د. عبد الحق عزوزي
في مؤلفه الأخير والمتميز «إغراء القوة» الصادر عن دار «فايار» الفرنسية، يجول بنا غسان سلامة في ستة فصول ومقدمة جامعة وخاتمة، في عالم الأزمات والصراعات التي لا تنتهي… والترجمة الحرفية لعنوان الكتاب هو «إغراء مارس» (La Tentation de Mars) بالإشارة إلى «مارس» إله القوة والحرب في الميثولوجيا الإغريقية والرومانية، وهذا يذكرني بمجلة La Revue des champs de Mars (مجلة «حقول مارس») التي كان يُفرض علينا قراءتها لما كنا طَلَبة في السلك الثالث في «معهد العلوم السياسية» بتولوز الفرنسية، وهي مجلة علمية يكتب فيها كبار المنظرين الاستراتيجيين والعلاقات الدولية.
أما العنوان الفرعي للكتاب «الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين» فإنه يشير لا محالة إلى كتاب عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي ريموند أرون الذي يحمل أيضاً عنوان «السلم والحرب بين الأمم»، وهو كتاب أضعه شخصياً مرجعاً لا محيد عنه في مجال الصراعات والسلم لطلبتنا في الجامعات.
وغسان سلامة هو رجل دولة ودبلوماسي محنك تقلد مسؤوليات في إطار الأمم المتحدة، ولكنه، قبل هذا وذاك، أستاذ جامعي خبر عالم التدريس والتأليف ومناقشة رسائل الطلبة العلمية (الماجستير والدكتوراه)، وذاع صيته في فرنسا عندما ألَّف، سنة 1996، مع مجموعة من المؤلفين كتاباً تحت إشرافه سماه: «ديمقراطية من دون ديمقراطيين: سياسات الانفتاح في العالم العربي الإسلامي»؛ ففي الجامعة، صقل غسان سلامة شخصيته الفكرية والعلمية الأولى، ومكَّنت إقامته في باريس من التواصل مع شخصيات فكرية ومؤسساتية دولية وتكوين شبكة علاقات متنوعة، وقد عُيِّن مؤخراً عضواً بأكاديمية المملكة المغربية.
وهذا المسار هو ما أعطى طابعاً خاصاً لكتابه الأخير، لأنه يجمع بين دفتيه أفكاراً وإشكاليات هي نتاج التجربة الميدانية والفكرية للكاتب.
في نظر الكاتب، هناك انفلات، في الفترة الزمنية التي يدرسها لقواعد استعمال السلاح. وتبيَّن المتابعة وجود قدر كبير من احترام المعاهدات والقوانين الدولية في المرحلة الأولى من ثلث القرن الماضي، وتجاهل لها بدءاً من سنة 2003، أي مع حرب العراق.
ثم إنَّ هناك في نظره تعدداً بمصادر القوة ومراكزها، بمعنى وجود تعدد أقطاب لكنَّها غير متوازنة؛ فثمة دول بدأت تتحول إلى أقطاب حقيقية، مثل الصين أو الهند أو غيرهما من الدول، ولكن الولايات المتحدة لا تزال تتمتَّع بفارق متقدِّم. أميركا، على الورق، هي مِن دون أي شك القطب الأكبر والأول، ولكن ليس الوحيد.
وإذا أردنا فهم الموضوع جيداً من زاوية نقدية، فيمكن التوقف عند مسألة الصراعات والحروب عبر التاريخ، لنخرج بقناعة أن هناك خمسة أجيال من الحروب، وهي تعكس طبعاً تطوّر البشرية وكيفية بناء الدول والنظام الدولي والتحالفات، إلى غير ذلك. أما الجيل الأول من الحروب فيمكن أن نحقب له من 1803 إلى 1815 وهي حقبة اعتمدت فيها الحروب على القوة البشرية، مثل حرب نابليون، حيث قوة الجيوش بقوة أعدادها؛ وللذكر فإنَّ الحروب النابليونية تُستخدم في تعريف سلسلة الحروب التي وقعت في أوروبا خلال فترة حكم نابليون بونابرت لفرنسا. وكانت هاته الحروب امتداداً جزئياً للحروب الثورية التي أشعلتها الثورة الفرنسية، والتي استمرت خلال فترة الإمبراطورية الفرنسية الأولى؛ بدأت مع تجدد إعلان الحرب بين بريطانيا وفرنسا، بعد الاتهامات المتبادَلة لانتهاك الاتفاقيات المنصوص عليها في «معاهدة أميان»، وانتهت يوم 18 يوليو (تموز) 1815، بعد هزيمة نابليون النهائية في معركة ووترلو، وتوقيع «معاهدة باريس الثانية».
أما الجيل الثاني من الحروب؛ فهو وليد الثورة الصناعية، وظهور ما يسميه بعض الاستراتيجيين حروبَ المدافع والنيران، والحرب العالمية الأولى أفضل مثال على ذلك، ثم عندنا حروب الجيل الثالث، ويتميز بالحرب الخاطفة، كما هو شأن انتصار ألمانيا على فرنسا سنة 1940؛ لتظهر فيما بعد حروب العصابات التي طبعت بعضاً من فصول الحرب الباردة، كحركة التمرد في فيتنام، وهي سمة الجيل الرابع من الحروب، كما أنَّها حروب غير تقليدية. أما الجيل الخامس، فيتمثل في الحروب المعاصرة، وهي حروب هجينة تجمع بين مكونات الحروب التقليدية وغير التقليدية، ولعل أهم تجلٍّ لها يكمن في الحروب الإلكترونية.
أكتب هذا الكلام لأقول إنَّ العالم يعرف موازاة مع انفلات القوة وهن القوة؛ فالمحددات الحالية لنوعية الصراعات بدأت تتغير جذرياً عما ألفناه وعما نظَّر له كبار الاستراتيجيين التقليديين أو الكلاسيكيين للحروب، كالصيني القديم صن تزو، أو الجنرال البروسي كارل فون كلاوزفيت، الذي يشبّه الحرب بمبارزة على أوسع نطاق، ويقارنها بصراع بين اثنين من المتبارزين، ليستنتج من خلال ذلك أنَّ «الحرب عمل من أعمال العنف تستهدف إكراه الخصم علي فرض إرادة معينة»، فالعنف هو الوسيلة. أما الغاية فهي فرض الإرادة على الخصم، بمعنى أن الهدف من أي عمل عسكري هو هزيمة العدو أو نزع سلاحه. لذا نراه يسخر من النظرية القائلة بالحرب دون إهراق الدماء، فيقول: «لا تحدثونا عن قادة ينتصرون دون سفك الدماء».
أما اليوم، فلا يخفى على كل الاستراتيجيين أنَّ البيئة الدولية المعاصرة تغيرت، وأصبحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً، كما أنَّ انفلات ووهن القوة هما الطابعان اللذان يمكن أن نصف بهما هاته المرحلة الحاسمة من تاريخ البشرية، فالقوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى، مع ازدياد الفاعلين في الساحة الدولية… فلم تعد بعض الدول القوية كالولايات المتحدة الأميركية تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي، بل وحتى الثقافي، كما كانت عندها في السابق، ولم يعد للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية المدلول نفسه مع صعود اقتصاديات الدول الآسيوية التي تحتكر الملايين من براءات الاختراع، ومع اتساع رقعة الأزمة المالية والتنافس التجاري العالمي وتنامي الإجرام وعولمة الخدمات وتنامي دور الأفراد في العلاقات الدولية.