“اصنع حياتك بيدك”، “ابنِ مجدك”، “تفوق على ذاتك”، “حارب قدرك”، “ما الذي ينقصك عن أقرانك؟”، “كن أنت القصّة كلّها”، وإلى آخر المصطلحات التي لا تنتهي، وعرابوها أصحاب مهنة جديدة لعلّها لم تكن مألوفة في وقت سابق في سوريا. بعض هؤلاء الأشخاص ممتلئون ثقةً بأنفسهم على تغيير حيوات أشخاص آخرين، بينما تغرق حياتهم الشخصية في المشكلات والمنغصات والهموم والقصص العالقة، أقلّه هذا ما يمكن اكتشافه بالغوص في حياة كثير من أولئك المدربين الذين يمارسون ما يسمى بـ”لايف كوتشينغ”.
وفي التجارب العالمية، يعد الـ”لايف كوتشينغ” مفهوماً واسعاً للممارسات، حيث يقوم المدرب صاحب الخبرات والتعليم بتدريب الأشخاص المحتاجين لاستشارته في مجال خبراته على تخطي الصعاب، متخذاً من خبراته الحياتية ودراساته المعمقة سبيلاً لذلك.
لكن في سوريا، فإن المدربين في أغلبهم لم يخضعوا لتعليم منهجي متقدم كالذي حظي به أقرانهم في دول أخرى حول العالم، ما ترك الباب موارباً لمن يستحق تلك الصفة من عدمها.
أولئك “الكوتشز” وجدوا أنفسهم فجأة قادرين على صناعة أو التدخل في حياة أشخاص آخرين، ولكن هل ذلك حقيقي بالمطلق؟
يبدو من تجارب استمع إليها “النهار العربي” من قبل أشخاص خضعوا لتلك الدروس في مهارات الحياة أنّها لم تكن سوى علومٍ زائفة و”بيع كلامٍ” من وجهة نظر البعض، قوامه الجمل التحفيزية الإيجابية المغرقة في عموميتها؛ لتكون حتّى أقلّ بكثير مما يمكن أن يقدمه المعالج النفسي السلوكي لمريضه… فيما أكدَ آخرون أنهم حققوا استفادة جيّدةً على أيدي أشخاص مؤهلين ومدركين لما يفعلونه ويقدمونه، ولما صار يوماً تلو الآخر جزءاً من مجتمعات قريبة أو بعيدة عنهم.
من هو اللايف كوتش؟
تنطلق الكلمة من تعريبها الثقيل أولاً لتكون “مدرب الحياة”، لتطرح بالضرورة بنداً تساؤلياً آخر حول أجيال عاشت وبادت في سوريا دون مدرب حياة، وليكون ذلك المدرب المعتمد نفسه بنفسه أو من جهة غير معترفة المرجعية والشهادة هو المؤهل علمياً وعملياً ونفسياً وحياتياً ومن ناحية الخبرة والتركيز وجودة المضمون، ليؤهل آخرين على تحقيق الذات في الحالات التي ينطلق بها المدرب في عالمه الخاص دون مؤهل بارز لا يستند إلى علومٍ موضوعية دقيقة ضمن التوجه العالمي للمهمة… ولعلّ هذا هو جذر المشكلة في سوريا.
قد لا تنحصر مهمة المدرب – المفترضة – بذلك الجانب، بل تتعداه إلى تقويم سلبيات الشخص وتطوير إيجابياته، وصولاً إلى إصلاح الحال الزوجية بين المتزوجين، والحياة الأسرية والمسار الوظيفي وغيرها، لكن الحال في سوريا مختلف ما دام أي شخص قادراً على “صفّ الكلام” يمكنه أن يكون مدرباً. وهذا هو مثار جدلٍ آخر يشكو منه بوفرة أطباء علم النفس والمعالجين النفسيين المؤهلين. ولربما تستمر تلك الشكاوى إلى أن تصير ثقافة “مدرب الحياة” مرجعاً معتمداً قائماً على أسس وضوابط محددة ومشرّعة وواضحة في البلاد.
الجميع يريد الكلام
حاول “النهار العربي” عبثاً الوصول إلى مصدر علمي جامعي أو أكاديمي محكم يمنح تلك الشهادات للمدربين داخل سوريا حصراً، فلا شك بأنّها متاحة نسبياً في الخارج ومكلفة في آن، ولكن في كلّ مرّة كنا نصل طريقاً مسدوداً وشهادات مصدرها مراكز غالباً غير حائزة ترخيصاً مشابهاً، بعدما صار انتشار المهنة واسعاً. وبطبيعة الحال فإنً المتعالج لا يطالب مدربّه برؤية شهادته.
الناس تميل عموماً للكلام تحت ضغط أحوال الحرب ويومياتها، أو ما يسميه السوريون “فضفضة”، وهي في علم النفس ذاته ضرورية لأنّها تتيح لهم تنفيس هموم واسعة كانت تثقلهم بإخراج ما بجعبتهم ومواجهته عبر الحديث عنه. ولعلّ ذلك نفسه شائع في مدارس علم النفس الحديث عبر جلسات العلاج الجماعي التي ما زالت غير محبذة في سوريا لأسباب اجتماعية معروفة، رغم فعاليتها في علاج الإدمان على سبيل المثال.
ورغم أنّ الأمم المتحدة حضرت في سوريا مبكراً عبر مراكز العلاج النفسي المجاني، بالتزامن مع استحداث برامج سورية رسمية للعلاج النفسي المجاني أيضاً ضمن “مشروع الأمانة السورية للتنمية” وغيرها، إلا أنّ ذلك لم يكن كافياً بالمطلق، فالمدربون الجدد جاؤوا بصيغة جديدة مقدمين أنفسهم لمحتاجي الطاقة والتحفيز والدعم والدفع نحو الأمام، وكان ذلك جزءاً أساسياً من عناصر الجذب لديهم.
الأثر السلبي المطلق
ماذا لو قلنا في الوضع السوري لمهندس متخرج مع رتبة امتياز أنت “ناجح – عظيم – متفوق – رائد – متقدم – في داخلك كونٌ كامل – تحمل في روحك بذور العالمية – في دماغك ثمّة مخترع عبقري – في شيفرتك الوراثية هناك ملكٌ كبير”. وهي المصطلحات التي يستخدمها بعض المدربين لطلابهم الحالمين والمحتاجين لتلك الكلمات فعلاً، ولكن ماذا سيتغير؟
في العموم قد تكون تلك الكلمات دافعاً لتحقيق النجاح، لكن في الوضع الداخلي السوري المتأزم، وبدون تقديم نصائح حقيقية لتحقيق النجاح؛ سيذهب ذلك المهندس – بعدما لبس تاج الملك – ليبحث في مكان واثنين وعشرة، وإن حالفه الحظ فسيظفر بوظيفة لا يعادل مرتبها الشهري في أحسن الأحوال ثلاثين دولاراً. ولكنّ مدرّبه قال له غير ذلك، وتلك مشكلة أخرى ستخلق داخله، فهل هو ولد ليكون عظيماً فعلاً أم هذا قدره النهائي في بلدٍ مزقته الحرب؟ وهكذا، سيكون المدرب قد خلق صراعاً نفسياً داخل المتدرب بدل أن يحلّه، وبذا يكون تخطى دوره من المساعدة إلى الإيهام، وهذا صلب الفرق بين المهنة منهجياً وأكاديمياً أو تجريبياً.
المشكلة بالمدرب أم التدريب نفسه؟
قصة المهندس تلك واقعيةٌ تماماً، وتلك كانت جزءاً من معاناة عاشها المهندس محمد خير بعدما خضع لدروس في الحياة من مدربة “متخصصة” حسبما قالت، مؤمناً بأنّ التغيير يبدأ من الداخل كما هو مفترض، لكنه خُذِل أمام أول موقف واجهه، مكتشفاً أنّ الدروس التي دفع الكثير لأجلها لم تكن أكثر من وقت ضائع.
يقول: “منذ كنت طالباً وأنا أعرف وضع سوق العمل ومصاعبه، وبعد تخرجي فوراً قررت أن أحظى بطاقةٍ كبيرة قبل أن أبدأ أول خطوة في طريقي، وهذا ما فعلته. وبالفعل فإنّ مدربتي لم تقصر وأعطتني كل طاقة ممكنة، ولكنّها في الوقت ذاته أعطتني كمية أملٍ زائفٍ لا تصدق وأوهمتني أنّ طريقي مفروشٌ بالورود، لأكتشف أن طريقي معبد بالإسفلت الساخن، لا أدري هل ستدفعني الحياة يوماً لتكرار التجربة؛ ولا أعرف إن كان خياري بالمدربة عينها هو الخاطئ”.
نجح العلاج
من ناحيتها، الطالبة الجامعية مها جريدات كانت تعاني مشكلات أسرية تتوسع يوماً تلو آخر مع محيطها وداخل منزلها، لم تشأ أن تذهب إلى طبيب نفسي لتبتعد عن الأدوية، وكذلك أسقطت الأمر على المعالج النفسي الذي سيركز على علاجها، فيما تعتقد أن المشكلة في محيطها وليس في نفسها، فاختارت الاستعانة بمدربة حياة.
وحول تجربتها تقول: “وصلت الضغوط عليّ إلى حد لا يُحتمل، بالمقام الأول كنت أريد أحداً لأحادثه بكل وضوح وصراحة، وليمنحني نصائح مثالية وخالية من الأخطاء والضغائن وتثبت أنّي على حق، وترشدني لأمثل طريقة أعامل بها من حولي. أعتقد أنّ مدربتي حققت لي ما أريده، وجعلتني شخصاً أكثر إيجابية وتقبلاً وسماحةً وهدوءاً”.
دفاع هادئ
بدورها ترفض “الكوتش” مرح عثمان كل ما يقال ويشاع ويتهم به عملهم، واصفةً إياه بالعلاقة الإنسانية المحضة الضرورية التي تجمع طرفين دون مصالح مريبة، وعلى أن تكون نهاية الجلسات هي خاتمة الأهداف التي يرغب المتدرب بالوصول إليها ويكون راضياً عنهاً ومسؤولاً بالذات عن تطبيقها.
وفي هذا الشأن توضح: “إذا كان المتدرب يحمل جينات سيئة، وحاولت تدريبه على الخير وضبط النفس، ثم قام بارتكاب جريمة، فأنا لا أتحمل المسؤولية، فكلام المدرب أو المدربة يقوم على مخاطبة الفطرة البشرية السليمة الآمنة والحرة والمستقرة والوديعة، ليحفز نشاطها ونموها بعيداً عن الأفكار السيئة… ولكن بالنهاية نحن لا نتحمل مسؤولية أفعال المتدرب. وأكثر ما يسيء لعملنا هو أولئك المدربون غير المثقفين أو المؤهلين أو المعتدين على المهنة”.
وتضيف: “حين يأتي المتدرب يكون يعرف تماماً ما يريده من مدربه، لا يمكن أن تقوم العلاقة على التشابك والاكتشاف والمغامرة، ثمّة هدف واضح لكلا الطرفين ليتم العمل عليه، لا أفهم حجم الهجمة ضدنا، ليعتبروا أننا أناس مهمتنا فقط سماع مشكلات الآخرين وتقديم حلول مثلى لهم تكون مليئةً بالطاقة والحيوية، فاللايف كوتشينغ مهنة عالمية بدأت تصير رائدة ولها مكانة مهمة جداً، ولكن المشكلة هي في الداخل السوري وليست في المهنة”.
رفض قاطع
المعالج النفسي السلوكي بدر الخطيب يرفض من جانبه وجود ما لا يعتبره من الأساس مهنة، وهو “تدريب الحياة”. متسائلاً “كيف يمكن لشخص بلا قدرات أكاديمية على حل المشكلات أن يقدم ما يصفه بالحلول النهائية العظيمة؟ هذا علم قائم، وفي العلم لا تلاعب ولا اجتهادات. تلك نصائح أمهات تخطئ وتصيب، نصيحة جارة أو زملاء بين بعضهم البعض، أما العلم فقد حدد لنا ماذا نفعل في كل حالة”.
يقول الخطيب: “ماذا لو كانت الحالة التي أمامنا تعاني فصاماً في الشخصية أو اضطراباً في الهوية أو المرض الثنائي القطب أو الوسواس القهري؟ هل يصح أن أقول لمريض في ذروة الذهان: أنت قوي وجبار وافرح وامرح؟ هكذا أحرض لديه نوبة ذهانيةً أعنف قد تنتهي بانتحاره، هذه علوم “أحياء شعبية” كتلك التي يصفها لك العطار بديلاً من الطبيب، وفي تلك الوصفة قد يكون دمارك النفسي”.
ويتابع: “لا أحد يمكنه الحدّ من انتشار ذلك التدريب، لكن يجب أن يكون كما هو عالمياً؛ وأن يكون محمولاً على العلم ونظرياته. وفي سوريا ليس هناك مرجعية واضحة لكثير من المدربين، ما يجعلهم ينزلقون مع متدربيهم نحو مشكلات إضافية بدلاً من الحلول”.
فقط اشرب زهورات
مصدر مطلع في “وزارة الصحة” أشار لـ”النهار العربي” إلى أنّ تلك المهنة مرفوضة بسبب عدم إدراجها في المقررات العلمية أو افتتاح مراكز دولية معنية بمنح شهاداتها وتأهيل مدربيها، لذا فهي غير مرخصة أو قابلة للترخيص وممنوعة المزاولة، ويبقى مكان وجودها الأبرز هو وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تضعف الرقابة إلى حدّ الانعدام.
المصدر أوضح أنّ بعض مدربي المهنة قد يقدمون نصائح عامة للغاية لا تضرّ ولا تنفع، ولكنّ بعضهم الآخر قد تصل به الأمور إلى حدّ تقديم نصائح خطيرة للغاية، محتلين مكانة الطبيب النفسي والمعالج النفسي في المجتمع.
المصدر أكد أنّ تزايدهم الملحوظ قريباً يبدأ بتشكيل مأزق، ما دام حصر تعدادهم شبه مستحيل وكذلك تعداد روادهم، الذين وبحسبه سيفضلونهم مع الوقت على الأطباء الفعليين نظراً لإمكانية غسل عقل المتدرب وإيهامه بالكثير من الأمور المرتبطة بتحفيز الذات والتي ستنعكس عليه بصورة سلبية كحال “المجاملات” في العمل، أو كما يصف المصدر بقوله: “كما لو أنّ شخصاً يعاني مرضاً خطيراً فيجامله الطبيب بقوله لست تعاني شيئاً، فقط اشرب زهورات”.
بعد كل ذلك، يبقى أنّ سوريا حالة خاصة في دخولها المتأخر مضمار “مدربي الحياة”، فهي ما زالت تحبو في هذا المجال ليستند مدربوها إلى خبرات شخصية لا تسندها أي خبرات أكاديمية وشهادات دولية معترف بها كما هي الحال في معظم الدول التي قبلت بذلك الاختصاص، وأولته عناية مهمةً ومتقدمة لناحية تمكنه من رفع السوية النفسية الجماعية في المجتمع، وهو بالضبط ما يحتاجه السوريون منذ بدأت حربهم قبل 13 عاماً وحتى اليوم.