو أشياء تكبّل حريتهم في استمرار تجارتهم.
بين أولئك الأشخاص ملهم عرفة، وهو تاجر من دمشق، يصف نفسه بأنّه ذات يوم كان يحظى بسمعة جيدة في السوق قبل أن تتدهور الأحوال خلال الحرب وتكبل الظروف الاقتصادية مبيعاتهم، مكرراً الأسباب ذاتها التي يذكرها كل التجار.
يقول: “لم أتخيل يوماً أن أصير بائع سوشيل ميديا، لم أتوقع أبداً بعد عقدين من النضال وبناء السمعة في السوق، ولكن لم يكن أمامي خيار آخر، فلحقت بمن سبقني منشئاً صفحات تجارية وموظفاً من جديد مسوقين، وحقيقةً دون مبالغة أنا أجني أرباحاً جيدة لا تخضع لأي ميزان ضريبي أو جمركي، وأرى أنّ هذا أفضل حل للاستمرار في العمل”.
صرخةٌ أخيرة
بالتزامن مع كل ذلك كان رئيس غرفة صناعة حلب، الاقتصادي الشهير فارس الشهابي، قد أطلق خلال الأيام الماضية صرخةً كبرى بعنوان: “الصناعة السورية تلفظ أنفاسها الأخيرة”، معللاً ذلك بالكثير من الأسباب، ومن أهمها أنّ تكلفة الكيلوواط الساعي في سوريا هي الأغلى عالمياً، وكذلك تكلفة المحروقات هي الأغلى عالمياً، وإلى جانبها تكلفة المواد الأولية المستوردة، محذراً من موت حتمي قريب. فإلى أين تسير سوريا، وكلّ مسؤول فيها يغني على ليلاه، ولا خطة اقتصادية محكمة تنتشل ما تبقى من الضياع؟